وفاء السعيد.. المستقبل كغرفة انتظار

لوحات من الفنان جميل شفيق
لوحات من الفنان جميل شفيق

لا تجد لجسدها هنا امتدادًا ولا تتقاسم ابتسامات ودودة مع البقال أو الصيدلى، الجو هنا خانق.. الدقائق تمر بطيئة وطويلة.. اشتاقت لسماع أصوات الباعة الجائلين والمارة بينما هنا «كل واحد فى حاله».

لم تجد ما تتسلى به ويخرجها عن شعورها القاسى بالوحدة ، وقفت فريدة بجسدها القصير الممتلئ أمام مسكنها الجديد تتلمس نسمة هواء، ولكن لم تجد أمامها سوى صحراء ممتدة تجلب اللهيب فى الصيف وتجمد أطرافها فى الشتاء.

اقرأ أيضاً | المتوكل طه .. غَزّةُ؛ يَجْرَحُهَا المَاءُ!

كان أسوأ شتاء مر عليها فى «آخر الدنيا» كما أطلقت عليه وهى فى رحلتها لنقل أثاثها من منطقة وسط البلد المحببة إليها، ويبدو أنه سيكون أسوأ صيف.

كانت تروى لصديقاتها الوحيدة التى ساعدتها فى خطوة الانتقال من السكن المشترك للسكن المستقل، أنها مهاجرة للقاهرة الجديدة وأنها لو تملك القرار لما كانت غادرت وسط البلد بناسها وعقاراتها التى كانت تقضى وقتًا فى تصوير شرفاتها ومداخلها بكاميرا التليفون وتشاركها مع أصدقائها الافتراضيين على فيسبوك، فتحصل على تفاعل كبير.

كانت تقول إن وسط البلد تسكنها وليست هى التى تسكن فيها.
شعرت لوهلة أنها مُقيَّدة وحبيسة رغم أن المسكن الجديد فسيح وأنه يخصها وحدها ليس كباقى الأماكن التى سكنتها مشتركة ولم تكن تشعر فيها بخصوصيتها، هنا تستطيع أن يكون لها غرفة نوم كاملة بعد غرف كثيرة سكنتها إن اتسعت للسرير لا تتسع لدولاب كبير، وإن استوعبت الاثنين سوف تطرد نصف الكومود إلى خارجها وتستعمل أسفل السرير مخزنًا لأدوات المطبخ الخاصة بها بعد شجارات كثيرة مع بنات تستعمل أدواتها وتتركها بلا غسيل أو ليست مغسولة جيدًا.

هنا سوف تخصص غرفة كاملة لمكتبها التى ظلت حبيسة الكراتين والأكياس، سيكون لها مكتب تذاكر وتكتب عليه واللاب توب الذى سلخت حرارته أفخاذها سوف تجد متسعًا يوضع عليه بكرامة تليق بصحفية بلغت منتصف عقدها الثالث، ومع ذلك لم ينجح المسكن الجديد بكل إمكانياته من أن يزيل عنها شعورها بالغربة والتقيد.

حتى حارس العقار هنا ليس بوابًا بل فرد أمن بزى رسمى يجلس خلف مكتب فى مدخل العمارة وأمامه دفتر كبير كأنه شرطى تنقصه الأصفاد يعد عليها أنفاسها ويعزز الشعور بأنه سجن وليس مسكنًا.

أسلمت جفنيها لنوم متقطع مع طلوع نهار أول أيام شهر أغسطس، بعد أن قضت ليلتها معذبة متململة تتقلب كدجاجة مشوية على سيخ الحاتى ما بين حرارة الجو والانقطاع المتكرر للكهرباء، تستجير برشة ماء على وجهها المنهك، فتنزل المياه من الحنفية كالمُهل المغلى يشوى الجلود كأنها تنصب من جهنم رأسًا!.. فتشتعل رأسها ويضيق نفسها وينخفض ضغطها وتتمدد على البلاط الأبيض العريض، كفسيخة مملحة حان وقت تقديمها للأكل مع عصرة ليمون وكثير من البصل الأخضر ورغيفين عيش بلدى مفقع فى صالة شبه خاوية من الأثاث إلا من كنبة مكسورة تَدَغْدَغ عضمها بعد أول جلستين اشترتها أونلاين من على أحد صفحات فيسبوك، ولم تفتش كثيرًا فيها فلم يفسح لها انتقالها إلى منزل جديد فى وقت ضيق مجالاً لممارسة حرفتها فى البحث الدقيق عن شىء سوف تنفق فيه نقودها وتفاصل البائع حتى تطلع روحه فعندما يقبل بصفقتها مستسلمًا تضىء وجهها ابتسامة ظافرة كأنها ربحت مليون جنيه فى البخت وليس ما ربحته مجرد فارق ضئيل من عشر أو عشرين جنيهًا، هذا الشعور القصير بالانتصار يرضى رؤيتها عن نفسها كبنت «جدعة» وأنها ليست لقمة طرية مستساغة بعد أن مات أبواها، هى تعرف كيف تدبر شئونها، وتفاصل البائعين، وتفاوض السماسرة. لعنت قطع الكهرباء، بينما تستريح المروحة الوحيدة التى تمتلكها عن دورانها اللانهائى وتنقلها من غرفة لغرفة حسب وجود صاحبتها داخل المنزل الذى تسكن فيه وحيدة منذ عام ونصف. 

