حديث الأسبوع

الأسباب الحقيقية والجهات المستفيدة من اختلالات النظام الغذائى العالمى

عبد الله البقالى
عبد الله البقالى

وإن حاول تقرير حول هدر الأغذية  الصادر عن الأمم المتحدة أن يعزو أحد أهم أسباب نقص الغذاء فى العالم إلى ظاهرة هدره، فإنه لن ينجح فى إبعاد التهمة عن الأسباب الحقيقية المسئولة عن التمدد المتواصل لظاهرة المجاعة فى مساحة الكرة الأرضية.

التقرير يلقى باللائمة على الشركات التى تقدم خدمات الطعام مثل المطاعم والمقاصف والفنادق، ويحملها مسئولية هدر 28 بالمائة من الأطعمة سنة 2022، ويتهم تجارة التجزئة مثل الجزارة وبيع الخضر بتضييع 12 بالمائة من الطعام، فى حين يعتبر المذنب الأكبر فيما يهدر من غذاء هى الأسر المتسببة فيما نسبته 60 بالمائة من الطعام المهدر، بما يصل إلى 631 مليون طن فى سنة واحدة. ويشير معدو التقرير إلى أن أكثر من مليار طن من الغذاء تعرض للهدر، وهو ما يمثل خمس المنتجات الغذائية المتاحة فى الأسواق وأن القيمة المالية لهذا الهدر تجاوزت تريليون دولار.

وتفنن معدو التقرير فى استعراض مخاطر هدر الطعام، الذى لا يحصرون خطورته فى الجانب الأخلاقى المتمثل فى هدر طعام يوجد أشخاص آخرون فى أمس الحاجة إليه، ولكن أيضا فى تداعيات ما يحدث على البيئة والزراعة، بحيث يكشف التقرير أن هذا الهدر مسئول عن انبعاثات تتسبب فى ارتفاع درجة حرارة الكوكب أكثر خمس مرات من تلك الناجمة عن تحليق الطيران، ويتطلب تحويل مساحات شاسعة إلى أراض زراعية تنتج محاصيل لا تؤكل أبدا وأن هذا الهدر يعادل ما تنتجه حوالى 30 بالمائة من الأراضى الزراعية فى العالم، وأن هذا الهدر يعتبر أيضا محركا رئيسيا لتغير المناخ، إذ ينتج ما يصل إلى 10 بالمائة من انبعاثات الغازات الدفينة، وأنه ثالث جهة مفرزة لهذه الغازات بعد الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين.

رغم هذا الصك المكتظ بالتهم الثقيلة، فإن هدر الطعام لا يمكن أن يكون المسئول الرئيسى والمسئول الوحيد عما يعترى النظام الغذائى العالمى من اختلالات بنيوية عميقة، وإن كان من ضمن الأسباب إلا أنه ليس الوحيد ولا الأهم، لأن هناك عوامل وأسبابا أخرى متسببة فى هذه الاختلالات، وهناك جهات معلومة مسئولة مسئولية كبرى ومباشرة.

الأمم المتحدة اعترفت غير ما مرة فى تقاريرها المتخصصة باستمرار مؤشر المجاعة فى العالم فى الارتفاع، إلى أن قارب المليار شخص. وهى نفسها التى أقرت مرارا «بأن العالم لا يزال بعيدا عن المسار الصحيح فى جهوده نحو تحقيق الهدف الطموح الذى وضعته الأمم المتحدة للقضاء على الجوع بحلول سنة 2030».

وهى نفسها من خلال منظمة الأغذية والزراعة التى كشفت على أن نحو 29٫6 بالمائة من سكان العالم، أى بما يعادل 2٫4 مليار شخص، عانوا فعلا من انعدام الأمن الغذائى بصورة معتدلة أو شديدة، وهو ما يزيد بالضعف عما كان عليه الأمر قبل سنوات قليلة. وهى نفسها، وهذه المرة عبر منظمة اليونيسيف، التى نبهت إلى أن ثمانية ملايين طفل دون سن الخامسة يعيشون فى بلدان ذات دخل محدود يواجهون خطر الموت بسبب الهزال الشديد، وأشارت إلى أن عدد الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية يزداد بحوالى 260 ألف طفل كل سنة، بمعنى طفل جديد يعانى من سوء الغذاء فى كل ثانية.

الحقيقة، أن الهدر الغذائى قد يكون فعلا مسئولا عن جزء من اختلالات النظام العالمي، وهو الهدر الذى يكشف عن جزء مهم من إشكالية هذا الهدر، ويتعلق بالتوزيع العادل للغذاء، بحيث يعانى البعض من التخمة الكبيرة بما يضطره إلى التخلص من الغذاء الزائد، بينما يتضور حوالى مليار شخص من الجوع فى العالم لأنه لم يجد لقمة يسد بها رمقه. بينما الأسباب الحقيقية ترتبط بتوزيع الغذاء العالمى وعلاقة الأوساط الاقتصادية والتجارية به، وبالتحكم فى سلاسل الإنتاج والتسويق بالعالم.

وهكذا لم تسلم جائحة كورونا مثلا من الاستغلال الاقتصادى والتجاري، إذ ما توارت الجائحة إلى الخلف حتى اتجهت أسعار جميع المواد الاستهلاكية والخدماتية والخاصة بالبناء والصناعة إلى الارتفاع المهول فى جميع الأسواق العالمية، رغم انتفاء الأسباب الطارئة التى كانت تبيحها، بما أعطى مبررا مقنعا للمتشككين فى الجائحة نفسها والذين اعتبروها وسيلة استعملتها القوى الاقتصادية الكبرى لتسويق اللقاحات وللزيادة فى الأسعار.

وهى نفس الأوساط التى انتفعت بشكل كبير من الحرب الروسية الأوكرانية بأن تعمدت مرة أخرى الضغط على زر التحكم فى أسعار المواد الاستهلاكية والخدماتية والزيادة فيها بشكل كبير جدا، وهى الأوساط المستفيدة من باقى النزاعات المشتعلة فى العالم، بأن تسارع إلى فرض الزيادة فى أسعار التأمين عن المخاطر وفى أسعار النقل وغير ذلك كثير مما ينعكس على الأسعار، وهى الأوساط المستفيدة أيضا من تدنى المؤشرات الاقتصادية العالمية من قبيل التضخم والعجز فى الميزانيات والقروض وخدمة الديون وغير ذلك كثير.

وهذه هى الأسباب الحقيقية المسئولة مسئولية مباشرة عن اختلالات النظام الغذائى العالمي، والجهات المستفيدة من ذلك التى تراكم الثروات من تجويع الناس وتفقيرهم وإذلالهم.