ميسرة صلاح الدين: الشعر كائن عنيد ومتمرد

ميسرة صلاح الدين
ميسرة صلاح الدين

حوار: مروة مجدى

ميسرة صلاح الدين شاعر وكاتب مسرحى ومترجم، صدر له العديد من الدواوين والمسرحيات الشعرية والغنائية.

حصل على عدد من الجوائز المحلية والعربية. تُرجمت بعض قصائده إلى اللغة الإنجليزية والإيطالية والإسبانية. له إسهامات متنوعة فى مجال الترجمة حيث ترجم عددًا من الأعمال الأدبية الهامة، منها رواية «شوجى بين» الفائزة بجائزة البوكر العالمية للكاتب الأسكوتلندى دوغلاس ستيوارت و«رسائل ستيفان زفايج»، ورواية «الناقوس الزجاجى» للشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث.

أبرز مؤلفاته: «جراج الأوبرا»، «مائة عام على وعد بلفور»، «ترام الرمل»، «حرب الردة»، «الأسد الحلو»، «باندورا»، «الورد البلدى»، «ابن الصبح»، «أرقام سرية»، الذى تُرجم مؤخرًا إلى الإسبانية وغيرها.

كيف كانت بدايتك مع الشعر، وكيف تولد قصيدتك بشكل خاص؟


منذ طفولتى المبكرة، شعرت بوجود طاقة كامنة داخلى، جهلت مصدرها. تأثرت بشكل كبير بالأغانى التى عُزفت فى منزل العائلة، وخاصة تلك التى حملت فى طياتها كلمات ذات سجع مميز ومعان عميقة. ورغم صغر سنى آنذاك، وعدم قدرتى على فهم معانى تلك الأغانى بالكامل، إلا أنها أثارت داخلى شعورًا غريبًا وجذابًا. لذلك، حاولت محاكاة تلك الأغانى باختيار مواضيع تناسب عقلى الطفولى. لم أكن قد التحقت بالمدرسة بعد، فاستخدمت شرائط الكاسيت لأسجل عليها قصائدى الطفولية بصوتى. ولم يشفع لى شغفى بالشعر الهروب من العقاب - إذ كان والدى يعيد تسجيل الأغانى على تلك الشرائط - وفقدت تلك القصائد. ومع ذلك، ظلت تلك التجربة عالقة فى ذهنى حتى اليوم.

بخصوص ميلاد القصيدة، فإن الشعر كائن عنيد ومتمرد، لا يلتزم بوقت أو موعد. فى بداياتى، حاولت أن أصطاده فى ظلمة الليل أو بجانب شاطئ البحر، انطلاقًا من كونى مولودًا فى الإسكندرية. ومع الزمن، أدركت أن سطوته تتجاوز تلك الأساليب البدائية. لذا، أصبحت أمنحه الحرية الكاملة ليختار هو الوقت والمكان لزيارتى. 

لايمكننى تحديد مصادر الإلهام ومنابع القصيدة بدقة، لكن توجد أفكار معينة تهيمن علىَّ لفترات طويلة، وتتسلل إلى قصائدى بشكل تدريجى، بالوقت والطريقة التى تختارها هى. ويبقى دورى كشاعر فى إعادة التفكير وإعادة الكتابة، بعد انقضاء زيارة الشعر الأولى.

تُرجمت العديد من أعمالك إلى الإنجليزية والإيطالية والإسبانية، ومنها ديوانك «أرقام سرية».. فكيف ترى الأمر؟
«أرقام سرية» أول عمل لى يتم ترجمته بالكامل إلى لغة أجنبية، وهى اللغة الإسبانية. والحقيقة أن هذه التجربة، بقدر ما جلبت لى سعادة غامرة، فقد أورثتنى أيضًا حالة من الترقب والقلق، وهو شعور لا أستطيع تحديد أسبابه بدقة، كأنى فى انتظار شىء مبهم لا يمكن تحديده أو فهم طبيعته بوضوح.



ما يطمئننى أن الديوان صدر بترجمة رصينة على يد المترجمة «رحاب وهدان»، التى تمتاز بالجمع بين الخبرة العملية فى مجال الترجمة والخبرة الأكاديمية كباحثة فى الأدب والشعر الإسبانى.