تناقلت وكالات الأنباء وصفحات السوشيال ميديا وبوستات الأصدقاء أن هذا الصيف هو الأكثر سخونة منذ مليار عام! فقالت فى داخلها وهى تلوى شفتيها يمينًا ويسارًا: كِملت!.. وانقسمت آراء الناس حول الطقس كما هى منقسمة على كل شىء منذ سنوات. قرأت لصديقة لها (من فريق محبى الشتاء وحزب كارهى الصيف) رأيًا شاركتها فيه أن الصيف يكون جميلًا إذا ما امتلكت فيلا بتكييفات وحمام سباحة، أو شاليه على شاطئ وبالطبع لا تنقطع عنهما الكهرباء! علقت دكتورة من صديقاتها تقضى نصف العام فى الخارج وتهبط للقاهرة فقط فى زيارة قصيرة أشهر الصيف: الصيف مش وحش انتوا اللى مش فى البحر وقاعدين فى المدينة! لا أدرى لماذا خطرت ببالى مارى أنطوانيت!.. الصيف فصل لا يصلح للفقراء.. درجات الحرارة المرتفعة القاسية تتحد مع غلاء الأسعار والدخل المحدود لتصنع حبلًا تطبق به على خناق المساكين الذين يتوسلون نسمة هواء واحدة تلفح وجوههم المزركشة بحبات العرق مع الرطوبة العالية والتصاق أجسادهم وتخبطها فى زحام مدينة اجتثت أشجارها فتركت منها للأشعة الفوق بنفسجية، فالسماء مثقوبة، والجيوب أنظف من الصينى، والتضخم أصاب كل شىء. وكلٌ يغنى على حمام سباحته!

 الفقراء أيضًا يسبحون فى عرقهم الذى يصبح مع انقطاع الكهرباء وتوقف المراوح عن تدوير الهواء الساخن مرقهم. لو كانت فى مسكنها القديم فى وسط البلد لكان أتاها صوت البائع المرابض محتميًا بظل بلكونتها ببضاعته من حزم الجرجير والخُضرة المسخسخة الذابلة يرش عليها بين حين وآخر كوز مية ينعنشها ويقسم بالعظيم لكل مار ومارة أنها صابحة لولا الحر، يرفع توسلاته إلى السماء بنفس النبرة التى ينادى بها على بضائعه: ارفع مقتك وغضبك عنّا يارب. فيردد المجذوب سلامة الدعاء بمبخرته التى تزيد الجو اختناقًا، لكن كان صخبهم ونسًا.

منذ أكثر من شهرين ومع قدوم الصيف تحددت حركتها وكذلك المروحة بين غرفتى النوم والمكتب.
آخر مرة خرجت من باب البيت كانت تزور طبيبها النفسى الذى ضاعف من جرعة دوائها المضاد للاكتئاب بعد أن أكدت له أن علامات الاكتئاب باقية لم تذهب!.. عدَّل من وضع نظارته الطبية على منخاره المقوس، شاب فى منتصف الثلاثينيات أو أوشك على دخول نادى الأربعين، هكذا خمّنت لأنها لم تجرؤ أبدًا أن تسأله عن عمره وتدير دفة الحديث بينهما لأحاديث شخصية، هذا ضار بالعلاج، وخطر فى المطلق!.. لم تكن معجبة به كما سيظن إن هى سألت، لكن لديها رغبة فى تبادل حديث حقيقى وودى مع أى إنسان من دم ولحم، لا جدران بيتها، ولا صور من رحلوا من عائلتها، ولا أطياف من أحبتهم وتركوها كسقط متاع خلفهم قبل أن يرحلوا بلا عودة، ولا مؤلفين موتى وأحياء تحدثهم من خلال كتبهم المرصوصة والمتراكمة على الحائط المقابل لمكتبها وربما يكون ذلك الجزء الأكثر ازدحامًا فى منزلها الخاوى إلا من غرفة نوم والضروى من الأجهزة الكهربائية. رمقها بنظرة فسرتها على أنه ضيق بها وبحالتها المزمنة وأكدها بقوله البارد المقتضب كأنه مل من تكرار نفس المحادثة: ليه؟! حصل إيه جديد؟!

