يوميات الاخبار

«الحكمة» من «رأس الحكمة»

محمد البهنساوى
محمد البهنساوى

إن تطوير رأس الحكمة ليس من الحكمة أن نصفها بالمشروع العملاق فقط، فهى خارطة طريق جديدة لمصر الحاضر والمستقبل

صفقة من العيار الثقيل، ليس محليًا ولا إقليميًا فقط، إنما دولى، هكذا يمكننا وصف مشروع تطوير رأس الحكمة الذى كشفت الدولة تفاصيله مؤخرا، البعض ينظر لأهمية المشروع فى قيمته المادية وعوائده الاستثمارية وهى الجزء الأهم لكن ليست وحدها التى تميز الصفقة وتجعلها تاريخية، فهناك حسن التفاوض وسريته، وجرأة القرار وحكمته، وتميز الفكرة الاستثمارية الشاملة والمتكاملة، وتمهيد الأرض لسنوات للمشروعات العملاقة بثقة فى الله والنفس والوطن تمنح القدرة على تجاوز المشككين وتخطى ألغام المرجفين.


إن تطوير رأس الحكمة ليس من الحكمة أن نصفها بالمشروع العملاق فقط، فهى خارطة طريق جديدة لمصر الحاضر والمستقبل، بالنظر لتوابعه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، الصورة الجديدة التى أصبحت عليها مصر أمام العالم وفى دنيا المال والأعمال، الفكر الاستثمارى الجديد الذى جاءت ضربته الأولى قوية.


كثيرون تحدثوا باستفاضة عن فوائد المشروع وعددوا مزاياه، لكنه يستحق الكثير من الشرح والاستفاضة لأنه يغير خارطة الاستثمار بمصر، ويفتح الباب على مصراعيه أمام انطلاقة اقتصادية قوية بكل المجالات، فهو لا يعد إضافة سياحية عمرانية وخدمية فقط، بل إن فوائده الأكثر كونه عجلة اقتصادية قوية لن تتوقف بإذن الله عن الدوران محدثة رواجًا متعدد المنافع على جانبيها.


