عاجل

يوميات الأخبار

أنا أقاوم.. إذاً أنا موجود

علاء عبد الوهاب
علاء عبد الوهاب

«غير أن ما يستوقف المتابع للمشهد الغزاوى، إبداع الفعل المقاوم، لأكثر من مليونى غزاوى، خلال كل أيام العدوان الممتد منذ ٧ أكتوبر، وحتى الآن»

ماذا كان يحدث لو قاوم آدم وحواء وسوسة إبليس، ولم يقتربا من الشجرة المحرمة؟

ما كان ليخرجا من وطنهما الأول: الجنة، لكنهما وعيا الدرس، وأدركا أن الشيطان لهما عدو مبين، فتعلما ضرورة المقاومة لوسوسته.

وبقليل من التأمل؛ فإن المرء يدرك أن نزول آدم وحواء إلى الأرض، كان قدراً أراده الله، لغاية سامية هى عمارة الأرض.

ومنذ بدأت الرحلة كانت المقاومة صنو الوجود على الأرض.

كانت شرطاً لمواجهة قسوة الطبيعة وتحدياتها، وضمانة لاستمرار الحياة وتطورها، بل يمكن الذهاب لأبعد من ذلك، بالقول إن المقاومة كفعل كان حتمياً لبناء الحضارة، وبالمقابل تطور مفهومها كلما تقدم الإنسان خطوة باتجاه أشكال أرقى للحضارة، وبالتوازى مع مراحل التاريخ الإنسانى تناسلت للمقاومة صور متعددة تلائم كل تحدٍّ يُستجد، لتذليله، وتجاوزه، والانتصار على أى معوِّق أو عقبة، فكانت المقاومة بمثابة وسيلة لا غنى عنها لتمضى مسيرة التقدم الإنسانى عبر مراحل الحضارة منذ إرهاصاتها الأولى وحتى اليوم.

..... ..... ..... .....

كان مبكراً جداً، وصف أجدادنا الأوائل بأنهم كائنات ناطقة، أو مفكرة، ضاحكة أو عاقلة، أو ذوات ذاكرة، أو تاريخ، لكنهم بالقطع كانوا كائنات مقاومة، لذا فليس من قبيل المبالغة أن يقول أحد أجدادنا أن شعاره: أنا أقاوم.. إذاً أنا موجود!

ويبدو أن المقاومة صارت أقرب إلى «چين» تتوارثه الأجيال، ولكل غايته.

تداعت الفكرة، على هذا النحو، ومارست لوناً محبباً من السيطرة على فؤادى، فكانت هادياً لى أثناء تأملى للمشهد فى غزة، ومعاناة أهلها الصامدين، الذين مارسوا المقاومة فى أرقى وأنبل صورها، مصحوبة بمعاناة ليس لها مثيل فى أى تجربة إنسانية أخرى، مهما توغلنا فى مطالعة صفحات التاريخ القريبة والبعيدة.

جذوة المقاومة

المشهد الغزاوى دفعنى بقوة للوقوف على جذوة المقاومة الفلسطينية، فى نسختها الأولى، فكانت ثمة مفاجأة، لقد سبقت بكثير ما كان مُتصوراً فى أذهان الكثيرين.

كان ذلك فى العام ١٨٨٦، حين هاجم الفلاحون المغتصبة قراهم من جانب الصهاينة، فى الخضيرة وملبس من اغتصبوا أرضهم، وكان أن فرضت السلطات العثمانية آنذاك قيوداً مشددة على الهجرة اليهودية، ومن ثم ارتقى الوعى بخطر المشروع الصهيوني، منذ ذلك الحين، وبدأت من وقتها تعبئة أصحاب الأرض ضد الخطر الآتى، الذى بدأ زحفه.

بعد أكثر من ثلاثة عقود، وفى العام ١٩١٩، جاء ميلاد «جمعية الفدائية» لمقاومة المشروع الصهيوني، وتعددت فروعها، من القدس إلى يافا ونابلس، ثم غزة والخليل، وكانت أن انطلقت على أيدى أعضائها انتفاضة أبريل١٩٢٠، ومنذ ذلك الوقت توالت الانتفاضات، وصولاً إلى ثورة البراق١٩٢٩، وبعدها ثورة الكف الأخضر٢٩ - ١٩٣٠، وانتفاضة أكتوبر١٩٣٣، ثم الثورة الكبرى بين٣٦ - ١٩٣٩، من ثم لم تكن انتفاضتا نهاية ثمانينيات القرن الماضى ومطلع الألفية الجديدة بدعاً، وإنما جاءتا فى سياق تاريخى مضىء.

هكذا، فإن أكثر من مليونى غزاوى أبناء وأحفاد أجيال عركت الانتفاض والثورة، منذ استشعروا الخطر مبكراً، فى نهايات القرن التاسع عشر، وعلى مدى القرن العشرين، وحتى العقد الثالث من القرن الحالى.

