«قصفوا الدار» قصة قصيرة للكاتب الدكتور صلاح البسيوني

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

في طريقي الى رفح الفلسطينية ، كانت تتراءي أمام عيني ذكريات لم تغيب لحظة رغم مرور أعوام طوال، حين كنت أقوم بدوري الوطني في دعم جنودنا الصامدين على شاطئ قناة السويس بتنظيم أفواج لخدمة جبهة القتال، برعاية القيادة العسكرية للقوات المسلحة، كانت من أصعب الفترات وأيضا كانت من أكثر الفترات توهجا بالوطنية والقومية العربية والقضية الفلسطينية التى دفعنا ثمنها الغالي والنفيس، وتربينا على التغني والتمني لأجلها، وكم حلمت وأنا على شط القناة مع جنودنا أن يأتي اليوم الذى نعبر فيه القناة لتحرير سيناء الحبيبة، ودخول أراضي فلسطين السليبة .

كنا نتغنى بأغاني أولاد الأرض (بينا يلا بينا، نحرر أراضينا، وعظم اخواتنا نلمه نلمه ، نسنه نسنه ، ونعمل منه مدافع ، وندافع ، ونجيب النصر هدية لمصر، نكتب عليه اسمينا ) ،ونغني (يا حمام ، روح قوام ، لجمال ، بوس له خدوده ، وقول له جنوده ، اشتاقوا والله القتال ) .

 

وأيضا عندما أعلن ياسر عرفات أبو عمار عن حركة تحرير فلسطين بجناحها العسكري (العاصفة) ، كنا نتغنى بأغنية فيروز (أصبح عندى الآن بندقية ، إلى فلسطين خذونى معكم) ، كما كنا نردد مع عبد الحليم أغنية ( فدائي ، فدائي ، فدائي ، إن مت يا أمى ماتبكيش ،راح أموت عشان بلدى تعيش ، وإن طالت يا امه السنين ، خلى أخواتي الصغيرين ، يكون زي فدائيين ) .

 

ياااااه شريط العمر يمضى أمامي كما يمضى شريط الأسفلت على الطريق بين الرمال وتقترب القافلة من رفح المصرية الحدودية ومعها اقترب من تحقيق الحلم ، بدخول فلسطين الحبيبة رغم اختلاف الأماني حيث كنت أتمنى دخولها للاحتفال بالتحرير والنصر والآن أدخلها لتضميد الجراح وتقديم الإمدادات الطبية لدعم مستشفاها الوحيد الصامد داخل رفح الفلسطينية والذى يحمل بداخله مئات المرضى والمصابين من الحالات الحرجة كما يحمل حوله مئات المدافن المؤقتة لألاف الشهداء .

 

انتبهت على صوت قائد القافلة ، وهو بعيد على أسماعنا تعليمات الأمن والأمان التى سمعناها وحفظناها في القاهرة حين تطوعت في الهلال الأحمر المصري ضمن الأفواج القادمة لرفح المساهمة في نقل الإمدادات الطبية وأيضا المساعدة في نقل مرضى الحالات الحرجة والإصابات إلى سيارات الإسعاف المصرية المرافقة للفوج بطواقمها لنقلهم إلى مستشفيات ام الدنيا بالداخل .

 

مرت ساعات ترقب مع تجمد أطرافنا من شدة برودة الجو في هذا الفضاء المحيط بنا ، إلى أن أعطى قائد القافلة الأشارة بانتهاء الإجراءات الحدودية ، وحان وقت التحرك ، (إلى فلسطين خذونى معكم) .. ياااااه ، أخيرا تحقق الحلم ، اصطدمت عيناي بمشهد ألفته كثيرا عبر قنوات الفضائيات وهى تنقل حجم الدمار والشهداء ، ولكن أن تشاهد وانت في بيتك على اريكتك ، غير أن تسير وسط الحطام ، وتشم رائحة الدخان ، وترى بعينيك حجم الدمار ، وتسمع صراخ الأطفال  وصياح الكبار طالبي العون في دفن الشهداء أو نقل المصابين ، أو ترى البعض يحمل يد أو قدم أحدهم ويسير خلف أخرين يحملوا المصاب لعله يمكن إعادتها ، أو تدفن معه .

 

ياااااه يا فلسطين تأخرت في الوصول إليكى ، معذرة فما أخرني سوى سوء الأحوال الجوية بالمنطقة العربية ، التى أصابها التوحد كما يصيب الأطفال الصغار فلا ترى سوى داخلها ، ولا تسمع سوى أنينها ، عجبا ، علمت أن التوحد مرض يصيب الصغار ، ويعيشوا في عزلة داخلية مع أنفسهم ، لا إدراك للواقع المحيط ، ولا تواصل معه ، أدركت الآن كم أصبح التوحد سمة العالم العربي ، بعدما انتقلت إليه العدوى من العالم الغربي ، أصبحت الدول العربية لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم ، وأصبح الشعب الفلسطيني أيضا يعيش التوحد لأنه يدرك أن لا أحد يسمعه أو يراه ، وأنا الآن أشعر بالتوحد ، أشعر أن لا أحد يراني ، لا أحد يسمعني ، لا أحد ، لا أحد ، وكأنني في عالم آخر وحدى ، بلا أحد .

 

أفقت على صوت قائد المجموعة ، علينا إفراغ الامدادات الطبية سريعا فالطائرات الإسرائيلية تزداد ضرباتها شراسة وتقترب نيرانها من محيط المستشفى والإصابات تتزايد والشهداء بانتظار من يحفر قبورهم الجماعية كي يوارى جثامينهم ، كما ينتظر المصابين من يخرجهم من تحت الأنقاض أو من يجمع قطعهم أو من ينقلهم إلى حيث علاجهم أن أمكن .

