حديث الأسبوع

الذكاء الاصطناعى.. مكامن القوة والضعف وأسئلة القلق والحيرة

عبد الله البقالى
عبد الله البقالى

غالبا ما يقع التركيز على الجوانب الإيجابية لظاهرة الذكاء الاصطناعي، التى تمثل بحق منعطفا حاسما فى تاريخ البشرية جمعاء. ويكاد يحدث الإجماع على أن السنوات القليلة المقبلة، بداية من السنة الجارية، ستكون مرحلة الذكاء الاصطناعى بامتياز. وتركيز بهذا الحجم، وبهذه القوة، خلَّف ركاما من الانشغالات، بعضها  يبحث فى سبل تحقيق مزيد من تطويره، والبعض الآخر يسأل عن سبل مواجهة هذا الغول المخيف، وينتظر من العلماء المتخصصين اجتهادات لتحقيق ذلك، والبعض الآخر محاصر بأسئلة القلق والخوف مما هو آت، والبعض الآخر فاتح فاه، مندهش ومنبهر بما يحدث ويجرى أمام أعينه، عاجز، ليس عن فهم واستيعاب ما يحدث، ولكن حتى عن متابعة التطورات.


ووسط هذه الانشغالات المفعمة بمشاعر متضاربة بين الفرح والامتنان لتطور العلوم، وبين القلق والخوف على المستقبل، يطرح السؤال المشروع حول توقيت وظرفية حدوث هذا الزخم الكبير والضخم فى الذكاء الاصطناعي، بعد أكثر من خمسين سنة على ظهور بوادره الأولى؟ والجواب الذى يفرض نفسه بقوة، يمكن صياغته فى أن المصالح الاقتصادية التى تمثلها الشركات الاقتصادية العملاقة المتحكمة فى التكنولوجيات الحديثة، اختارت هذا التوقيت المناسب لها لإعطاء كل هذا الزخم لمشروع العصر بالنسبة إليها. وهكذا يبدو الهاجس التسويقى واضحا فى هذا التركيز المفرط. ولم يقتصر تجلى التركيز على التسويق الإعلامى فقط، بل تجاوزه إلى مضامين التطور، إذ وخلال سنة واحدة فقط مضت، حدثت تطورات متسارعة ولافتة ومرعبة، حتى فى مسار الذكاء الاصطناعى نفسه، من الصعب الاستسلام إلى قناعة أن ذلك حدث من قبيل الصدفة، بل إن اتجاه المنافسة بين الشركات المنتجة نحو الاحتدام انتهى إلى تسريع وتيرة التطوير والاختراقات  العلمية فى هذا الصدد. وهكذا وفى أقل من سنة تقدم التطور فى الذكاء الاصطناعى إلى مستويات مذهلة، لم تكن تخطر على بال حتى مخترعيها قبل سنوات قليلة من اليوم، والتى لم تعد تقتصر على كتابة الأبحاث والدراسات والمقالات العلمية والأدبية والفلسفية والفنية، ولا على البرمجيات الرياضية والفيزيائية العادية، ولا غير ذلك مما أصبح معروفا ومعتادا، بل على فتوحات فى مجالات علمية بالغة الدقة، ليس أقلها  إثارة مثلا، إعلان شركة (DeepMind) المتفرعة عن شركة (غوغل) بأن النتائج المحصل عليها من  برنامج (MedPalm 2) جرى تقييمها بأنها جيدة، مقارنة مع ما هو حاصل فى الواقع. ويتعلق الأمر بطرح أسئلة فى مجال الطب والأمراض على البرنامج الذى قدم إجابات جيدة. أو كما حصل فى جامعة واشنطن، حيث قام فريق من العلماء بتطبيق توليد الصور التى تستخدم للحصول على بروتينات بيولوجية جديدة. أو كما حدث فى جامعتى ستانفورد وكاليفورنيا الأمريكيتين، حينما تمت مخاطبة مرضى معاقين بفضل زراعة مخ، حيث تمت ترجمة الإشارات إلى أصوات. أو حينما تمكن فريق آخر من الباحثين من قراءة الأفكار عبر إعادة إنتاج الصور بفضل التصوير المغناطيسي. وغير ذلك كثير من الفتوحات العلمية المبهرة للذكاء الاصطناعي، إلى درجة أصبح معها الحديث عن انقراض مهن علمية فى الطب والهندسة والصيدلة والكيمياء والفيزياء وما سواها، وهو الهاجس الذى يشغل اهتمامات الرأى العام فى الغرب بالخصوص، وهو ما يفسر تنامى الطلب فى أوروبا الغربية بالخصوص، بضرورة تقنين ظاهرة الذكاء الاصطناعى للحد من تهديداته على البشر والمجتمعات.