فأجابت بحدة تحاول جذب انتباهه لتخرجه من بروده الذى آلمها نفسيًا: الدوا معملش حاجة غير أنه ثبت مزاجى، بقيت لا بفرح ولا بحزن، لا بضحك ولا بعيط، زى الممثلة اللى عاملة بوتوكس ومش عارفة تعمل بوشها أى تعبير، نايمة ليل ونهار، وإن صحيت بحط أى حاجة بسيطة فى بقى حتى الجوع مبقتش أحس بيه، وبرضه مش بخس بالعكس بتخن.

قاطعها: أيوة طبيعى ما انتى مش بتتحركى. أنهى جملته سريعًا قبل أن يزداد انفعالها لمقاطتعه لها.. اتفضلى كملي.

لا خلاص خلصت. سادت فترة صمت قصيرة فتابعت: أنا تعبانة، مش بتحسن، فقدت الرغبة فى كل شىء، مش عاوزة أشوف ناس، ولا أخرج مش من باب بيتى من باب أوضتى، ومش أتحرك للشارع مش قادرة حتى أتحرك من على الكرسى اللى قاعدة عليه.. كده الاكتئاب اتعالج؟!.. أنا مش حاسة إنى عملت شىء فى حياتى.. مكنتش سعيدة فعلًا.. مكنتش مفيدة فى أى عمل.. ولا عزيزة على أى شخص.. وعندى شعور قوى إنى هموت ومش هسيب حاجة بعدى.

حافظ على البرود فى نبرته التى لم تتغير، ووجهه ظل جامدًا لم يبدُ عليه أى علامة من علامات التأثر لألمها الذى أخرجته دفعة واحدة فى انفعالها بكلماتها التى كانت مثل طلقات الرصاص.

سألها بنبرة تقريرية جافة، كأنه مذيع فى برنامج صباحى: بتشوفى المستقبل إزاى يا فريدة؟ 
سكتت فجأة كأنها فقدت صوتها أو أن رأسها فرغ فجأة من الكلمات. 
مش عارفة. المستقبل بالنسبة لى أوضة انتظار كبيرة فى مطار مليان كراسى وناس رايحة وجاية بتعدى عليا من غير ما تشوفنى أو تلاحظ حتى وجودى، كلهم مستعجلين وبيجروا بسرعة إما مسافرين أو راجعين، كلهم عندهم مكان يروحوا له، وناس فى استقبالهم بورد وأحضان، لكن أنا مستنية هناك منتظرة.

منتظرة إيه يا فريدة؟ 
مستنية تحصل لى أى حاجة فى حياتى! 
أسبل جفنيه من خلف النظارة وهو يكتب روشتة جديدة بنفس نوع الدواء ولكن بجرعة أعلى.. اتفضلى أشوفك كمان شهر.. وكأنه شعر أنه خذلها، هو أيضًا فى عجلة من أمره! أو لم يؤدِ واجبه معها فى تلك الجلسة المكلفة جدًا التى تقتطعها من ميزانية أكلها وشربها الضئيلة ولولا توسط صديقتها الوحيدة التى تعرفه الدكتور ما كان ليخفض لها الكشف ويعطيها زيارتين بثمن زيارة، فشيعها نحو باب الخروج بنصيحة تهدج لها صوته كأنه أخ أكبر أو أب: اخرجى اتمشى كل يوم، ونظمى أكلك ممكن تقعى كده من قلة الأكل خصوصًا ضغطك بينزل، خلى بالك من نفسك يا فريدة.. لسه قدَّامك حاجات كتيرة فى الحياة تعمليها.. عند الجملة الأخيرة شعرت أنه يلعب دور الأم.

منذ ذلك الحين مكثت فريدة فى المنزل كوطواط يعيش فى الظلام الدامس، جعلت من انقطاع الكهرباء حالة دائمة، فقط تستعمل المروحة عندما يعود التيار، وتبقى الأضواء مطفأة، تسير على أطراف أصابعها كأنها لا تريد أن يزعج وجودُها أحداً! ولم تنفذ أى من نصائح الدكتور الشاب، كأنها تعانده لا تعاند نفسها.
 
تصيبها نوبات متكررة من القلق، يضيق نفَسَها وتتكوم على البلاط الأبيض العريض «شبه بلاط المستشفى» كما أطلقت عليه فى أول زيارة لها للشقة وهى تعاينها، كانت هذه الشقة مخصصة لعيادة، كما قال لها السمسار، يتسبب لها ذلك فى نوبات هلع، تتخيل نفسها مريضة فى مستشفى أو أنها ستسقط هنا ميتة ولن يشعر بها أحد!. 

