أخر الأخبار

شوبنهاور.. السعادة والنيرفانا

أرتور شوبنهاور
أرتور شوبنهاور

يرى كثير من دارسى الفلسفة والمهتمين بها أن «أرتور شوبنهاور» فيلسوف التشاؤم والحزن، والحق أن فلسفته تنطلق من نظرة تشاؤمية بالفعل؛ غير أن جانب الحكمة فى هذه الفلسفة العميقة المتسقة مع نفسها والتى تنظر إلى الأمور فى حقائقها الباطنة لا يخفى على من سبر أغوار الحياة وامتلأت جعبته بالكثير من المواقف والحكايات.

ونحن على يقين من جنوح شوبنهاور نحو الزهد فى فلسفته، ورغم أن حياته الواقعية كان فيها غير قليل من البخل والحرص والوسوسة؛ إلا أن ما يعنينا فى المقام الأول هو التراث النظرى الذى تركه لنا شوبنهاور أما بخله الذى لا يخلو من الطرافة وكراهيته لأقرانه وحذره الدائم حتى أنه كان ينام وسلاحه تحت وسادته! فنحن نلتمس له العذر فى كل هذا، ونشفق على هذا الرجل الصادق النبيل من الغم الذى لحقه على مدار حياته فجعله كما يقول الكاتب «مأمون غريب»: «فيلسوف لم تصفُ له الحياة يومًا»!

اقرأ أيضاً | ممدوح فرّاج النّابى .. إدوارد سعيد في مواجهة الآلهة الزائفة

وأول ما يقابلنا فى فلسفة شوبنهاور أنه يفضل الموت على الحياة! يقول مجدى كامل فى كتابه «أشهر فلاسفة التاريخ»: «هذا الفيلسوف اشتهر بفلسفته التشاؤمية، ورؤيته للحياة كشرٍ مطلق، ومن ثم فهو يمجد العدم، ويعتبر الانتحار أمرًا محمودًا؛ لأنه يخلص الإنسان من بؤسه وتعاسته وشقائه!! وربما تكون حياة الفيلسوف الألمانى الشقية التَّعِسَة هى التى شكلت فلسفته، ودفعته لاعتبار الانتحار الوسيلة الوحيدة للتخلص من الحياة وشرورها، فقبل أن يبلغ شوبنهاور أشهر فلاسفة الألمان على الإطلاق، وأحد أشهر الفلاسفة فى التاريخ، السابعة عشرة من عمره فوجئ بموت أبيه منتحرًا ليحيا فى شقاء وتعاسة بسبب خلافاته مع أمه التى عاشت حياة لهو وعبث بعد رحيل الأب، وانتهى الأمر بقطيعة كاملة معها حيث لم يرها حتى ماتت».



وهكذا يمكن القول أن حياة شوبنهاور هى المفتاح الذى ندخل به إلى فلسفته، ولأنه وراء كل كاتب أو فيلسوف عظيم ألم عظيم؛ فقد كان ألمه من والدته فظيعًا لا يُحتَمَل، وأعجب ما فى القصة أن هذه الوالدة كانت أديبة لها صالون ثقافى، وكانت تكره رؤية شوبنهاور لأنه كما تقول: «كثير الشكوى، دائم الكآبة، عجيب الآراء"! أما هو فكان يعتقد أن الأدب الذى تكتبه أمه لن يكتب له الخلود ولن يذكره أو يذكرها أحد بعد موتها إلا بوصفها والدة الفيلسوف الكبير شوبنهاور!
وحين حصل شوبنهاور على درجة الدكتوراه فى الفلسفة سخرت أمه من أطروحته فرد عليها متهكمًا إن كتبه سوف تُقرَأ وتعيش بينما سيكون مصير قصصها صفائح الزبالة! وقد يضحكنا اعتداد شوبنهاور الزائد بنفسه ومهاجمته لأشهر فلاسفة عصره هيجل غير أن القارئ لهيجل سيتفهم موقف شوبنهاور لأن الفلسفة الهيجيلة عويصة لا يفهمها إلا قليل من دارسى الفلسفة؛ بل إنك حين تسأل هؤلاء «الفاهمين» ستجد أن بعض العبارات والفصول تفلتت من فهمهم وأنهم يشكون من الدُوَار الذى يصيبهم عند القراءة لهيجل، وكل ما نعرفه عن هيجل الآن أو أغلبه هو مما كُتِبَ عنه لا مما كتبه هو!