ورغم أنه نموذج متميز فى التفاوض والوصول إلى اتفاق يحقق مكاسب مستمرة للدولة، فمخطئ من يعتقد أن الدولة تشارك فيه بنسبة 35 % المقررة من أرباحه، لكن هناك دخلا حكوميا صافيا بتحصيل الضرائب والرسوم المقررة قانونا بمختلف الأنشطة به، وملايين الوظائف التى يوفرها وما تتحصل عليه من رواتب، وكم الأنشطة التى تستفيد من المشروع سواء بمرحلة الإنشاء أو بعد التشغيل.
وقد حقق المشروع دعاية لمصر تساوى ملايين الدولارات، سواء بالتأكيد على الاستقرار السياسى والاقتصادى بها، أو الصورة الذهنية الرائعة دوليا نافيا ما يروجه أهل الشر، ولنتخيل مدى الاهتمام بمصر واقتصادها من المستثمرين حول العالم وحجم الإقبال على تنفيذ مشروعات بها بعد أن أصبحت حديث الساعة عالميا، نثق أن المشروع مجرد بداية يتبعها خطوات واسعة بمشروعات مماثلة وربما أكبر وأقوى، والأيام بيننا.
القاطرة السياحية الحقيقية
لا شك أن السياحة المكون الرئيسى بمشروع رأس الحكمة، ولعل الرقم الذى أعلنه رئيس الوزراء بالمؤتمر الصحفى من استهداف 8 ملايين سائح بالمشروع، أراه ممكنا بل ومتواضعا بالمقارنة بإمكانيات الساحل الشمالى بأثره الذى تعرض لظلم سياحى بيّن منذ نشأته قبل عقود بسبب فكر تخطيطى وعمرانى واستثمارى اغتال أحلام الساحل السياحية، وحوّله إلى غابات خرسانية تعمل شهرين سنويا ثم يتحول لمنطقة أشباح باقى العام وأضاع على الدولة مليارات الدولارات. هذا الكلام لا مبالغة فيه، فالجميع يعلم أن الساحل الشمالى المصرى أجمل شواطئ البحر الأبيض على الإطلاق، وإذا قارناه بمدن سياحية عالمية شهيرة على المتوسط مثل نيس وكان ومايوركا وقبرص ومالطا وحتى فينسيا وكذلك المدن المطلة عليه بآسيا وأفريقيا، يتفوق ساحلنا عليها جميعا من حيث فيروزية المياه ونقائها وسحر الشاطئ وروعة الطقس وتنوع الإمكانيات السياحية، لكنه خارج المنافسة تماما لغياب الخطط والفكر السياحى فى تنميته لعقود.
ورغم أن الحديث عن تنمية حقيقية للساحل الشمالى سياحيا ليس بجديد، وبدأ بزوغه بقوة مع إطلاق العلمين الجديدة، يتضاعف الأمل لتحقيق هذا الحلم مع تطوير رأس الحكمة، فالمشروع يعد القاطرة التى ستدفع وبقوة التنمية السياحية بالساحل كله، وتقدم للعالم منتجًا سياحيًا فريدًا لا يقتصر على رأس الحكمة، بل سيشمل باقى المناطق البكر غرب مرسى مطروح وعلى أطرافها، ويعود للخلف إلى شرق مطروح وحتى مارينا العلمين وربما يتجاوزها وصولًا للإسكندرية عروس البحر الأبيض، فمن يصدق أن الساحل بأثره لا يوجد به سوى 4 آلاف غرفة فندقية مقارنة بـ40 ألف غرفة بشرم الشيخ و50 ألفا بالغردقة مع فارق المساحة، بينما يسيطر الفكر العقارى عليه.
وحتى يتحول الأمل إلى واقع فلابد أن يكون هناك حد أدنى برأس الحكمة من الطاقة الفندقية لا يقل عن ١٥ ألف غرفة واستغلال خبرة مصر والإمارات فى ذلك، بجانب إطلاق أنشطة سياحية عديدة تستفيد من الإمكانيات العديدة بهذا الساحل، مع ربطه بالمزارات التاريخية بالقاهرة الكبرى وشمال الصعيد بل وجنوبه، ولعل ما يقوى هذا الأمل والحلم ما تضمنه المخطط المبدئى للمنطقة بما يخدم السياحة على رأسها إنشاء مطار متميز، ومجموعة من الفنادق والمنتجعات، ومشروعات ترفيهية وثقافية وتاريخية وغيرها.
مش سياحة بس!!
ورغم أهمية السياحة كمكون أساسى برأس الحكمة، ورغم محاولات بعض مستثمرى السياحة الإيحاء بأفكار تجعل المشروع شبه سياحى فقط، لكن هذا ما لا يجب الانسياق فهناك مكونات وأنشطة اقتصادية وغيرها تجعلها مدينة متكاملة، وهنا التفاؤل أكبر بوجود مستثمرين إماراتيين ومصريين لديهم خبرة كبيرة فى خلق مدن كاملة ومتكاملة الأنشطة، ولعل نموذج المدن الإماراتية مثل دبى وأبوظبى والمصرية مثل العلمين الجديدة وغيرها يؤكد الأمل ، ويجب ألا نغفل الصناعة والتعليم والفنون والرياضة وغيرها كمكونات أساسية بالمشروع الحلم.
التمهيد التنموى المكثف