على مدى عقود، كان الشعار المرفوع، والممارسة الفعلية لتطبيقه: «أنا أقاوم.. إذاً أنا موجود».

التحدى والاستجابة

صفحات مسطورة بحروف من نور، فى كتاب عصى على التزييف، واليوم يُضاف إليها صفحة جديدة عمرها، من عمر عملية ٧ أكتوبر٢٠٢٣، التى كانت ذروة جديدة للمقاومة الفدائية المسلحة، انطلاقاً من أرض غزة، لتوقظ ضمير العالم من سباته الطويل، وإعراضه عن حق الشعب الفلسطينى فى الحرية والاستقلال.

لم تنقطع وتيرة المقاومة المسلحة، تخبو وتشتعل، لكنها ظلت قائمة فى وجه آلة الاحتلال الغاشمة المتوحشة.

غير أن ما يستوقف المتابع للمشهد الغزاوى، إبداع الفعل المقاوم لأكثر من مليونى غزاوى، خلال كل أيام العدوان الممتد منذ ٧ أكتوبر وحتى الآن.
وكأن جميع أهل غزة من أصغر طفل، إلى أكبر شيخ، رجالاً ونساءً، الجميع دون استثناء استوعبوا نظرية التحدى والاستجابة.

كان التحدى عاتياً ضارياً، صاغه محتل لا يحترم قانوناً، ولا يرعى قواعد أخلاقية، ولا يقيم وزناً لقيمة إنسانية، ثم إن موازين القوى تعمل فى صالحه، فى ظل امتلاكه لآلة دمار، حولت السلاح التقليدى فى أثره إلى ما يتجاوز أسلحة الدمار الشامل فى فعلها!

لكن الاستجابة كانت مذهلة حقاً، كانت استجابة ناجحة ناجعة بأى معيار يتم القياس عليه، وكلما اشتد التحدى، عُظمت الاستجابة، باستثارتها طاقاتٍ فوق طاقة أى بشر، وحتى عندما باتت بدورها تحدياً للمعتدي، ليدخل الصراع غير المتكافئ مرحلة غير محتملة، فإذا بالتحدى فى طوره الجديد يحمل فى طياته قوة دافعة مهولة.

لعلها قوة الضعف، فى مواجهة ضعف القوة!

الفارق هنا، أن المقاوم يرفض الاستسلام، ويمتلك إرادة الحياة، بينما المعتدى يمارس القتل المنهجى بدم بارد، وكأن ثقافة العنف المفرط هى كل تراثه، وعلى الجانب المقابل فإن المقاومين العزل يصرون على التشبث بالأرض لأنها عِرْض، انطلاقاً من ثوابت لا تحتمل الفصال أو أنصاف القيم، لذا فإنها عصية على التطويع أو الكسر، متسلحين باستعداد فطرى للاستغناء عن كل شيء، وأى شيء، إلا أرضهم وهويتهم.

«لن نبرح الأرض»

لا خيار أمام أهل غزة سوى التمسك بالأرض، ينزحون من الشمال إلى الوسط، ثم يتكدسون فى الجنوب، ورغم كل التهديدات والقصف الذى لا يهدأ ليل نهار، من البر والجو والبحر، فإن مئات الآلاف ما زالوا فى الشمال والوسط، فلا مجال لتخاذل أو يأس، فهذا الوجود يعرقل مخططات التهجير الطوعى أو القسرى.
وعندما تستضيف إحدى القنوات التليفزيونية أى غزاوى أو غزاوية، فثمة اتفاق عام: «لن نبرح أرضنا، وأى حديث عن هجرة طوعية هراء، وهزل وكذب لا مجال لحديث عنه مهما اشتدت آلة الحرب الجهنمية فى بطشها، ومهما دفعنا من شهداء، ومهما نال قرانا ومدننا من تدمير، فليست تلك المرة الأولى، لكننا لن نكرر النكبة مرة أخرى».

الرسالة واضحة: آفاق المشروع الصهيونى مسدودة، رغم ما يملك من قدرات تكفى لإطالة أمده، لكن حكم التاريخ أنه سوف يمضى كما مضى المشروع الصليبي، وكما غربت شمس الاحتلال الفرنسى فى الجزائر، وكما كان مصير الحكم العنصرى فى جنوب أفريقيا التى تصدت لفضخ الكيان الصهيونى أمام المحاكم الدولية، وكانت يوم أن حكمها العنصريون حليفاً للصهاينة، لكنهم سقطوا، وسوف يسقط صنوهم مهما طال الأمد.
إنها الرسالة/ الشعار:

«أنا أقاوم.. إذاً أنا موجود»..

