يوميات الاخبار

أيُحررنا من عناء الأمهات عناق!

سناء مصطفى
سناء مصطفى

سناء مصطفى

يمضى بنا قطار العمر فينقلنا من محطة إلى أخرى ما بين غمضة عين وانتباهتها، لنفيق فى كل محطة لبرهةٍ، ثم نغرق فى لجة التفكير فى المحطة التالية

تأملتُ سعادة ابنى وهو يجلس فى الكوشة بجوار عروسه الجميلة. يااااه! هل حقا كبر صغيرى بهذه السرعة وأصبح اليوم عريسا يستقبل حياةً جديدةً، ويستعد لبناء أسرةٍ سعيدة؟! هذا الصغير الذى كنتُ أرقبه رضيعا مستغرقا فى نومه وبراءته، أحلم باليوم الذى يعود فيه من مدرسته محملا بالحكايات والضحكات، ليحررنى من عناء الأمهات بعناق جميل. حررنى صغيرى من عناء الأمهات بحكايات كثيرةٍ، وعناقٍ لا تذبل نضارته على مر السنين.
تذكرتُ سؤال الأقارب، والصديقات، والزميلات، والجارات: مش هتفرحى بكريم قريب بقا وتجوزيه علشان تلاقى حد يساعدك فى البيت؟ يثير فى السؤال شجون وأحزان. هل يتزوج ابنى ليبنى أسرة، ويأنس بزوجة يحبها وتحبه، أم يتزوج ليأتى بخادمة بلا أجرٍ تساعد أمه فى شئونها المنزلية؟ أعود بذاكرتى لبيت العائلة الكبير الذى تربيتُ فيه، حيث يعيش الجد والجدة والأعمام وزوجاتهم وأبناؤهم. كانت أعمال المنزل من طبخ وتنظيف وخبيز وما إلى ذلك مقسمة على نساء الدار، لا تكاد إحداهن تفرغ من مهمة حتى توكل إليها أخرى دون أن يكون لديهن رفاهية الاعتراض أو الشكوى. كثيرا ما تمنيت كطفلة أن تتفرغ لنا أمى وتشاركنا الحكى واللعب وجلسات السمر الطفولي، لكن الأعباء المنزلية فى البيت الكبير لم تمنحها فرصة لذلك، كنت أشفق عليها، وأسخط على وضع بيوت اللمة التى تحرم الأطفال من الأنس بأمهاتهم طوال الوقت، من أجل هذه الذكريات التى تنشب أظفارها فى ذاكرتى كما ينشب الجراد مخالبه فى جسد شجرة نضرة، صرتُ أكره كلمة «حماة»، ولا أتخيلنى وأنا أترك فى ذاكرة زوجة ابنى ما يعكر صفوها، ويكدر حياتها، فهى ليست مُرغمة على خدمتي، والقيام بشئونى إلا كما تفعل الابنة مع أهلها إذا وقر فى قلبها هذا الشعور.
لن يخدم أمى أحدٌ سواي
أتذكر أن خالى «نجم الدين» بارك الله فى عمره وصحته، كان يأخذ على عاتقه أمر الاعتناء بجدتى فى مرضها، وهى مقيمة معه. يوقظها صباحا ويتناول معها طعام الإفطار، ويعطيها دواءها، ثم يذهب لعمله، ليعود ظهرا فى موعد جرعة الدواء الثانية. يتناول معها طعام الغداء، ويطمئن عليها، ثم يذهب لاستئناف عمله حتى المساء. كنتُ أسأل أمي: لماذا يترك عمله فى منتصف اليوم ويأتى ليطعمها ويعطيها دواءها بنفسه، رغم وجود زوجة خالى الطيبة التى لم تقصر فى رعايتها؟ تجيبنى أمي: يقول أن رعاية أمه والقيام على خدمتها، وأمور علاجها هى مسئوليته وحده، ولا يريد لأمه أن تشعر بأنها عبء على أى أحد.
يا عيب الشوم
