فيروز كراوية .. رقصة الارتقاء الصوفى بين زمنين

صورة موضوعية
صورة موضوعية

بطبيعة الحال، الشاعر الذى يكتب الأغنية أقل حرية. مقيّد باتجاه المطربة، لونه الغنائي، طلبات ونواهى الموسيقى، والأهم، مستويات التلقى المتعددة لجمهور أوسع يستقبل الأغنية، على ذلك.

من ناحية أخرى، فالتحدى الفنى الذى يفرضه العمل وفق محددات مسبقة له طابعه المثير، مستفز لقدرات أخرى، فمن يستطيع اقتناص حريته داخل أطر وقواعد حاكمة يظفر بمتعة فريدة، وتتوج مغامرته بنشوة غامرة لو صادفت أغنياته نجاحات جماهيرية، حبذا لو جاءت متعددة المستويات أيضا.

اقرأ أيضاً | محمد بغدادي..غاب القمر عن "شبابيك" الشعـر والغناء

عاش مجدى نجيب من خلال تجربته الغنائية هذه الأحوال كلها؛ المغامرة، والنجاح، والجماهيرية، والتحرر من الجماهيرية فى أحيان أخرى، فى سبيل حرية أوسع. بدأ مشواره مع شادية فى  1966 بمغامرة تغيير لونها الغنائى فى «جلالقولوا لعين الشمس ما تحماشِ» مواكبة لتيار صاعد على يد بليغ حمدي، يسعى لإحياء التراثى الشعبى وقت الذروة الناصرية الاشتراكية، مستدعيا ثيمات تراثية شعبية لحنيًا، واهبًا الفرصة لجيل من شعراء العامية الشباب، على رأسهم عبد الرحمن الأبنودى  وعبد الرحيم منصور، حتى يبذلوا أشعارهم الغنائية عن البسطاء والعمال والفلاحين، ويساهموا فى   صناعة موجة غنائية تستقطب نحوها مطربين ومطربات كانوا فى  الماضى القريب يحتفون بألوان سيناترية (نسبة لفرانك سيناترا) مثل عبد الحليم حافظ، ويستدعون صورة ديفا أو فتاة طبقة وسطى نالت حظًا من التعليم فى  البيئة «جلالالثورية» الجديدة مثل شادية نفسها.

سبق شعراء وملحنون مثل مرسى  جميل عزيز (يامه القمر ع الباب 1957) ومحمود الشريف لاستلهام البيئة الريفية والمخزون التراثى   الشعبى   فى   أعمالهم، إلا أن نجاح بليغ حمدى المتكرر فى  عدد من الأغانى  مع محمد رشدى (عدوية) ثم عبد الحليم حافظ (وانا كل ما اقول التوبة، سواح، على حسب وداد قلبي) ثم شادية (يا اسمرانى اللون، قولوا لعين الشمس)، بالإضافة لأحاديثه التى   دشّنت مشروعه الإحيائى   ومنحته نبرة دعائية أو تعبوية، سيّدت النمط بصورة طاغية.

بعد ظهورها بسنة واحدة ستصبح «جلالقولوا لعين الشمس» أغنية تهيج دموع المهجّرين من مدن القناة بعد هزيمة 1967 فى   قراهم، المضيافة أو الطاردة، حنينًا لهواء البحر وشوارع المدينة. وستتوالى أغانى شادية عن التهجير والسفر (قطر الفراق، خدنى   معاك، خلاص مسافر) لتصبح ثيمة ثابتة. يكتب مجدى   نجيب «جلالآخد حبيبى يانا يامه» لفايزة أحمد، و»غاب القمر» لشادية فيخلق لنفسه مكانًا بين الأبنودى   ومنصور، مكانًا يختصه بشاعرية تمد يدها بخفة وتسحبها بخفة، فلا تظهر عليها دمغة الصنعة، ولا تستجدى  الانتباه بتراكيب رنانة. شاعرية سردية، ريفية ولكنها حكاءة وبصرية تحمل جانبا سحريا (الليل ووحدي/ ووحدك/ سايبين هوانا وحيد).

لم يبتذل نجيب طويلًا تعبيرات سادت فى أغانى ذلك التيار، وسرعان ما كوّن ثنائيا مع ملحن «جلالغاب القمر» محمد الموجى  ليقدما «جلالكامل الأوصاف» لعبد الحليم حافظ مستدعين قالباً موشحاتياً عامّياً فى نفس الفترة. شاعر قلق، يبحث دائمًا عن صوته، ولا يجتر نجاحاته. فى «جلالكامل الأوصاف» 1968 و»العيون الكواحل» 1969 مع فايزة أحمد ومحمد سلطان، يفتح قاموسًا جديدًا، ويلعب مع قيود من نوع آخر، فتخرج الأغنيتان قديمتين جديدتين، فصيحتين شعبيتين، «جلالنايات بتقول تنهيدة».

فى مجرى ذلك المشوار كان مجدى نجيب يحتفظ فى خلفية ذاكرته بتجربة اعتقال مؤلمة، واحد ممن غرقوا فى   تواطؤ رومانسى   مع ديكتاتورية جمال عبد الناصر، ثم قطعوا رحلة طويلة ما بين التعافى أو التسامح أو الإنكار. لا يسعنى معرفة موقفه ورأيه بعد سنوات طويلة، ولكنه وفّر عليّ محاولة الاستقراء حين فجّر التجربة شعرًا مع النجم الصاعد محمد منير فى «جلالشبابيك» 1981 بألحان أحمد منيب.

