ياسر عبد الحافظ ..جنة مجدى نجيب!

مجدى نجيب
مجدى نجيب

من هو مجدى نجيب؟
لم يكن السؤال مطروحًا فى حياة الشاعر الكبير (29 مايو 1936- 7 فبراير 2024) ذلك أنه ارتضى لنفسه التواجد فى المنطقة الضامنة لممارسة الإبداع كما يفهمه والحياة كما يهواها. لا يعنى ذلك أن نجيب كان منعزلًا، أو مهمشًا، بل على العكس فقد تمكن من فرض فلسفته بين جموع الناس عبر كلمات الأغانى بشكل أساسي، وبين النخبة من خلال أعماله التى تتصف بالتنوع والثراء.

تبدو حالة الشاعر مجدى نجيب فريدة فى العمل الثقافى المصري، يبدو كما لو كان جيلًا قائمًا بذاته، وحالة قادمة من أرض بكر ساعية بأساليب متنوعة لإثارة عواصف التغيير الفنية على مستوى الغناء والشعر، من المثير للتأمل حقًا أنه مع هذا الابتعاد الظاهر عن الوسط الثقافى إلا أنه كان فى الوقت ذاته منخرطًا وفاعلًا فيه بقوة، سواء أكان ذلك من خلال المعركة الكبرى التى خاضها بجانب شعراء العامية من جيله لإثبات فنية هذا النوع من التعبير، أو معركته الخاصة لإثبات جدارته بلقب «شاعر» أمام الهجوم الذى رأى فى أعماله تراكيبً وصيغًا لا تليق بشعر العامية، أو أيضًا معركته مع الغناء الهابط تلك التى خاضها مرتين الأولى ضد الغناء القديم المتصف بالسوقية، والثانية فيما اشتهر بـ«سوق الكاسيت».

اقرأ أيضاً  | مجدى نجيب ..يا حبيبتى يا مصر

انفتحت سيرة مجدى نجيب بعد رحيله أمام الجمهور العام الذى صادف خبرًا عن رحيل شاعر مشهور فتوقف بفضول قارئ جريدة تشابه عليه اسم مدون فيها بآخر يعرفه، لكن الفضول يتزايد ويتعدى مسألة التشابه لارتباط اسم الشاعر الراحل بأغانٍ تتردد ليل نهار، أغنية وراء الأخرى، من حال إلى آخر، يتنقل المستمع بين الحب والشجن والحزن، لكنه فيها جميعًا يبقى ممتلئًا ببهجة كان صاحب «ليالى الزمن المنسي» خبيرًا فى إثارتها، يتسع السؤال عند الجمهور العادى ويتحول إلى إحساس ما بالذنب: لماذا لم نكن نعرفه؟ لماذا كان مبتعدًا هكذا، أم أن أحدهم أبعده؟ ماذا كتب أيضًا؟ هل كان مسجونًا، لماذا؟ أكان شيوعيًا؟ ما الذى تعنيه الشيوعية؟ ورسام أيضًا.. ماذا رسم؟ شكلها حكاية طويلة.

الحكاية الطويلة لمجدى نجيب فى حاجة إلى الكثير من الوقت والجهد لتتبع تفاصيلها الكثيرة وربما لن يكون فى الإمكان الإحاطة بكل جوانبها، ليس لتعدد مواهبه فقط بل ولاتصالها اللصيق بالعمل الصحفى والفنى والثقافى والسياسى فى مصر، فالبحث فى حياة مجدى نجيب من خلال إحدى تلك الزوايا كاف ليس فقط للكشف عن سيرة الصحفي، الشاعر، كاتب الأغاني، الرسام، فى هذه المجالات بل وأيضًا طبيعة العمل والعلاقات فى تلك المجالات، ذلك أن نجيب وكما تكشف الحكايات عنه كان، وبحكم موهبته الكبيرة وصفاته الإنسانية، وفوق ذلك مفهومه للفن وممارسته، من الفاعلين الأساسيين فى تلك المجالات.