حكت لى صديقة أن حماتها وبعض أخواتِ زوجها جئن لزيارتها، وكان من المقرر أن يبقين فى ضيافتها ثلاثة أيام. فى اليوم الأول حدث موقفان جعلاها تتخذ قرارا مهما: الموقف الأول حين سكب أحد أطفالها العصير على الأرض بينما كانت هى تعد الغداء فى المطبخ، فطلبت من زوجها أن ينظف المكان حتى تفرغ مما فى يدها. هذا الكلام لم يعجب إحدى العمات فعَلَّقت قائلةً: يا عيب الشوم.. أنا ياختى هـ انضف المكان، الموقف الثانى حينما تأخرت فى تجهيز الغداء، فعلقت أخرى قائلةً: ياختى ما قلبِك مريحِك.
وهنا لم تستطع الزوجة أن تسكت فجلست بينهن وطلبت منهن أن يتقبلنها كما هى عليه طالما هن فى زيارتها، ولا يرهقنها بالتكلف وتحمل ما لا تطيق، وأن يستمتعن مع الأسرة بزيارة مريحة لا تضطر فيها إلى مهاتفة أمها أو صديقتها كل يوم لتشكو منهن فتحمل وزرًا، ولا تنتظر انتهاء الأيام الثلاثة بفارغ الصبر، ولا تحمل هم زياراتهن القادمة بل تسعد بها وتنتظرها هى وأفراد أسرتها بلهفةٍ ومحبة.
لا يهم إن كنّ قد استوعبن ما قالت أم لا، المهم أنها قصدت خيرًا، ولم ترغب فى ارتكاب ذنب اغتياب أو نميمة، ولم تترك قلبها مشحونًا، ولا روحها مضغوطةً طوال مدة زيارتهن، كل ما كانت تريده هو الأنس بهن والسلام.
تاريخ أسود من ظلم الحماة
لم يقتصر الظلم الذى تعرضت له الحماة فى الموروثات على زوجة الابن فقط، بل يمتد ليشمل زوج الابنة أيضا، يروى أنه فى بعض القبائل البدائية، كانت الأعراف تدفع الصهر إلى عدم المشى على الشاطئ الذى تعبره حماته إلى أن يرتفع المد ويغسل آثار أقدامهاـ فى إحدى الجزر الغربية يجب أن يتحاشى الرجل حماته حتى فى الطريق العام؛ فإذا تقابلا صدفة، فإن على الحماة أن تدير ظهرها إلى أن يمر صهرها المحبوب الذى لا يريد أن يرى وجهها حتى لا يتعكر نهاره.
وعند قبائل الزولو تقاليد مماثلة؛ فإن التقى الصهر بالحماة توجب عليها أن تستتر خلف دغل من الأدغال، فإن كانت الأرض جرداء يقوم الصهر بستر وجهه بترسه الحربى كى لا ينظر إلى حماته.
ويعطى فرويد فى كتاب (الطوطم والتابو) تفسيرًا عاطفيًا جميلًا لهذا التقليد يزعم أن امرأة من (نساء الزولو) سُئلت عن سبب حظر الرؤية بين الصهر وحماته فقالت: «إنه ليس من الصواب أن يرى الرجل الثديين اللذين أرضعا زوجته).
الحماة فى الموروثات الشعبية
إن العداوة بين الحماة وزوجة الابن هى عداوة وهمية، تناقلتها الموروثات منذ الأجداد، ورسختها الدراما فى عرض صورة الحماة بأنّها الطرف الشرير الذى يدخل بين الزوجين ليفرقهما ويقضى على سعادة البيت الجديد، ولا يمكن أن ننسى أفلامًا مثل: «حماتى ملاك»، و«الحموات الفاتنات»، وأغنيات مثل:
حماتى يا نينة دلوعة عليّا
تصحى من النجمة وتقولى قومي
وتقل راحتى فى عز نومي
أعجن وأخبز وأطبخ وأجهز على الصينية
لا يعجبها لبسى ولا لون قميصي
