آخر صفحة

حامد عزالدين يكتب: قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (2 - 2)

حامد عزالدين
حامد عزالدين

أنهينا الجزء الأول من هذه الفكرة بالحديث عن الجن المكلفين مع الإنس بعبادة الله التي تعنى طاعة الله من جانب من يملكون العصيان.

ونبدأ الجزء الثانى بالحديث عن الإنس. و(أَنَسَ) الْهَمْزَةُ وَالنُّونُ وَالسِّينُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ ظُهُورُ الشَّيْءِ، وَكُلُّ شَيْءٍ خَالَفَ طَرِيقَةَ التَّوَحُّشِ. وإجمالا فالإنس هم الذين لا يمكنهم الحياة إلا ظاهرين والقادمين فى أعقاب توحش. ولنتدبر فى قوله سبحانه وتعالى فى الآيتين 71 و72 من سورة ص: ﴿قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)﴾.

هنا نفهم أن خلق الإنس مر بمرحلتين، الأولى هى هيئة البشر، وهو اسم جنس يطلق على مجموعة على وزن «البقر» مثلا. وقول المولى إنى خالق اسم الفاعل يغنى عن الفعل الماضى أى أنه خلق بالفعل أى أوجد من عدم. والمرحلة التالية هى «فإذا سويته»، والفاء تعقيبية وإذا هنا شرطية بمعنى حدوث الأمر فى المستقبل، أما سويته فهى من  سوّى يسوى، والاستواء هو الاستقامة، ومنها يستوى فتعنى استقام أى وقف على قدمين. فأنا أطلب من الرجل أن يستوى، أى أن يقف مستويا وبعدها يكون التمام والاكتمال حتى يصبح مؤهلا لاستقبال نفخة الروح «ونفخت فيه من روحى»، أى صار قادرا - تشريفا له عن البشر «مرحلة التوحش»، على استخدام العقل أى التمييز بين الأشياء، وهذا هو معنى الروح ، أى التعلم «بالقلم» كيفية تمييز كل الأشياء.

ولنقرأ فى الآيات من 1-4 فى سورة العلق قوله تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ 1 خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ 2 اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ 3 الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ 4 عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ). والعلم «من عند الله» هو ما ينبغى الربط بينه وبين ما سيظهر فى مرحلة تالية فى الآيات من 31-33 من سورة البقرة «وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ < قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ < قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّى أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ». 

وهنا لابد أن نميز بوضوح بين الضمير «ها» فى كلها أى الأسماء، وبين الضمير «هم» فى عرضهم، فالضمير هم لا يمكن استخدامه إلا فى المسميات المادية، وهو هنا يختلف عن الأسماء «المعنوية»، فالله عرض المخلوقات كلها على الملائكة وطلب منهم تمييزها، فوجدوا الاختبار أعلى بكثير مما علمه الله لهم «لا علم لنا إلا ما علمتنا». فما عرضه المولى سبحانه كان المخلوقات.

وهكذا سيبين للملائكة محدودية علمهم مقارنة بما سيصير إليه «آدم»، وبالتالى أبناء آدم، وهو ما سيجعلهم المستحقين لخلافة الله سبحانه وتعالى على الأرض. وكيف أن علم الإنسان وعمله غير محدودين بحدود كما سيؤكد آدم بالتجربة العملية «فلما أنبأهم»، وبهذه الخاصية التى فطر الله الناس عليها كان الإنسان أجدر بالخلافة من الملائكة، وهى حجة الله البالغة على الملائكة التى بيّنها لهم بعد ما نبههم إلى علمه المحيط بما لا يعلمون فقال: (وعلم آدم الأسماء كلها)، أى أودع فى نفسه علم جميع الأشياء من غير تحديد ولا تعيين، فالمراد بالأسماء المسميات، عّبر عن المدلول بالدليل لشدة الصلة بين المعنى واللفظ الموضوع له، وسرعة الانتقال من أحدهما إلى الآخر.

والعلم الحقيقى: إنما هو إدراك المعلومات أنفسها، والألفاظ الدالة عليها تختلف باختلاف اللغات التى تجرى بالمواضعة والاصطلاح، فهى تتغير وتختلف فيما المسميات لا تغيير فيها ولا اختلاف. وعليه سيكون هذا الإنسان مستحقا لكى ينفذ الملائكة الأمر الإلهى «فقعوا له ساجدين»، سجود تحية بالانحناء وليس سجود عبادة بالطبع. 

(الروح) من الألفاظ التى خاض الناس فى تعريفها وبيان طبيعتها، وتخبط الفلاسفة فى تحديد ماهيتها والوقوف على حقيقتها، وهى فى النهاية من المعانى التى استأثر الله بعلمها، ولم يجعل للإنسان سبيلا إلى معرفتها.

قال تعالى فى الآية 85 من سورة الإسراء: «َيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً». لكننا فى محاولتنا للتدبر لا يمكن أن نفهم «نفخة الروح» من الله سبحانه وتعالى التى انتقلت بالبشر إلى درجة الإنسان وجعلت منه ذلك القادر على تمييز كل شيء، أى فهم أسراره ومكوناته للانتقال بالكون إلى المرحلة المفترض إليها فى الآية 24 من سورة يونس: «حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا».

فوصول الأرض إلى زخرفها وسيطرة الإنسان هو أمر ما كان قابلا للتحقق سوى من خلال «نفخة الروح» باعتبارها المنحة الإلهية التى علّمت آدم الأسماء كلها. وهى ذات النفخة التى علّمت عيسى بن مريم كيف يتكلم فى المهد صبيا، حيث يقول الله سبحانه فى الآية 110 من سورة المائدة: «إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِى وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِى وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِى». 

ومن هنا نفهم خطأ هؤلاء الذين يخلطون ما بين الروح وما بين النفس، فالنفس من النفس والتنفس بمعنى الحياة التى يتمتع بها كل كائن حى. ونهايتها تعنى الموت، أما الروح فأمر مختلف تماما، يقول تعالى فى الآيتين 27 و28 من سورة الفجر: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ < ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً».

فالنفس هى التى ترجع إلى ربها، والنفس هى التى تجزى بما كسبت كما فى الآية 281 من سورة البقرة: (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ). والنفس هى التى تموت كما فى الآية 185 من آل عمران: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ». والنفس أيضا هى التى تُقتل وليست الروح فى الآية 145 من سورة الأنعام: (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

ونستكمل رحلتنا فى الأسبوع المقبل بمشيئة الله إن كان فى العمر بقية.