المشهد

«أشياء صغيرة مثل هذه»

خالد محمود
خالد محمود

أكتب إليكم اليوم من العاصمة الألمانية برلين، موطن عظماء الموسيقى، باخ، وهاندل، وبيتهوفن، ومندلسون، وبرامز، وشومان، وفاجنر..

هؤلاء الذين تطوف بك وحولك ألحانهم ومقطوعاتهم، تأخذك إلى عالم آخر يشبه عالمهم، حيث يولد الإبداع من رحم المعاناة، وينطق الخلود من صوت القلق.

فى ميدان بوتسدامر بلاتز، وأمام الدرجات الأولى لسلالم  مترو الأنفاق، أجد عازفا عظيما فى ثياب مهلهلة يفترش الأرض ممسكا بجيتاره يعزف مقطوعة موسيقية شجية، وبجواره إناء به بضع سنتات يوروهات، ينظر بانحناءة إلى آلته، وكأنه صديقه الوحيد..

ويظل يعزف ويعزف، مهارته أدهشتنى، وقفت لعدة دقائق، شردت مع شروده، ولم أفق سوى على تصفيق ثلاث سيدات يهنئونه ويشجعونه. 

ما هذا البلد الذي يلجأ مساكينه وفقراؤه إلى عزف الموسيقى، لا يشكون، لا يتسكعون، لا يجرون وراءك يتسولون، غذاء الروح لديهم والآخرين من حولهم رسالة، هم يدرون أننا مساكين أيضا بانشغالتنا فى هم اجتماعى واقتصادى وسياسى، أكبر من همهم، هم يعيشون الخيال، يقفزون بأناملهم فوق المشكلات تتفتت مع النغمات، ونحن نعيش فى واقع متأزم بكل ملابساته وهمومه. 

هم يصالحون زمنهم، يتصالحون مع أنفسهم، يعيشون على فتات مقابل نغمات، ونحن نلعن زمننا، ونتشاجر مع أيامنا، كثيرا ما نفتقد بوصلة الحياة. 
ابتسمت لأحدهم، لاحظ إعجابى بموسيقاه، ابتسم، وكأنه التهم لحظة إنسانية حلوة المذاق. 

تركته لأجل الذهاب نحو صالة العرض السينمائى لأشاهد فيلما بمهرجان برلين السينمائى الدولى، كانت الموسيقى أيضا تملأ أرجاء قاعة العرض قبل بداية الفيلم، حلم المتعة قد بدأ،  وشاهدت فيلم النجم كيليان مورفي «أشياء صغيرة مثل هذه»، وكأن عنوان الفيلم عنوان للحالة  كلها، نعم إنها أشياء صغيرة لكنها مدهشة.

أتمنى أن نبحث دائما على تلك الأشياء بداخلنا وحولنا كى نتجاوز آهاتنا وقلقنا من واقع أو مجهول فى مجتمع اختلطت فيه الأدوار، وتعثرت فيه الخطوات، وضعف فيه الإيمان.

نعم نحن مساكين وحان الوقت أن يعثر فيه كل منا على آلته ليعزف لحنه فى الحياة حتى لو لم يمتلئ إناءه بالسنتات.