ولا أى حاجة تعجب عريسي
وقبل ما أشكى تسبق وتبكى وتصعب عليا
وتلك الأغنية التى تخاطب فيها الزوجة زوجها عندما يغضب إثر خلافها مع أمه، فتخاطبه قائلة:
زعلان ليه تعالى أقولك
أنت طبق رز وأنا طبق رز
ناكل لما نشبع ونفلفل أمك
زعلان ليه تعالى أقولك
أنت كيلو موز وأنا كيلو موز
ناكل لما نشبع ونزحلق أمك
وتستمر الأغنيات التى تؤكد هذا العداء الوهمى الذى لا تريد له الذاكرة الشعبية أن تنطفئ جذوته، فتكمل الزوجة مخاطبة زوجها:
على طبق الترمس يا ولة على طبق الترمس
لما تموت أمك يا ولة هاتحزم وارقص
على صحن البامية يا ولة على صحن البامية
عين أمك راحت يا ولة عقبال التانية
على ديك الرومى يا ولة على ديك الرومي
يا تسكت أمك يا ولة يا ألم هدومي.
هذا الأمر ليس قاصرًا على الموروثات المصرية فقط، فهناك أغنيات عدة فى التراث الشعبى العربي، فى سوريا والأردن وفلسطين على سبيل المثال تُغنى فى حفل الزفاف هذه الأغنية التى تدل على مشاعر الند والضد والمبنية على خبرات أليمة سابقة فى المجتمع، حيث تقول الأغنية على لسان الحماة:
آويها يلى قاعدة جنب ابني
آويها ما فيكى شيء عاجبني
آويها هلأ بتقولى حبني
آويها بكرة بتقولى كبني
آويها وان ما مشتيش دوغري
آويها لتلاقى بيت الضرة مبني
فترد عليها العروس قائلة:
آويها وحيات شالك وشنشالك
آويها بعد أسبوع لأفضالك
آويها وان شاء الله فال الله ولا فالك
آويها داء الفالج جالك
آويها لأشغل بالك وأنهب مالك
آويها وابنك ما بيهنالك
آويها بعدها لفرجيك حالك
الحموات فى الأمثال الشعبية
تستقى الأمثال الشعبية من الحموات مادة خصبة للسخرية والعداء الفاجر لا يمكن حصرها، أذكر منها على سبيل المثال:
«لو كانت الغلة قد التبن، لكانت الحماة حبت مرات الابن»*
«انكوى بالنار ولا تقعد حماتى فى الدار»*
*يا مستنية حماتك تعاملك بحنان، يا مستنية السما تحدف رمان
«على ابنها حنونة وعلى مراته مجنونة»*
*إذا ضحكت حماتك خافى على نفسك وحياتك
*أحب همه وأكره أمه
ألا نتوقف لالتقاط الأنفاس برهة؟!
يمضى بنا قطار العمر فينقلنا من محطة إلى أخرى ما بين غمضة عين وانتباهتها، لنفيق فى كل محطة لبرهةٍ، ثم نغرق فى لجة التفكير فى المحطة التالية، دائمًا يشغلنا التفكير فى المحطة التالية عن التقاط أنفاسنا، عن الترجل عن همنا بالغد الذى لا نعلمه، والسير بتؤدة ويقين فى الحاضر الذى أمام أعيننا، يا لحماقة الإنسان التى تجعله يلهث فى صحراء أمنياته وأحلامه وانشغاله بمستقبل بيد الله، حتى يفيق وقد تقطعت أنفاسه وتسرب العمر الجميل من بين أصابعه، كما يتسرب الأمل من قلبٍ يتيم.
وهم
كيف لامرأة
ترقع ثوبها بنفايات الزمن الرديء
أن تنتظر مخلِّصًا!
كيف تقضى امرأة ليلها
وهى تنتف ريش قصيدتها
ريشةً ريشة
ثم تفتح لها نافذة الصباح وتقول: طيري؟!