لكن، ليس هذا هو الوجه الوحيد للذكاء الاصطناعي، لأنه بالقدر الذى يجرى فيه التسويق بقوة وبعنف لمنافعه ولأفضاله على البشرية جمعاء، والانبهار بالسرعة الفائقة التى يتقدم بها، هناك أيضا أصوات أخرى ترى نقيض ذلك، وتنبه إلى الأخطار الكبيرة التى يرمى بها الذكاء الاصطناعى فى الحياة اليومية. وهذه الأصوات تكشف على أن الذكاء الاصطناعى ليس بكل تلك القوة التى يروج لها. بل إنهم يزيحون الستار على العديد من مواطن الضعف والاختلالات فيه، من قبيل أن أخطر ما يمكن أن يتسبب فيه البحث العلمي، هو رغم اعتماد نفس المعطيات، فإن النتائج المحصل عليها لا تكون دوما قابلة للتكرار، بمعنى أنه فى كل مرة يتم اختبار معطيات معينة فى بحث علمى  قد تكون لا النتائج واحدة، وهذا يشكل ضربة قاصمة للبحث العلمى نفسه. وهذا ما يحدث بالضبط بالنسبة للذكاء الاصطناعي، بحيث إن النتائج التى يحصل عليها ليست دائما قابلة للتكرار، والإشكال  الأعوص والأخطر يكمن فيما إذا ما كانت النتائج مختلفة ومتباينة، ولو بنسب ضئيلة جدا. كما أنه يستحيل التحقق من استقلالية البرمجيات، وما إذا كانت ليست متحيزة أو متحكما فيها من خلال الشركات العملاقة المالكة جدا، كما يحدث حاليا بالنسبة لشبكات التواصل الاجتماعي، التى تتكتم على المعلومات المخزنة فيها الشركات العملاقة وتستخدمها فى أغراض مجهولة لحد الآن، ربما فى الاقتصاد، لكن أيضا فى الاستخبارات والاختراقات، ولم يعد خافيا أن أبحاثا ودراسات تجرى على الدردشات بين الأشخاص فى شبكات التواصل الاجتماعى لفهم طبيعة وسوسيولوجيا الجماعات والمجتمعات والتحكم فى المعطيات ذات الطابع الشخصي، ويتم ذلك بموافقة المستعملين تحت الإكراه طبعا. وأيضا الهشاشة التى يبديها الذكاء الاصطناعى فى مواجهة ليس فقط الهجمات، بل أيضا التعليمات التى يجهل مصدرها والتى ترى هذه الأصوات أنها قد تؤدى إلى خروج الذكاء الاصطناعى عن مساره وينحرف فى اتجاهات غير متحكم فيها. كما أن سيادة الفوضى العارمة على البرمجيات نفسها، وخصوصا على كيفية وإمكانيات تطويرها، يشرع الأبواب نحو المجهول. وأيضا فإن تغذية وتطعيم الذكاء الاصطناعى بالنصوص التى تنتجها الآلات تعرض أنظمة الذكاء الاصطناعى إلى خطر الانهيار الذاتي، لأنه من المستحيل ضبط كميات التزود والتغذية، وبالتالى فإن القدرة على التحمل تصبح محل شك.


ليس هذا فقط، بل إن هذه الأصوات ترتفع عاليا مطالبة بضرورة ترشيد تطور الذكاء الاصطناعي، لأنه بدون ذلك، فإن جميع الاحتمالات تبقى واردة بما فيها إعادة استنساخ الكائنات، بمن فيهم الإنسان نفسه، وبالتالى فإن البشرية ستنتقل إلى عوالم أخرى مختلفة من الصعب تصور طبيعة العيش والحياة فيها. ولعل هذا ما يبرر تنامى الطلب على تحصين الذكاء الاصطناعى بتشريعات صارمة تحفظ حقوق البشرية والمجتمعات. ناهيك عن أنه سيزيد من السرعة القصوى فى التفاوت بين الدول والمجتمعات، ذات الموارد المالية والكفاءات العلمية والإمكانيات التقنية التى قد يكون بمقدورها إدارة مواجهتها مع الذكاء الاصطناعى للتقليل من حجم التكلفة، وبين دول ومجتمعات أخرى ستكون لقمة سائغة أمام هذا الغول الذى سيفتك بما تبقى لها ومنها.