ما أكثر الموضوعات التى تشغلك فى قصائدك
فى البداية، كنت أجمع القصائد التى كتبتها فى فترة زمنية معينة وأنشرها مجمعة كديوان شعرى، ولكن تغيرت نظرتى تمامًا للشعر بدءًا من ديوان «أرقام سرية». وأصبح الديوان من وجهة نظرى كتلة شعورية وإنسانية متصلة، ذات قصائد تربطها صلة حتى لو كانت غير مباشرة أو محسوسة بشكل صريح. وتطورت تلك النظرة بالتدريج للشعر ووظيفته بالنسبة لى ليصبح فى المقام الأول معبرًا عن تجربتى الحياتية والخاصة، وفى نفس الوقت متماسًا مع تجارب إنسانية مختلفة أتفاعل معها أو أتأثر بها. 

تفعل القصيدة ما يحلو لها، أظن أن هذا هو الوصف الأمثل لعلاقتى بالشعر. يمكن للشاعر أن يمتلك لغته وأدواته، وأن يكتب بشكل منتظم، وأن يستحضر آليات معينة لتركيب صور ومعانٍ موسيقية أو نثرية على حد سواء، ولكن الشعر فى جوهره يختلف كثيرًا عن ألعاب اللغة والخيال. ولذلك، لا أفكر فى الشعر ولا أسعى لكتابة القصيدة، إلا إذا طرقت بابى وترصدت خطاى.

لماذا تقول إن ديوانك «ابن الصبح» تجربة شعرية شاقة؟
لأنى أمضيت ما يزيد عن خمسة أعوام فى محاولة اصطياد لحظاته الشعرية، وما يزيد عن عامين فى إعادة قراءته وتنقيحه. شعرت بتأثر شديد عند كتابة بعض قصائد الديوان للدرجة التى كانت تمنعنى لفترات طويلة من إعادة قراءتها مرة أخرى. حاولت من خلاله التعبير عن الإنسان العادى البسيط فى مواجهة المدينة وعالمها الرمادى القاسى، مستخدمًا فى ذلك مجموعة من الأحداث والشخصيات من التراث الإنسانى الدينى والأسطورى التى تعتبر كذلك جزءًا من تكوين المدينة التى يغلفها الطابع الحديث ولكنها غارقة فى الموتيفات المتعلقة بالميثولوجيا القديمة. حرصت أن تكون التجربة ذاتية وصادقة، مما جعله متماشيًا مع مشاعر وأفكار القراء.

كتبت العديد من المسرحيات الشعرية. كيف تقيم هذه التجربة الثرية، خاصةً مسرحية «الورد البلدى» التى تُعد أول مسرحية شعرية تؤرخ للثورة المصرية؟
أؤمن أن الشعر والمسرح وجهان لعملة واحدة، أو كائن أسطورى واحد له وجوه مختلفة يختار حسب حالته النفسية والشعورية للنص الصورة التى يتجلى بها. ولذلك أرى أنه من الطبيعى منذ قديم الأزل أن يرتبط أسماء الشعراء بنصوص المسرح، وترتبط أسماء القصائد بكتاب المسرح. بعد قيام الثورة المصرية، تداخلت فى رأسى الأفكار والأصوات بشكل غير مسبوق، وشعرت أن قصيدتى لن تعبر عن هذا التزاحم والاختلاف فى الرؤى والأفكار، وأنه يجب على التخلى عن قناعاتى وأنحيها جانبًا فى مقابل أن أعبر عن كل ما يحدث حولى، مستعيرًا شخصيات وأصواتاً ومواقف درامية تفجرت بشدة بفعل الحراك السياسى الوليد. وكان القالب المسرحى بالنسبة لى هو الشكل المناسب لتحقيق تلك الرؤية ومحاولة التعبير عما يحدث.

واعتبرت من وقتها أن كل فكرة وحالة شعورية تبحث بنفسها عن القالب الإبداعى الذى يشبهها ويجيد التعبير عنها. يتساوى فى هذا بالنسبة لى الشعر والمسرح الشعرى والمسرح الغنائى وغيرها من أشكال الكتابة الإبداعية، فالعبرة فى النهاية لا تقاس إلا بالصدق الفنى وجودة المحتوى وليس بشكل القالب وتقنيات كتابته.