ضفيرة نادرة

عبقرية المقاومين تتمثل فى إبداع يقاوم الموت الماثل فى كل خطوة، وفى كل لحظة فى التكيف مع حياة بلا ماء، أو كهرباء، أو دواء، فى ظل حرب تجويع مجرمة على مرأى ومسمع من عالم بلا ضمير، لأن ثقافة المقاومة الأصيلة تشكل العقل الجمعى للغزاوية، لتصنع «ضفيرة نادرة» من الإصرار، العزم، الصبر،...،...، إنه الصمود الأسطورى الذى يجعل الالتصاق بتراب الأرض وأطلالها وركامها سلوكاً لا يتطلب بذل جهد، رغم إجهاده لأى بشر بعيداً عن سماء غزة.

ربما تستدعى من الذاكرة نماذج للصمود الأصفر فى ڤيتنام، والأسمر فى جنوب أفريقيا، والأبيض فى الجزائر، تنصهر جميعها لتصنع نموذجاً فريداً فى غزة.
المقاومون السلميون فى غزة يؤكدون بصمودهم الرفض التام لتحويل جزء من شعب فلسطين إلى لاجئين مرة أخرى، أو نازحين من جديد، مؤكدين حقهم فى الوجود تحت سماء دولة فوق أرضهم المسروقة السليبة، وإحباط كل مؤامرة تستهدف حرمانهم من هذا الحق بعد٧٥عاماً من الصبر والنضال و... و... والمقاومة التى تضمن وحدها أن الحق لا يسقط بالتقادم.

إنها الرسالة/ الشعار:

«أنا أقاوم.. إذاً أنا موجود»..

المفتاح لا يزال فى يدها

ثمة إبداع فى إعلان الوجود، ومقاومة أى محاولة لتصفية القضية، وفض العلاقة بين الأرض وأهلها، فثمة أشياء، لا تُباع ولا تُشترى مهما كانت الإغراءات والبدائل، لكن هناك أشياء تبدو صغيرة فى قيمتها أو حجمها، لكنها فى جوهرها تترجم معانى للمقاومة، وللوجود.

نظرة غضب فى عين طفل، وقفة كبرياء، على قدمى فتاة، انتظار حامل لقدوم وليدها الذى تأمل أن يكبر ليقاوم كما أبيه وجده، زفاف تحت القصف، ورشة لتعليم الرسم، فصل فى خيمة حتى لا ينسى المقاوم الصغير مدرسته، لعبة بدائية فى يد طفل احتفالاً بالعيد، بعد صلاة بجوار أطلال مسجد و.. و..

مشاهد تؤكد أن المقاومين الذين لا يحملون سلاحاً، أقوى ألف مرة من أولئك الذين يمتطون الزوارق التى تقصف من البحر، والطائرات التى تلقى بقنابلها من الجو، ومن يتحصنون فى مركباتهم المدرعة ويصبون نيرانها على المستشفيات والمخابز والمساجد والكنائس و.. و..

ثم ذلك المشهد المفعم بالأمل: تلك السيدة العجوز التى لا ترحل إلا وفى يدها مفتاح بيتها القديم فى قرية بعيدة، قبل أن تقطن فى مخيم بغزة.
إن المقاومة تمد الحياة بمعانيها وغايتها ومساعيها وآفاقها، وشعار كل مقاوم:

«أنا أقاوم.. إذاً أنا موجود»..

ومضات:

الالتصاق بالأرض أسمى صور النضال الصامت، لمن يتدبر.

حرمان المظلوم من مقاومة الظالم، لا يعنى سوى الإقرار بمشروعية الظلم.

صاحب الحق عملاق مهما أثخنته الجراح، والمغتصب قزم مهما كان مدججاً بالسلاح.

لافتة «البقاء للأقوى»، تعنى أن البشر يهيمون على وجوههم فى أحراش الغابة.

«مقتل فرد مأساة، مقتل الآلاف تاريخ».. شعار لا يتبناه إلا سفاح فاجر.

صاحب الأرض يلتصق بها مهما عُظم الثمن، أما المستعمر فيفر مع بزوغ الخطر.

موكب الشهداء الطويل صرخة متواصلة تدوى دوماً، فى وجه صُناع الزمن الردئ.

طوبى لمن يواجهون «الحرب على الإرادة».. بـ»حرب إرادة» لا تلين.

أوهام القوة وإن تجبرت، غيامات يستحيل مهما ثُقلت أن تحجب شمس الحق.

فى المسافة بين النضال الواعى، والوعى النضالى يبدع المناضل الأصيل.

القوة قد تفرض الاستسلام إلى حين، لكن العدل وحده يشيد سلاماً دائماً، إنها حكمة التاريخ.

البشر صنفان: من يعيشون على حافة الحياة، ومن «يعششون» فى قلبها، وهؤلاء وحدهم يصنعون التاريخ.