كان اتحاد مجدى  نجيب بمشروع منير فى   ألبوم «جلالبنتولد» 1980 بداية لزمن جديد، زمن أغنية أخرى، بدّل فيها عبد الرحيم منصور شجنه الريفى   بغربته فى   المدينة، وبدأ نجيب فيها مشروعًا تجريبيًا بامتياز. تحرر مجدى نجيب من أغنية الحدوتة، ومن المشهد البصرى الواضح، وراح مع أحمد منيب ثم وجيه عزيز يجترح عالمًا رمزيًا حداثيًا، منفلتاً من التسييق (خلق سياق). أصبح مجدى نجيب منذ قدّم أغنيتى  «جلالسؤال» و»غريبة» فى الألبوم الثمانينياتى   واحدًا من قليلين جدًا طرحوا على الأغنية المصرية اقتراحات فى   الكتابة المسترسلة، والشطرات المفاجئة (وفجأة أكون/ زى  الجنون/ زى  الجنون جوه العيون/ مالهش لون مالهش كون)، والتجريد البسيط (سرقت عمرى   من أحزاني/ سرقته لكن ما جاني)، ومساحات التساؤل والتحيُّر.

اكتشف مجدى نجيب فى تجربته مع جيل الثمانينيات صوتًا جديدًا متأملا فى   مناطق ألم مخفى  بدأ يشتاق للتخفف من ثقله، أولا بالعتاب الحنون وثانيًا بالكشف عن طبقاته حتى يشف أو يُشفى. «جلالبنسهر الأوتار» تعبير ظهر مرتين فى أغنياته، واحدة مع منير فى   ألبوم «جلالاتكلمي» 1983 ثم ثانية مع الفنان الليبى   الكبير أحمد فكرون فى   ألبومه «جلالانتظار» 1990 (نمشى   كام مشوار ونقطع المشوار/ ونخرج بره دار وندخل جوه دار/ ونسهر الأوتار/ واللى   مشى   ما اختار دوامة النهار). فى الأغنيتين «جلالبنسهر الأوتار» و»انتظار» مثالًا على رحلة نجيب للتشافى   والتصافى   (لكن يا فرحى   الجي/ يوم المنى/ أصفى أنا/ واحضن سنين عمري/ يطوى   الحنين صبري)، وبداية الإعلان عن نداء على الفرح «جلالالهجّار»، دائم الهجر أو كثيره. نداء سيبدأ منه مغامرته مع قاموس جديد، يفتحه مع آخر ثنائى فنى جمعه بالملحن وجيه عزيز بدايةً من ألبوم «جلالالطول واللون والحرية» لمحمد منير 1992.

الانفلات من الخوف، مناجاة الفرح، مراوغة الحزن، والحرية. إصرار مجدى   نجيب كان واضحًا فى   تلك المرحلة الأخيرة. ابتعد كثيرًا عن الاستدعاء والذاكرة والتأمل، واقترب حثيثًا من كنه الشعور والحس فى   مزيج لغوى   فريد حمل إليه من تجارب الموشحات القليلة بعض التعبيرات (أتملى فى   عيونك/ وانا قلبى   مفتونك- أغنية «جلاليا هلترى مسموح» 1994.. كامل الأوصاف فتنِّي) (ولذيذ المنام أحرموني- أغنية العيون الكواحل.. تايه أنا حيران/ طاير من اللذة- أغنية «جلالليلى» 1995.. مرمرنى   زمانى   تاعبني/ مُرِّك فى   شفايفى   باعدني- أغنية «جلاليا أنا» 1995). كان نجيب فى انتقالاته الغنائية تشكيليًا ذا مراحل فى العلاقة باللون والأسلوب وضربة الريشة، كما أملت مهنته وفنه الموازي، الرسم والإخراج الصحفى   الفني. وكأنه رغب لمرحلته التسعيناتية أن تتلون بالفرح، أن يسكن بيوته، خيالًا أو زيارة، وأن يطير كعصفور «جلالمتدلع متلوع» فاضت حكاياته عنه ولا يريد أن يحكيها. فيتحول معه محمد منير لحبيب يطارد لحظات من الحرية (يا هلترى مسموح الخوف يودّعنا؟ أغنية «جلاليا هلترى مسموح» 1994.. تعالالى   وكفاية هروب/ الشمس بتطلع مش خايفة- أغنية «جلالتعالالي» 1992) ويتحدى الحزن الشاطر (وانا لسه قادر/ فى   الحزن أفرح هيه- أغنية «جلالهيه هيه» 1994) ويتذوق «جلالالسكّر بالهنا» (سكر فى   شفايفك غنّي/ الفرح قوام يلاعبني- أغنية «جلاليا أنا» 1995).

فى   زمن الكاسيت طارد المنتجون شعراء وملحنى   أغنية «جلالالهيد»، أى   الأغنية التى   يراهنون عليها فى   إنجاح الإصدار الجديد، غالبا ما يحمل شريط الكاسيت اسمها، وغالبا ما تكون الأكثر تقيُّدًا بمواصفات السوق التجارية. حظى مجدى   نجيب دون أدنى مجهود بكثير من أغنيات «جلالالهيد»، بمعيار الإذاعة فى   زمن الإذاعة وبمعيار الكاسيت فى   زمنه («جلاليا ريتك معايا»- هانى   شاكر ثم «جلالشبابيك/ ممكن/ من أول لمسة»- محمد منير و»انتظار»- أحمد فكرون). مع ذلك، كانت ضربات ريشته تزداد خفة مع السنوات، كما تزداد لغته اقتصادًا، فراشة تهرب من النور، وتترفع عن نيران التنافس وبلاغة الاستعراض والتفزلك.. وكأنما كان عبورها من زمان لزمان أشبه بالارتقاء الصوفى  الذى لا يتم طقسه دون الغياب وراء الموسيقى والذوبان فى   رقصة.