آخر صفحة

حامد عز الدين يكتب: «والله يعلم وأنتم لا تعلمون»

حامد عز الدين
حامد عز الدين

أسلفنا فى مقال سابق توضيحا مهما لمعنى العبادة التى تحمل تأكيدا معنى حرية الاختيار، وهى الأمانة التى حملها الإنسان ورفضت السموات والأرض والجبال حملها. الفعل عبد يعنى أطاع وهو يملك العصيان. فالفعل عبد اسم الفاعل منه «عابد»، والعابد فقط هو حامل الأمانة وجمعه عباد «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا».

والفعل ذاته «عبد» اسم الفاعل منه عبد وجمعه «عبيد». وبتعقّب كلمة العباد والعبيد فى القرآن الكريم نجد أن كلا من عباد وعبادى تكررت 96 مرة، وكلمة عبيد 5 مرات فقط فى لحظة مخاطبة الله عز وجل لهم يوم القيامة «ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ»، أى فى مواضع تتعلق بيوم القيامة حيث يكون الإنسان قد فقد إمكانية الاختيار أساسا وصار عبدا يفعل ما يؤمر. 

وتأكيدا لمفهوم الحرية، سنجد أن الفعل «كتب الله»، بمعنى فرض، لا يستخدم سوى للفرائض المكروهة بالنسبة للنفس، فالصيام لا تحبه النفس ولا القصاص. والملفت أن الفرض فى كل هذه الفرائض يأتى مشمولا أيضا بالاختيار. تعالوا إلى الآيتين فى سورة البقرة «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184)».

بداية ففى المرض والسفر تسقط الفريضة عن الإنسان، وترجأ لأيام أخر من دون فدية. أما الذى يجد مشقة فى أداء الفريضة ويتحملها بصعوبة «يطيقها» . وفى اللغة العربية أطاق العملَ الصعب، طاقَه، قدر عليه، احتمله بمشقّة. وهذا يسقط الفريضة مقابل فدية «إطعام مسكين»، مع التأكيد - بالطبع - على أن الصيام خير.

وعليه يصبح تفسير الآية: «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا» بأنها تعنى من شاء الله له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر غير مستساغ عقلا، وإلا ما وصف الكافر بالظالم الذى يستحق العقاب. فلا يستحق العقاب إلا من اختار الكفر بملء إرادته.

ثم نأتى إلى الفريضة الثانية المكروهة من قبل النفس وهى القصاص. فى الآية 178 من سورة البقرة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِى الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى  فَمَنْ عُفِى لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ». فالقصاص كتبه الله «الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى»، لكنه سبحانه جل شأنه ترك خيارا آخر وهو العفو واتباع المعروف كتخفيف من المولى سبحانه على الإنسان وتقديم الرحمة على العدل.

أما الفرض الثالث الخاص بكتابة الوصية فى الآيتين 180 و181 من سورة البقرة: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)». فالوصية لمن ترك له خير فرض.  

وجعل المولى سبحانه إثم تبديلها على من يقوم بذلك. ثم فصّل الله تعالى المواريث فى سورة النساء تفصيلا دقيقا لتكون هى المعيار ما لم تكن هناك وصية: «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا(11)».  

ونختم بالآية 216 من سورة البقرة «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ». ففرض القتال هو لوجه الله تعالى ونصرة لدينه. وفى قوله تعالى: كُتب عليكم القتال وهو كره لكم، الكتابة كما مر مرارا ظاهرة فى الفرض إذا كان الكلام مسوقا لبيان التشريع، وفى القضاء الحتم إذا كان فى التكوين، فالآية تدل على فرض القتال على كافة المؤمنين لكون الخطاب متوجها إليهم إلا من أخرجه الدليل مثل قوله تعالى فى الآية 61 من سورة النور: «لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ» وغير ذلك من الآيات والأدلة التى تمنح الحرية فى عدم أداء فرض القتال لمن لم يكن مؤهلا لتطبيق الفرض فى حالة المرض. فالله سبحانه وتعالى يعلم وأنتم لا تعلمون. 

وإلى الأسبوع المقبل ومزيد من التدبر فى كتاب الله الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إن كان فى العمر بقية .