كانت تستعمل كل الحيل لتؤجل فكرة نزولها إلى الشارع، كانت فكرة النزول نفسها تخيفها، الغلاء بيغير أخلاق الناس بحس بالخوف وسطهم، هكذا همست فى مكالمتها الأخيرة مع صديقتها الوحيدة التى انقطع الحديث بينهما أيضًا، وكانت تحثها على الخروج.

اعتمدت على وجبة واحدة فى اليوم لا تتغير، تنفق عليها من مبلغ بسيط متبقٍ فى بطاقتها الائتمانية.

تتجاهل رسائل البنك المتكررة تذكرها بتراكم المديونية، بينما يشعرها الإنفاق الافتراضى أنها ليست نقود حقيقية تستحق السداد وأن ما لديها لن يستوعب المديونية المتراكمة. 
إلى أن حدث ما كانت تخشاه!.. رفض البنك عملية الدفع على آخر أوردر. 

وأصابتها نوبة الهلع من جديد.
هى الآن مضطرة لأكثر من فعل فى نفس الوقت.
أن تستحم، وترتدى ملابس الخروج، وتخرج فعلًا! 
هل هذا معقول؟! لماذا لا تبقى الميزانية مفتوحة وتعيش حياتها تصرف من البطاقة الائتمانية على وجبتها الوحيدة فى اليوم التى لا تأكل غيرها!
 لابد أن تخرج لتسحب نقوداً «كاش» من ماكينة الصراف الآلى.
منذ يومين فقط تغيرت سياسة شركة الكهرباء فى تنظيم عملية الانقطاع المتكرر للكهرباء بدعوى تخفيف الأحمال على الشبكة فأصدرت بياناً بأن الانقطاع سوف يحدث على «رأس الساعة» وأهابت بالمواطنين عدم استخدام المصاعد فى تلك الأوقات! 
هذه معادلة رياضية تحتاج عالم رياضيات أو فيزيائى ليحسب بدقة الوقت المتاح للنزول! هل أسهل لها أن تلقى بنفسها من الدور العاشر فتصل أسرع وتستريح وتخفف أحد الأحمال وتتخفف هى الأخرى من كل أحمالها نوبة واحدة.
ظلت لساعات جالسة على الأرض لا تقوى على النهوض من مكانها وفكرة النزول الاضطرارى تزيد من شعورها بالاختناق والحصار.
تشجعت فنهضت فجأة رغم شعورها بالغثيان والدوار كأنها تسقط فى بئر عميق. 
دفعت نفسها دفعا لترتدى نفس التيشيرت القطنى الذى ترتاح له فى هذا الجو فيصبح زيها الرسمى الوحيد فى كل مرة تخرج فيها، فلم تعد مقاييس الموضة تعنيها وخصوصاً فى ذلك الوقت. وقفت خلف الباب مترددة كأنها بفتحها لمقبضه سوف تنفجر فى وجهها نيران جهنم. وترتها الفكرة لحظة وما إن فتحت الباب ببطء لم تجد وراءه شيئًا مخيفًا فعادت تتنفس بصورة طبيعية رغم معدلات الرطوبة العالية التى تعيق التنفس الطبيعى إلا أنها ارتاحت لفكرة أن خارج البيت لم تجد شيئًا مما تصورته ينتظرها خلفه.
شغلتها أفكار نوبة الهلع التى كانت تزدحم فى رأسها عن إجراء حسابات «رأس الساعة» الدقيقة، فما أن نزلت بالمصعد دورين حتى انقطعت الكهرباء، وليكتمل حظها الجميل وقف المصعد بين حائطين فأصبحت حبيسة علبة مصمتة من الخرسانة المسلحة حتى صرخاتها لن يسمع بها أحد. 
ارتجف كل بدنها ولم يصدر عنها أى صوت استغاثة فقد أيقنت أن هذا غير مجدٍ فحولت كل صرخاتها إلى داخل جسدها فاهتزت كل خلية فى جسدها كأنها على جهاز الإنعاش تنتفض بالصدمات وسال العرق منها شلالاً متدفقًا بصورة أكثر غزارة فتبللت ملابسها كأنها واقفة تحت نافورة ماء، وتكومت فى أرض المصعد ضامة ساقيها إلى صدرها كأنها جنين لا يريد أن يخرج من بطن أمه.
ظلت على هذا الوضع لفترة من الزمن غير معلومة. 
وما إن عاد التيار الكهربائى، فتح فرد الأمن باب المصعد فوجدها كالنائمة فصرخ صرخة تردد صداها فى أرجاء مدخل العمارة، لكنَّ أحداً من السكان المغلقين أبوابهم على أنفسهم فى علبهم الخرسانية المكيفة لن تحركه تلك الصرخة التى لن تخترق بالطبع الأبواب المصفحة والنوافذ السميكة محكمة الإغلاق حتى لا يطير فريون التكييف ويتسرب لهم صهد الصيف الحارق.