يوميات الاخبار

فَجر الضمير.. فُجر اللا ضمير!

علاء عبد الوهاب
علاء عبد الوهاب

يبدو أن ما كسا وجه الغرب من حضارة، لا يعدو كونه غلالة رقيقة من مظاهرها، لكن فى العمق، فإن الجوهر فاضح عندما تترجمه سلوكيات، ما زالت تنتمى إلى صيادى العصر الحجرى!

شخصياً لم يعترينى صدمة، أو أصابنى دوار الدهشة، ولم يداخلنى ـ للحظة ـ أى استغراب مما اقترفه الكيان الصهيونى من جرائم غير مسبوقة فى تاريخ البشرية الموثق، ثم ما رافقها من تأييد ـ إلى حد المشاركة والتواطؤ ـ  بلا حدود أو سقوف، من جانب الغرب بقيادة سيدة «العالم الحر!».

يقيناً لم أصُدم أو أندهش أو استغرب، لأن الغرب أصل الداء، يزكيه تاريخ استعمارى وحشى موغل فى القدم، وتجمعه بالكيان الصهيونى نظرة عنصرية استعلائية إزاء غير الغربى، لاسيما إن كان عربياً أو مسلماً بعامة، ثم إن كان فلسطينياً مسيحياً أو مسلماً على وجه الخصوص، ومع زعم بتمثيل التحضر حصرياً، فلا بأس أن يرتكب ما يشاء مهما كان بعيداً عن ألف باء الحضارة، ما دام ما يفعله يستهدف «الآخر» المُصنف من البرابرة!

من ثم لم أثق يوماً، أو ينطلى عليَّ أى مزاعم مرجعها «ضميرهم» و«قيمهم» التى تحرص على حقوق الإنسان، بينما تاريخهم سخى وفياض بجرائم الإبادة الجماعية، أينما حلوا فى الأراضى القديمة، والأرض الجديدة، لأنهم فقط الجديرون بصفة «الإنسان الأعلى» فوق كل ما عداهم!!

الحمد لله؛ لم أكن ومنذ زمن مبكر من عمرى ساذجاً لأنبهر بالغرب، ليس فقط بحكم وعى عميق، فمعاذ الله أن أكون أسيراً لغرور، وإنما لأنى أحمل چينات مصرى، فى قلب كل چين، ما يؤكد أن العبد لله ينتمى إلى حضارة كانت مصدر الإشعاع الأول لفجر الضمير الإنسانى قبل خمسة آلاف عام.
شهادة «برستد»

جاهز أنا لاتهام مُعلب بالشوفينية، فكلامى فى السطور السابقة يشف عن  تعصب لوطنى، والتهمة لا تستدعى ردها، ثم إن الأصل فى المفهوم أن يقترن الحب الشديد للوطن بكراهية أو رفض «للآخر» الأمر الذى لم يدر بخلدى للحظة، لأنى أعى تماماً كما قال رسولنا الكريم «أنه لا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى» هذا عن الشق الثانى من الاتهام، فماذا عن الشق الأول؟

لا بأس هنا من استدعاء شهادة چيمس هنرى برستد فى كتابه العمدة «فجر الضمير»، الذى نقله للعربية بلدياتى العلامة د.سليم حسن، إذ يكفينى، وكل مصرى عناء البحث عن إجابة، أدفع بها أى اتهام بالمبالغة عند فخرى بانتماء للوطن، الذى أشرقت فى سمائه إشعاعات فجر الضمير الإنسانى، للمرة الأولى فى التاريخ.

ماذا يقول برستد فى شهادته التى ضمنها دفتى كتابه العلمى الموثق قبل ٩٠ عاماً؟

مصر فى نظره ـ وهو بعيد عن أى اتهام بالتحيز أو التعصب ـ هى مهد حضارة العالم، وعنها أخذت الإنسانية جمعاء، ربما يسارع البعض بالقول إن ذلك قاله آخرون، وليس بجديد، ولكن مهلاً أيها السادة، فهذا الأثرى العظيم لم يكتفِ بأن يُظهر للعالم أجمع أن المصدر الأصلى لكل الحضارات الإنسانية هى مصر، وإنما تقدم على الجميع خطوات شديدة الأهمية، عميقة المغزى، لأنه عندما بحث عن تاريخ نشأة الأخلاق، فإذا هى ترتبط شرطياً ببزوغ فجر الضمير على أرض مصر قبل ٥ آلاف عام.

فى فؤاد كل مصرى

هنا استميح القارئ عذراً، موصولاً بالتالى بروح العظيمين برستد وسليم حسن، فقبل أن أسترسل فى عرض جانب من الجهد الرائع عبر فصول كتاب «فجر الضمير»، أظن أنه من المناسب الإشارة إلى ما بذلته مصر وأبناؤها، للتضامن مع أبطال غزة البواسل الصامدين فى وجه آلة العدوان الوحشى على كل ما يمت بصلة للحياة.