فى شهادته المعنونة «التمرد ولغة الشعر» والتى ننشر نصها ضمن هذا الملف يقول مجدى نجيب عن رؤيته للفن: «إن الوصول إلى «الوجدان» هو غاية الفن» ومع أن التعريف قد يكون مثار خلاف وجدل حول مسألة الوجدان تلك وتحديد الأصلح لها، إلا أن التعريف يصلح كمدخل لمحاولة استيعاب الحالة الفنية المتفجرة لمجدى نجيب تلك التى لم تنقطع عن التدفق بغزارة حتى اللحظات الأخيرة (تقول الشاعرة مى منصور فى شهادتها فى هذا الملف إنه رحل تاركًا كنزًا فنيًا كبيرًا) كما أن التعريف بقدرته مدّنا بمفتاح لاستيعاب الصور الفنية المدهشة فى أغانيه وأشعاره، والحالة الساحرة التى تتركها رسوماته فى نفس من يشاهدها.

غير أن التعريف السابق ربما لا يكفى وحده لتفسير المنطلقات الفنية عند مجدى نجيب، سيكون علينا العودة إلى أبعد من هذا قليلًا... إلى مقدمة على شلش لديوان نجيب «مقاطع من أغنية الرصاص»: لقد ظهر مجدى نجيب فى غمار حرب، ونضج فى غمار حرب ثانية، وها هو يتألق فى غمار حرب ثالثة، وبين الحروب الثلاث من السنين أقل من نصف عمره. ففى عام 1956 كانت البدايات الحقيقية لأشعار مجدى نجيب، وفى عام 1967 تقدمت هذه البدايات، وفى عام 1973 تألقت الأشعار فى يديه وبدت أكثر نضجًا وحكمة.»

هى الحرب إذاً، واحدة من العناصر الرئيسية فى تكوين مجدى نجيب الشاعر الحالم الباحث عن الحب، وكما يؤكد شلش: «كانت كل حرب من هذه الحروب الثلاث تشحذ عصبًا رئيسيًا فى تكوين مجدى نجيب الشعري، هو عصب الوطن ـ  الحب أو الحب – الوطن إذا صح التعبير. وكانت كل حرب من هذه الحروب الثلاث أيضًا تصنع لشعر مجدى نجيب مصفاة تنساب منها همومه الذاتية ولا يترسب فيها سوى مصر – الوطن والحب معًا. وليس من الغريب إذًا أن يصير شعره فى النهاية، أو قل أن يصير الجسم الرئيس فى شعره، أغنية حب وحرب فى وقت واحد.. حب لهذه الأرض وحرب على أى عدوان عليها. وأعتقد أن الحب – الحرب هو المفتاح السليم لعالم مجدى نجيب الشعرى وبدون قد يضل الناقد».

الأغانى التى كتبها مجدى نجيب والتى تحتل موقعًا فريدًا فى «وجدان» المستمعين المصريين والعرب، ليست سوى وجه واحد لشاعر وفنان ورسام ومثقف نجح فى إدارة موهبته على الرغم من المعوقات التى اصطدم بها، حاله فى هذا حال كل من يمتهن العمل الثقافى والفنى فى مصر، والملفت أنه حافظ على طزاجته الفنية إلى اللحظة الأخيرة من حياته، لم يسمح لمرارات التجارب بالنيل منها، لهذا وفيما نسمع أغانيه ونقرأ أشعاره ونشاهد رسوماته ندرك العبقرية الكامنة وراءها ذلك أن الفن لا يأتى من فراغ بل من تجارب معقدة ومن مشاعر تم تصفيتها لآخر قطرة، وفى حالة مثل مجدى نجيب نلمس إلى أى حد تعامل مع العناصر المختلفة ليقدم سيرة فنية مبهجة عن مصر وأهلها، سيرة ندرك أن فيها التاريخ والحرب والحب والشهداء والحزن من دون أن تكون هناك كلمات مباشرة تقول ذلك.

يسعى هذا العدد لأن يقدم مفاتيح أساسية فى معرفة هذه الحالة الفنية المدهشة المسماة مجدى نجيب، يتتبع القصص والألوان والأشعار، نفتح لكم هنا بعض شبابيك مجدى نجيب للتمتع بالجنة التى تركها لنا قبل رحيله!