وثالثة الأسافى التى أرهقت أعصاب الفيلسوف المتشائم هى التحولات الأخلاقية التى أصابت ألمانيا فى عصره حتى أشعرته بالاغتراب؛ فكل شىء لم يعد على ما يُرام وتغيرت سلوكيات الناس وطبائعهم وفقدت الحياة بكارتها، وهذه نكبة أخرى تضاف إلى سجل فيلسوف شديد الذكاء شديد الحساسية.



وتتمحور فلسفة شوبنهاور حول «السعادة والشقاء» والسعادة مطلب عام لكل البشر، هذا هو الواقع وتلك هى طبيعة الحياة، ولكن كيف نصل إلى السعادة؟ الحل عند هذا الفيلسوف هو بعدم الرغبة وعدم الألم، يعنى الزهد باختصار، لا ترغب فى شيء، لا تتوقع من الدنيا ألا تؤلمك لأنها ستؤلمك أكثر، تحرر من الفرحة عند الوَجْد، ومن الحزن عند الفقد، حينها ستكون حرًا، وتلك هى السعادة.. وهذا المفهوم للسعادة يتفق فيه شوبنهاور الألمانى تمامًا مع صوفية المسلمين الكبار، على أن نظرة الصوفية إلى الزهد إذا توخينا الأمانة العلمية ودقة البحث هى نظرة معتدلة مما يجعلنا نتفق مع مجدى كامل فى قوله إن «تصوف شوبنهاور» يتماس مع المثال الصوفى للنيرفانا عند البوذيين، والنيرفانا كما نعرف تنشد السكينة المطلقة من خلال «إرادة وَأْد الحياة» أما تصوف المسلمين فهو يتعالى على الرغبة لكنه لا يعدمها لأنه «ربانية لا رهبانية» وغاية الأمر أنه يدعو المرء إلى جعل رغباته «المشروعة» وسيلة لا غاية، ومطيةً لا إلهًا، وعلى حين يرفض شوبنهاور التعامل مع الجنس اللطيف نهائيًا نرى كبار صوفية المسلمين يتزوجون وينجبون البنين والبنات، وهم يفرقون بين «عبادة الشهوة» وبين تكوين الأسرة بكل ما فى هذا الأمر من فوائد نفسية وتربوية، ولمن أراد التحقق من هذا أن يقرأ كتاب «تاريخ التصوف الإسلامى» للفيلسوف المصرى د. عبد الرحمن بدوى.

على أن رؤية شوبنهاور للجمال جديرة بالاهتمام وقد نتفق معها، فهو يقول إن الحياة شوقٌ بلا حد، وشكاوى مريرة، وركضٌ نحو السراب، ويتخلل ذلك السعى المحموم نحو الصفر استراحات يسيرة وتأملات للخيبة والفشل والهزائم ثم الشيخوخة وبعدها النهاية التراجيدية المحتومة وهى «الموت» والجمال هو انعتاق تأملي، ويكمن فى المعرفة المجردة، أى فى الحكمة وإدراك جمال الأفكار والنفاذ إلى الصورة الأبدية لحقائق الأشياء، ولذلك يرى الفن انعتاقًا حقيقيًا لأن لحظات من السكينة تغشاه، والفن يجاوز الإرادة نحو «الرؤية» والرغبة نحو «التأمل».



أما عن رؤية شوبنهاور للعالم فهو يقول باختصار: «إن العالم هو عقلى أنا» أى أن العالم لا يمكن لنا إدراكه إلا بعلاقته مع الوعي، فما يدركه الإنسان فى الأشياء من حوله ليس أرضًا ولا سماءً؛ وإنما عين ترى السماء، ويد تلمس الأرض، فالعالم فى وجوده الظاهر هو فكرة فى ذهن الإنسان، والفكرة أيًا كانت هى ظاهرية بالضرورة «مجرد قشرة» أما الإرادة فهى حقيقة الشيء فى ذاته وهى مضمون الوجود، والحياة من حولنا هى مرآة لإرادتنا وبالتالى تكون «حَيَوات» لأن لكل منا فكرة تخصه وإرادة ليست فى غيره؛ وبالتالى فمنظور كل إنسان للحياة يختلف عن منظور الآخر؛ أما الأشياء فى ذاتها بدون إرادتنا أو بالأحرى «بدون ما نرغبه ونتمناه» فهى عمياء وعنيفة تتأبى على العقل البشرى وتحليلات الفهم، فجوهر العالم هو الإرادة العمياء غير العقلانية، وهى إرادة تستبعد بالضرورة كل ما توصل إليه العقل وكل القوانين المنطقية المستمدة من الطبيعة وكل الأعراف الاجتماعية، وهذا هو سر شقاء بنى آدم، ذلك أنهم لن يتمكنوا أبدًا من معرفة العالم بشكل علمى لأنه باختصار غير علمى!