ما قدمته مصر والمصريون منذ اللحظة الأولى، يترجم عملياً مدى عمق وتجذر الضمير الإنسانى فى فؤاد كل مصرى، ورث چينات أجداده عبر قرون طويلة.

مصر شعباً وحكومة ومنظماتٍ أهلية، قدمت ما يراوح بين ثلثى وثلاثة أرباع حجم المساعدات التى تدفقت على غزة، عبر معبر رفح ومن خلال عمليات الإسقاط الجوى، وفتحت قلبها قبل أذرعها لاستقبال الجرحى والمصابين، لاسيما الأطفال، وأصحاب الأمراض الخطرة والمزمنة.

الأهم أنها وعبر آليات العمل السياسى والدبلوماسى، كان وقف نزيف الدماء الفلسطينية أولويتها القصوى، وشغلها الشاغل، فالشهداء لا يمثلون مجرد أرقام كما بالنسبة للغرب «الرحيم»، ثم إصرار مصرى لا هوادة فيه على التمسك باللاءات الثلاثة: لا للتهجير.. لا لتصفية القضية.. لا لاستهداف المدنيين، ولم يكن ذلك موقفاً رسمياً فحسب، ولكنه موقف يحظى بإجماع شعبى جارف، مدعوم من كافة الهيئات والمؤسسات الدينية والمجتمعية والسياسية، لأن الجميع يثمن ما يحدث على أرض غزة متعارضاً مع الضمير الإنسانى، وهنا مربط الفرس.

ما أشرت إليه غيض من فيض، لكنه عرض مجرد أمثلة تحيل إلى أصل المسألة، حتى نعرج مرة أخرى على شهادة «برستد».

أسمى عمل إنسانى

اذاً؛ عود على بدء.

يقول برستد: «اكتشفت وأنا مستشرق مبتدئ أن المصريين كان لهم مقياس خلقى أسمى بكثير من الوصايا العشر، وأن هذا المقياس ظهر قبل أن تُكتب تلك الوصايا بألف سنة».

ويضيف: «يُعد الكشف عن الأخلاق أسمى عمل تم على يد الإنسان من بين كل الفتوح التى جعلت نهوضه فى حيز الإمكان. وقد انبثق عصر فجر الضمير والأخلاق على العالم، دون أن يُزج به من العالم الخارجى، عن طريق منهاج خفى يسمى الإلهام، بل كان منشأه حياة الإنسان نفسه».

ثم يستعرض «برستد» التقسيمات المتعددة للتاريخ البشرى قبل أن يصل إلى خلاصة مفادها أن ما هو «أكثر فائدة وأعظم أهمية، ويدل فى آنٍ واحد على أطوار التقدم الإنسانى، فهى التى تكون على نحو «عصر الضمير والأخلاق» الذى بدأ منذ نحو خمسة آلاف سنة، وعصر العلوم الذى جاء به جاليليو منذ أكثر من ثلاثمائة سنة».

ثم يعقد «برستد» مقارنة عميقة المغزى حين يشير إلى أن مصر «أصبحت أول مجتمع عظيم مُؤلف من عدة ملايين يحكمهم ملك واحد، وفى أيديهم كل الأسس الرئيسية اللازمة للحضارة، ففى القرون التى تقع بين ٥٠٠٠ و٣٥٠٠ قبل الميلاد قامت أول دولة متحضرة كبيرة فى وقت كانت فيه أوروبا ومعظم غربى آسيا، لا تزال مسكونة بجماعات مشتتة من صيادى العصر الحجرى».

ويضيف: «وعلى ذلك يكون وادى النيل فى نظرنا هو أول مسرح اجتماعى يمكننا أن نلاحظ فيه، الإنسان خارجاً منتصراً من كفاح طويل مع الطبيعة، وداخلاً مسرح العوامل الاجتماعية الجديدة ، ليبدأ كفاحه الشاق بينه وبين نفسه، وهو كفاح لم يكد يتخطى بدايته حتى يومنا هذا».. والجملة الأخيرة تحتاج إلى وضع مئات الخطوط أسفل كلماتها.

ثم يعود ليؤكد: «إن الذى يعرف قصة تحول صيادى عصر ما قبل التاريخ فى غابات النيل، إلى ملوك رجال سياسة وعمارة ومهندسين وصناع وحكماء فى جماعة منظمة عظيمة مشيدين تلك العجائب على ضفاف النيل، فى وقت كانت أوروبا لا تزال تعيش فى همجية العصر الحجرى، ولم يكن فيها من يُعلمها مدنية الماضى، من يعرف كل هذا يعرف قصة ظهور أول مدنية على وجه الكرة، تحمل فى ثناياها صوراً خُلقية ذات بال».