 

كنت أتحرك في طاقة غير معهودة لدى ، ساهمت في  إفراغ شحنات الأدوية والمستلزمات الطبية ونقلها إلى الداخل ، ثم انتقلت إلى مساعدة الأطقم الطبية في نقل الحالات الحرجة من المرضي والمصابين إلى سيارات الإسعاف المصرية المرافقة لنا بطواقمها الطبية ، وإذا بي أسمع همس من جسد هزيل على الأرض بجانب سيارة الإسعاف وهو يقول ، أتمنى عليك ابن العم ، أن تبلغني أخبار زوجتي وأطفالي الذين تم نقلهم إلى ام الدنيا للعلاج بعد إصابتهم منذ الاجتياح ، وتعذر وجود اتصالات أو انترنت ، نظرت إليه، وجدته وقد فقد ساقيه ، يزحف على الأرض للحركة وبجانبه قطعتين من الأخشاب يستخدمها فقط حين يحتاج الارتفاع سنتيمترات .. التفت إليه هامسا أيضا ، كيف التواصل وأنت تقول لا يوجد اتصالات أو انترنت ، نظر حوله متوجسا ثم اقترب منى يهمس في أذني وقد سجدت بجانبه أرضا كي اسمعه ، كل غروب شمس ، سألجأ إلى مجمع الأونروا حيث يمكنني من خلال المتطوعين أن أفتح تطبيق ماسنجر، هذا هو اسمى عليه (عبدالرحمن أبو يوسف) ، زوجتي اسمها خديجة بنت ياسر ، وابنتي فاطمة الزهراء ، والصغير يوسف المصاب بمرض التوحد ولا يدرى عن ما يدور بالعالم حوله لأنه يعيش في عالمه !! ، بسرعة وعدته بتحقيق أمنيته ، وان ينتظرني كل غروب شمس ، لعلنا نتواصل .

اسرعت أكمل مهام المساعدة في نقل المصابين ، حتى أتممنا مهامنا ، وصدرت إلينا التعليمات بالاستعداد لمغادرة الأرض المحروقة أو ما كان يسمى قطاع غزة ، أو بقايا غزة .. وجميعنا نكتم أنفاسنا ليس من الخوف بسبب أزيز الطائرات الحربية أو اصوات الانفجارات والانهيارات والصرخات ، ربما من رائحة الموت التى تحيط بنا ، إلى أن شعرنا بلفحة هواء رطبة عطره تمسح وجوهنا وكأنها تمسح عنا أوجاعنا .. وقد دخلنا بوابة رفح المصرية الحدودية ، واستقبلتنا الأطقم الطبية المرابضة للتنسيق في نقل المرضي والمصابين ، وأيضا في الكشف علينا للاطمئنان على البعض منا .

 

عدت مرافقا لإحدى سيارات الإسعاف إلى القاهرة ، لم أذهب إلى بيتي مباشرة ، بل توجهت إلى مقر الهلال الأحمر المصري ، وتواصلت مع إحدى مشرفي غرفة العمليات ، وأعطيته ما لدى من معلومات عن أسرة (عبدالرحمن أبو يوسف) التى حصلت عليها ، وبعد مدة من الوقت كانت لي كالدهر ، أخشي عدم الوصول إلى معلومة في الظروف الحالية ، إلا أنه فاجأني بكافة المعلومات عنهم ، والمستشفى الذى استقبلهم .

 

خرجت وأنا أكاد أقفز في تحركي على أرصفة شارع رمسيس مقر الهلال الأحمر كي انتقل مسرعا إلى شارع الجمهورية حيث مستشفى صيدناوى التى استقبلت أسرة أبو يوسف ، كان الوقت عصرا ، ولا يزال هناك متسع من الوقت قبل الغروب ، استعلمت عن غرفة (رفح) ، طرقت الباب وقلبي ينتفض ، فتحت لي الباب طفلة تبلغ من العمر اثنى عشر عاما ، سألتها عن السيدة خديجة، أشارت إلى أمها على سريرها ، وشاهدت على الأرض طفلا منبطحا أسفل السرير ، حاولت أخته إخراجه لكنه يصاب بالهلع ويصرخ ، فأشارت الأم لها أن تتركه وقالت لي إنه مصاب بمرض التوحد ، لا يتحدث مع أحد ، ولا يشعر بما يدور حوله ، طمئنتها على عبدالرحمن ولقائي معه في رفح الفلسطينية  .

 

خلال ثلاث ساعات تحدثنا كثيرا عن رحلتهم داخل غزة في رحلة الهروب من الموت بين الموت المتناثر في كل مكان ، إلى الموت الذى ينتظر النازحين طوال رحلة الفرار من الموت ، إلى لحظة وصولهم إلى المستشفى ، إلى أن انتقلوا إلى القاهرة ، ويقترب موعد الغروب ، فتحت جهازي المحمول ودخلت حسابي على الماسنجر وضغط أيقونة المقابر الجماعية ، باتصال فيديو ، ليظهر لى وجه ابن العم عبدالرحمن أبويوسف يهمس في ضعف هل علمت عنهم ؟ ، حركت شاشة المحمول ليتفاجأ بزوجته وابنته أمام عينيه وقد ألجمتهم المفاجأة ، وتتسارع الكلمات من الجانبين ، طمني عليك أبو الولاد ، طمنينى عليكى وعلى الأولاد ، احنا بخير في حضن أم الدنيا ورعايتها ، أنا بخير طالما صاحبتكم السلامة والأمان ، فجأة ، برز يوسف ابن التوحد من مخبأه أسفل سرير الأم ، ويقفز بجانبها على السرير بعدما سمع صوت أبوه على المحمول ، ويخطف المحمول من يد أمه ، ويصرخ ، أبويا ، قصفوا الدار .