لك تجربة فى مسرح الحكى الغنائى.. كيف تراها؟
شغفت بسماع الحكايات منذ الصغر، وكبرت معى تلك العادة وتطورت حتى أصبحت «ثقافة الإنصات» من العوامل الهامة التى تساعدنى على فهم الناس والحياة. ولذلك أصبحت حريصًا على التعامل مع أنماط مختلفة لأفهم طبائعهم وعاداتهم وثقافاتهم. وبمرور الوقت، وباختلاف الشرائح الاجتماعية والثقافية التى أحرص على التعرف عليها، والأماكن التى أزورها، أصبحت لدىَّ حصيلة من المواقف والأحداث والحكايات ارتكنت عليها فى ذلك المشروع الذى اعتمد فى جوهره على حكايات درامية ومواقف متخيلة، ولكنها مستمدة من الواقع. وقد بدأت ذلك المشروع بمسرحيات حكائية غنائية عن الإسكندرية، وأصبحت الحكايات مرتبطة بأماكن معينة وبتفاعل الأشخاص داخل تلك الأماكن وعلاقتهم بها.

ضمن مشروع ترجمتك، ملفات عن العديد من شعراء أمريكا مثل إدنا سانت فنسنت ميلاى، ولانجستون هيوز، وروبرت فروست.. ما أبرز سمات الشعر الأمريكى شكلاً ومضموناً، وما أبرز القضايا التى يتناولها؟
اخترت هؤلاء الشعراء لما تحمله قصائدهم من قيم إنسانية واجتماعية مختلفة تمثل المجتمع الغربى بشكل عام والمجتمع الأمريكى بشكل خاص. فبينما لانجستون هيوز، كشاعر من أصحاب البشرة السمراء، تشغله قضايا التفرقة العنصرية والتمييز على أساس عنصرى، وتتميز لغته بأنها دارجة وتتماشى مع إيقاعات أغانى الجاز والبلوز التى واكب ظهورها نهضتها الموسيقية، فإن روبرت فروست هو أحد الشعراء المقربين من السلطة ممن يعبرون عن المجتمع الأمريكى بمنظور مختلف وعن فئة أخرى من أصحاب الأعمال وملاك الأسهم والمزارع وطبقة البرجوازية والنخبوية بلا تكلف ولا تصنع. وتقع إدنا سانت فنسنت ميلاى، كشاعرة نسوية، فى منطقة شعورية وكتابية مختلفة حيث تهتم بالمشاعر الأنثوية والقضايا الخاصة بالمرأة وتعبر عنها بلغة شعرية رشيقة وصور غير متكلفة.

ما الذى شدك إلى ترجمة رواية «شوجى بين»، الفائزة بجائزة البوكر الإنجليزية للكاتب الإسكتلندى دوجلاس ستيورات؟
تعتبر رواية «شوجى بين» من الأعمال الهامة والمؤثرة التى ترجمتها، حيث تسلط الضوء على حياة الطفل «شوجى بين»، فهو يعيش مع والدته «أغنوس»، مدمنة الخمر فلا تستطيع أن توليه الاهتمام الكافى، مما يضطره للاعتناء بها وبصحتها. تدور أحداث الرواية فى إسكتلندا خلال فترة كساد اقتصادى واضطرابات عمالية. ما يميز الرواية، فى نظرى، هو أن كل هذه الأحداث تُروى من منظور الطفل برغم تعقيداتها وخصوصيتها الشديدة. كما تحرص الرواية على إبراز الثقافة الإسكتلندية، وطريقة التفكير والمعيشة الخاصة بالطبقات العمالية والمجتمع الصناعى، بالإضافة إلى تقديم صورة قوية عن عالم الخمور والإدمان. تصنف الرواية كسيرة ذاتية لكاتب الرواية نفسه «دوغلاس ستيوارت»، فقد كانت حياته شبيهة بحياة بطلها.

ما مشروعك القادم.. وما طموحاتك الأدبية؟
أعمل حاليًا على عدة مشروعات أدبية مختلفة. أنا فى مراحل الكتابة الأولى لديوان جديد أتعامل فيه مع الحياة والبيئة المحيطة من منظور مختلف. كما انتهيت من مشروع يضم عدة مسرحيات يربطها خيط درامى واحد وأنا بصدد نشره. وأقوم فى نفس الوقت بإجراء بحث عن تاريخ الأغنية المصرية، أتمنى أن أنتهى منه قريبًا. ولكن، يمكننى أن ألخص طموحاتى فى أن أستمر فى تحد نفسى وأنجح فى التطور وتقديم الجديد، فما زلت فى البداية والطريق طويل ولا ينتهى.