السقوط المدوى

يبدو أن ما كسا وجه الغرب من حضارة لا يعدو كونه غلالة رقيقة من مظاهرها، لكن فى العمق، فإن الجوهر فاضح عندما تترجمه سلوكيات ما زالت تنتمى إلى صيادى العصر الحجرى، وما يميزهم من بربرية وهمجية!

فى مواجهة ورثة فجر الضمير الإنسانى يبرز فُجر أهل اللا ضمير!

ثمة فارق هائل بين كائنات بشرية بالمعنى البيولوچى، وإنسان يتحلى بالأخلاق والضمير والقيم، والمفارقة المذهلة هنا، أن الأول ينعت الثانى بأنه «حيوانات بشرية»!

الكيان الصهيونى ينزع صفة الإنسانية عن الغزاويين تمهيداً لإبادتهم، وغطاء من التأييد المطلق من جانب الغرب الرسمى ـ إلا من رحم ربى ـ فى انحياز فاجر يفضح الأكاذيب والأوهام والأساطير التى لم تمثل أكثر من مساحيق ،لطلاء وجه يخفى وراء قسماته ملامح صياد العصر الحجرى!

ومرة أخرى، تسجل الحضارة الغربية سقوطاً أخلاقياً ومعنوياً وأدبياً مدوياً، قبل أن يكون سقوطاً سياسياً أو خسارة استراتيچية، بتهاوى الجسر الواهى بين ثقافة الغرب والضمير والقيم الأخلاقية، فإذا بنا نستيقظ على الحقيقة العارية: إننا بصدد مواجهة فظة مع فُجر اللا ضمير، مع إصرار على تسييد قانون الغابة، ولا عزاء لحقوق الإنسان، والحرية، والديمقراطية، وقيم الليبرالية و...و...

ولا بأس من استدعاء شهادة ضيف معرض القاهرة الدولى للكتاب، الكاتب النرويجى العالمى جاستين جارد حين أعلنها مدوية: «أن الحرب على غزة فضحت الضمير الأوروبى، وكشفت عجزه عن اتخاذ موقف أخلاقى تجاه حرب الإبادة الجماعية التى استهدفت النساء والأطفال والشيوخ».. انكشف المستور؛ فالقيم الغربية مبنية على أسسٍ عنصرية، مزدوجة المعايير، لكن المشكلة عند من نسى أو تناسى!

أسطورة الرأى العام

أسمع صوتاً خافتاً: لا تظلم الغرب، فهو ليس كتلة واحدة، ألم تشاهد المظاهرات التى اجتاحت شوارع أمريكا وأوروبا؟ ألم تسمع عن مئات المثقفين والفنانين من أصحاب الضمائر الذين وقعوا عرائض لوقف المآسى والمذابح اليومية؟ ألم.. وألم..

 نعم شاهدت، وسمعت، وقرأت، ولكن للأسف فإن هذه الأصوات وأصحابها من ذوى الضمائر الحية، تذهب أدراج الرياح، ولتسقط أسطورة أخرى اسمها «تأثير الرأى العام فى صياغة السياسات، واحترام صُناع القرار لإرادة هذا الرأى العام»!

اكتملت أركان السقوط الغربى، إذاً، مع إضافة الانحياز واللا موضوعية والتضليل من جانب معظم الإعلام الغربى، بل والمنظومة الحقوقية فى أغلبها!
ثمة استثناءات هنا وهناك، لكنها تؤكد صواب القاعدة ليس إلا.

مصالح مشتركة، وقواسم مشتركة، من أجلها تم تزييف كل شيء حتى جذور الحضارة الغربية، فبعد أن كانت إغريقية، رومانية، مسيحية، تم «حشر» اليهودية فى سياقها، حتى تاريخ الحضارة يُنتهك ويُزيف!

فمتى كان اليهود أصحاب حضارة؟ وأين؟

ألا يعنى كل ذلك أنه قد تم اغتيال الضمير، أو انتحاره، أو سقوطه، أو اضمحلاله، أو غروبه، أو محوه،...،..... اختر ما شئت، أو أضف ما تراه أكثر ملاءمة.

صار فُجر اللا ضمير عنواناً يدشن مرحلة ما بعد مجازر غزة، بعد أن جللها بالسواد!

.................

وأخيراً، أجدنى أصرخ  بسطور «برستد»: «أليس فى مقدورنا أن نعمل بجدٍ لإنماء هذا الضمير الحديث الميلاد؟ حتى يصير مظهراً من مظاهر حسن النية، ويصبح من القوة بحيث يُخمد أنفاس القوة الوحشية الباقية فى نفوسنا؟»

هل هو حلم ليلة صيف، أقتسمه مع الرجل الذى سعى نحو «فجر الضمير» قبل نحو قرن من الزمان؟!

هل هى صرخة فى وادٍ مسكون بصيادى العصر الحجرى، لكنهم يرتدون ملابس عصرية؟!