«ليه كل الكبارى والطرق دى، وإزاى يصرفوا كل ده على مشروعات ملهاش مردود» هكذا كانت الصورة التى أراد تصديرها المتربصون بمصر، لم يكتفوا بتلك الكلمات فقط، إنما زينوها بتحليلات وآراء فنكوشية، وشائعات تقوم على أرقام وهمية لإلباس الباطل ثوب الحق، كل هذا تحملته الدولة وهى تسير بخطى ثابتة واثقة فى خططها، فالهدف كان أكبر من وراء إنشاء شبكة طرق وكبارى عالمية ومشروعات النقل العملاقة، لقد كنا فى حرب مع الزمن والأعداء على حد سواء، معركة تنموية تعيد لمصر وجهها الحضارى ودورها الريادى.
وكما يحدث بالمعارك العسكرية من تمهيد نيرانى مكثف، كان لابد لمعركة البناء والتطوير والاستثمار من تمهيد تنموى قوى وشامل، شبكة طرق عملاقة تربط أواصر المحروسة، وبنية تحتية حديثة ومتكاملة، تطوير كل الخدمات، كل هذا قاد إلى لحظة توقيع عقد المشروع العملاق بتنمية رأس الحكمة، والتى أجزم أنه لولا هذا التمهيد التنموى المتكامل ما وصلنا إليها، وما وافق مستثمر ولو صغير على اقتحام تلك المشروعات، الآن علمنا يقينا أسباب الحارات العشر بطريق الساحل، وأدركنا أهمية ربط الساحل والعلمين بالقاهرة والسخنة والصعيد وسيناء، وما كان ليتحقق هذا الربط إلا بتلك الطرق ومشروعات النقل المتطورة من القطار الكهربائى والسريع والمونوريل والمطارات والموانئ وغيرها.
المرجفون.. ومبدأ «خد الأرض واجرى»
بالطبع ما حدث بمشروع تنمية رأس الحكمة أربك حسابات المرجفين والمتربصين الكارهين لكل جميل بمصرنا الغالية، راهنوا على أنه مجرد دعاية وشائعات من الدولة لمحاربة السوق السوداء للدولار، وعندما بدأت الأخبار تتسلل عن حقيقة المشروع تحولت لعبتهم القذرة للتشكيك فيه ونوايا الدولة من ورائه، مرددين النغمة القديمة الجديدة «هيبيعوا الأرض»!! ، تلك الشائعات أطلقوها من محال إقامتهم بدول يقوم اقتصادها أساسا على استثمارات أجنبية خاصة الخليجية، بل إن بعضهم ذهبوا بفكرهم وإفكهم لمناطق يعجز العقل عن فهمها رغم ادعائهم زورا وبهتانا خوفهم على مصر واصفين أنفسهم بالمعارضة الرشيدة، لكن أين الرشد وهم يتعاملون مع الموضوع بكلام خارج كل منطق، ويثار التساؤل:- هل سيأخذ المستثمر أيا كان محليا أو أجنبيًا الأرض التى يستثمر فيها ويقل، بل إنهم أنفسهم كانوا يتباكون على عدم انفتاح الدولة على القطاع الخاص عامة وحسن جذب الاستثمارات الأجنبية بشكل خاص، ولهؤلاء نقول موتوا بغيظكم وسوادكم وسمكم ويبقى السؤال «أحلال على بلابله الدوح حرام على الطير من كل جنس»؟!
الدولار.. والمنحة فى المحنة!
بكل محنة منحة، وبكل أزمة ميزة حتى ولو صغرت، وأزمة الدولار رأها الكثيرون محنة صعبة وأزمة خانقة، ومعهم الحق رغم ان مشكلة العملات الأجنبية بمصر والتى ولدت من رحم معاناة ومشاكل سببتها أحداث يناير 2011 وما بعدها من مطبات صعبة مرت بوطننا، اليوم أرى تلك المحنة منحة كبرى، فقد دفعتنا دفعا لتغيير مبادئ اقتصادية، وابتكار حلول غير تقليدية، واقتحام ملفات حلها كان من اللوغاريتمات بمصر. اليوم هناك توجهات اقتصادية إيجابية لم نكن لننظر إليها لولا أزمة الدولار، فهى التى أكدت الحاجة الملحة لسياسات جريئة لتوفير العملات، وشجعت سياسات اقتصادية داخلية مهمة مثل ضرورة توطين الصناعة وتحسين المنتج المحلى وترشيد مطلوب منذ عقود للاستيراد مع توفير البدائل المحلية والاهتمام بالأنشطة التى تعظم العوائد الدولارية خاصة السياحة والصناعة والتصدير، ناهيك عن التوجه المهم للتبادل التجارى دوليًا بالعملات المحلية والخروج من استعباد الدولار للدول.
ولعل أزمة الدولار هى التى كانت المحفز الرئيسى للدولة لتبنى توجهات اقتصادية جريئة وخطط استثمارية تستهدف تحقيق دخل سنوى 300 مليار دولار، وبعد مشروع تطوير رأس الحكمة أرى قرب تحقيق تلك الخطط، كل هذا ما كان له ليتحقق لولا أزمة الدولار، فتلك هى الضارة النافعة جدا.