وبناءً على ما سبق يرفض شوبنهاور فكرة «التقدمية التاريخية» التى نَظَّرَ لها كارل ماركس فالتاريخ لا يتقدم على نحوٍ حتمى بل قد يتقهقر، وأيضًا لا تحكمه قوانين ومن ثم يرفض شوبنهاور فكرة «الثورة» ويقدم لنا رؤية واقعية سوداوية ويرى أنه ليس بالضرورة للعدل والخير أن ينتصرا، وفكرة أن التاريخ يتقدم للأمام ونحو الأفضل بشكل خطى أو حلزونى «خطوتان للخلف ثم قفزة للأمام» التى نراها فى المادية التاريخية والجدلية، هذه الفكرة مرفوضة كل الرفض عند شوبنهاور.

ويمكن تلخيص فلسفة شوبنهاور كما يلى:
إن الإنسان حين يستحضر الدنيا أو العالم فى عقله يجد أن هذه الدنيا غير مقبولة وسفيهة ولا تفى بمطالب إرادته أى «رغباته» ولا تتناسب مع طموحه، والسعادة أو ما نعتقد أنها سعادة حين نحصل على الأشياء هى فى الحقيقة شيء سلبى تمامًا فنحن لا نشعر بطعم الأشياء وهى معنا بينما نشعر بالألم حين نفتقدها، ونحن نحس بالألم يملأنا ولا ندرك معنى أو قيمة الخلو منه بعد فترة قصيرة من زواله، ونحن نشكو من الهم إذا أصابنا ولا نشعر بالصفاء إلا برهة يسيرة، وحين يقتلنا العطش نسعى للرِيِّ ثم يفقد الأمر معناه ويصير عاديًا، بل إن الحصول الدائم على الأشياء يبعث الملل وهو فى حد ذاته أحد أشكال الألم! وبالتالى ما نعتقد أنه سعادة هو فى الحقيقة «متعة» والمتعة فى حقيقتها إشباع وقتى وزائف للاحتياج، والرغبة ليست إلا نوع من الألم نسعى إلى تسكينه بالحصول وحين يتم هذا الحصول تفقد المتعة بريقها؛ وحتى يتخلص الإنسان من هذه الحلقة المفرغة عليه ألا يرغب وألا يتألم ويزهد فى كل شىء حينها سيجد نفسه، اقتل نفسك تحييها و«افقدها تجدها».

والمضحك فى الأمر بعد كل هذا أن شوبنهاور كان يكتب حساباته باللغة اللاتينية التى لا يفهمها معظم الألمان حتى لا يعرف أحد قيمة ثروته الحقيقية! وكان حريصًا على حياته لدرجة أنه لم يكن يشرب من أكواب شرب منها آخرون بل يحمل معه دائمًا قربة ماء صغيرة، وبلغ به الأمر أن أصبح يخشى من الاغماء فيعتقد الناس بموته فيدفنوه وهو حي، ولهذا أوصى أن يظل قبره مفتوحًا حتى إذا ما استيقظ من غيبوبته استطاع العودة إلى منزله! أما عن الزواج فقد أحجم عنه لأنه وسيلة الفقر وسبب المشاكل، ورغم كراهيته للجنس اللطيف وإحجامه عن الجنس إلا أنه أخطأ ذات مرة مع امرأة وأنجب منها ولدًا غير شرعى.



وكانت وفاة شوبنهاور عجيبة مثل حياته؛ فقد ابتسم له الحظ فى آخر عمره، وعيَّرَهُ حُسَّادُه بأن النحس لم يتخَلَّ عنه إلا قبيل موته فلن يسعد كثيرًا، فرد عليهم بأنه سيعيش أكثر منهم، وأنه وهو فى السبعين سيحيا لثلاثين عامًا أخرى؛ لكنه مع الأسف أصابه الالتهاب الرئوى ومات حزينًا لأن الحياة أدارت له ظهرها منذ طفولته وفى فراش موته تخيل الناس وهم يشيعونه إلى قبره بالتهليل والفرح! ومات شوبنهاور.. ولو أردت الحقيقة لقلت إن الذين ماتوا هم أعداؤه لأننا لا نعرف عنهم الآن أى شىء أما هو فلا يزال يعيش معنا بكتبه وأفكاره.