خارج النص

هكذا تُبنى الأوطان

د. أسامة السعيد
د. أسامة السعيد

لا أعتقد أن الأمر جاء من قبيل المصادفة، وحتى إن كان القدر قد وضع الأحداث فى ذلك الترتيب فإن الأمر لا يخلو من دلالات واضحة ورمزية لا تخطئها العين، فالنشاط الرئاسى خلال الأسبوع الماضى بدأ بحضور الرئيس عبد الفتاح السيسى تدشين أول «سحابة وطنية» لتخزين وإدارة البيانات، وهى استثمار مستقبلى فائق الأهمية، يضع مصر بين الدول القادرة على المشاركة فى حفظ وإدارة البيانات الضخمة، والسيطرة على مواردها المعلوماتية، فضلاً عن فتح مجالات الاستثمار العالمى فى هذا المجال الواعد.

وتضمن ذلك اللقاء حديثًا أبويًا من القلب حول وظائف المستقبل، وضرورة أن تهيئ الأسر المصرية أبناءها لمواكبة ذلك التطور، إضافة إلى إصرار الدولة على المضى قدمًا فى نهج تطوير التعليم ليكون ملبيًا للتحولات التى يشهدها العالم.

وكان ختام الأسبوع بمشاركة الرئيس فى احتفالية عيد العمال، التى شهدت تأكيدًا رئاسيًا على تقدير الدولة لعمالها، فسواعدهم هى أمل الوطن، وجهودهم وقود البناء والتعمير الذى يقود البلاد نحو مستقبل آمن ومستقر.

وما بين الحدثين دلالة واضحة بالربط بين العلم والعمل، وهما شعار «الجمهورية الجديدة»، وهما فى الوقت ذاته الأدوات الحقيقية التى تُبنى بها الأوطان، ومن يتأمل تجارب دول العالم التى استطاعت أن تخلق من تحدياتها فرصًا، يدرك أنها لم تستطع ذلك إلا عبر مسار واضح من الاعتماد على العلم وبناء الكوادر الوطنية ذات الكفاءة، وبالتوازى مع ذلك الانطلاق فى مسار جاد من العمل المتواصل الذى لا ينقطع من أجل التحديث والتطوير.

لا أريد أن أبتعد كثيرًا لسرد تجارب مغايرة لظروفنا وتحدياتنا، ولكن يدهشنى بشكل لافت ذلك التشابه بين الظروف التى واجهتها كوريا الجنوبية منذ عقود وبين ظروفنا، سواء فيما يتعلق بالنمو السكانى الهائل، وتحديات الفقر وعدم امتلاك الكثير من السكان لمقومات الاندماج فى سوق العمل، فماذا فعلت كوريا الجنوبية لتكون على ما هى عليه اليوم؟
ببساطة استثمروا فى التعليم والصحة، وأطلقوا العنان لإعادة تأهيل بنيتهم التحتية باعتبارها موردًا اقتصاديًا دمرته الحرب فى خمسينيات القرن الماضى، وأسسوا جيشًا قويًا يحافظ على استقلال واستقرار البلاد، ويتحول عند الضرورة إلى سند وظهير داعم للدولة فى مختلف القطاعات، إضافة إلى معالجة التضخم عبر التوسع فى الإنتاج المحلى وتنمية الصادرات الوطنية، وتحفيز ذلك التصدير بمناطق خاصة ودعم متواصل للمنتج المحلى الذى يستطيع النفاذ لأسواق العالم.

استغرقت كوريا الجنوبية ثلاثة عقود كاملة من العمل المتواصل والدؤوب لكى تصبح تلك المعجزة الاقتصادية التى نراها وتدهشنا اليوم، لكنها خلال تلك الفترة لم تتنازل عن مسار العلم والعمل، ولم تحد عن الطريق، بل كانت لديها رؤية واضحة وإصرار لا يلين على مواصلة النجاح والعمل مهما كانت التحديات وفى مواجهة أى ظروف.

الصين تجربة أخرى علينا أن نعيد قراءتها اليوم، فتلك الدولة هائلة التعداد السكانى حافظت على معدل نمو اقتصادى يفوق بأضعاف معدل النمو السكانى، ولم تلتفت لأي محاولات لحرفها عن مسار البناء وامتلاك أدواتها الوطنية للتطور رغم كل مساعى الغرب لعرقلتها، والآن هى قطب عالمى كبير اقتصاديًا، وقريبًا ستكون قطبًا استراتيجيًا ينافس على امتلاك قمة هرم النظام الدولى.

هكذا تُبنى الأوطان، برؤية واضحة، وأدوات جادة لتنفيذ تلك الرؤية، وإرادة صلبة على مواصلة العمل تحت أى ظرف، وفى مواجهة أي عقبات، وأتصور أن السنوات العشر الماضية أثبتت صحة الرؤية التى بدأتها البلاد بعد ثورة 30 يونيو 2013، كما اختبرنا طيلة ذلك العقد صلابة الإرادة السياسية لمواصلة العمل والتمسك بالنجاح.

وأعتقد أننا أمام تحدٍ يفرض علينا ضغوطًا أكبر لمضاعفة العمل والاستمرار فى نهج التحديث الشامل للدولة، وهو تحدى الزمن، فقد ضاع من الوقت الكثير ونحن نواجه أزمات داخلية بالغة التعقيد، واضطرابا إقليميا غير مسبوق، وكوارث وتوترات دولية تضع العالم على حافة خطر حقيقى.

ومع ذلك استطعنا - رغم كل التحديات - أن نهزم الإرهاب ونواصل بناء بلدنا، ونستعيد زخم دورنا الإقليمى، ونوسع من دوائر تحركنا عالميًا، كل هذا دون أن نفقد البوصلة، أو نستسلم ليأس يتملك كثيرين بيننا ومن حولنا، بل كان التحدى والإصرار سلاحنا للنجاة، وأداتنا للمواجهة.

اليوم.. من حقنا أن نتأمل ما أنجزناه فنزهو ونفرح، وأن ننظر إلى المستقبل فنضاعف الكد والعمل، وأن نشهد ما يجرى من حولنا فنحمد الله على ما أنعم به علينا من استقرار وتماسك فى ظل موجة عاتية من الأزمات، فى ظل قيادة سياسية تجيد قراءة ما يجرى بعمق، ولا تغامر ولا تخاطر بمستقبل الوطن، بل تواصل البناء بالعلم والعمل، وكانت الكلمة التى استهل بها الرئيس السيسى عهده مع المصريين عندما قال «لا أملك لكم سوى العمل، ولا أطلب منكم سوى العمل»، ولا يزال باقيًا على العهد محافظًا عليه.

كل عام ومصر آمنة مستقرة .. كل عام وعمال مصر هم قوتها القادرة على بناء المستقبل وتحقيق الأحلام.. كل عام وشعب مصر فى رباط إلى يوم الدين.