أخر الأخبار

ناصر كمال بخيت .. تأشيرة جنوبى

صورة موضوعية
صورة موضوعية

بدت المبانى وهى تناطح السحاب وكأنها طريق بلا نهاية إلى السماء، نظرت حولى فإذا بالأضواء فى كل مكان، والطريق يلمع من فرط نظافته.. لافتات المحلات تتلألأ فتخطف الأنظار، والموسيقى الهادئة تنبعث من المطاعم، كان هناك شعور بالسعادة يغمرنى مثل عصفور فر من قفصه وتنسم عبير الحرية.. أدركت منذ الوهلة الأولى أنى فى إحدى المدن الأمريكية التى طالما شاهدتها فى أفلام هوليوود، وكنت أعتبرها ضربا من الخيال، فإذا بى أتجول فى طرقاتها الآن.. أشاهد وجوه الفتيات التى تشع بياضا وسحرا واللاتى ينظرن إلىَّ بابتسامة، وكأنهن ينتظرن قدومى، هل فعلا تحقق الحلم، واستطعت الهرب من كل ما يحيط بى من أزمات، وذلك الصخب الذى لا يتوقف حولى، هل استطعت أن أحقق المستحيل، وأعبر المحيطات إلى الطرف الآخر من العالم، حيث لا قلق ولا خوف من المستقبل؟

فى تلك اللحظة التى أحس فيها بنشوة طاغية، يرن جرس المنبه، فيعيدنى لما أعيشه من واقع مزر ومرير، هى لحظات قليلة قضيتها أستجمع شتات أفكارى، وأسحب نفسى رويدا رويدا من هذا الحلم، حتى أدركت بأنى أقيم الآن فى حجرة بنزل بسيط فى وسط مدينة القاهرة، قصدته أمس قادما من مدينة الأقصر بجنوب مصر حيث وُلدت وعشت طوال حياتى الماضية، بعدها انتبهت بأن الحلم ربما يكون فألا حسناً، فاليوم هو اليوم الموعود الذى سوف أذهب فيه للسفارة، وأحصل فيه على تأشيرة لزيارة الولايات المتحدة، تلك المقابلة التى أعددت لها جيدا، فقد أكملت ملفى بما فيه من مستندات لا تقبل الشك بأهليتى الكاملة للحصول عليها، لقد استغرقنى ذلك أعواماً كثيرة منذ تخرجت من الجامعة وحتى الآن، وقد بلغت الثلاثين ونيفاً حتى أحقق الشروط اللازمة للسفر، فلم أكن أفضل المجازفة والحصول على الرفض، والذى كان نصيب الكثير من أصدقائى، لأنهم لم يعدوا أنفسهم جيدا لها، فلم يكن أحد منهم يملك ما أملكه من مستندات وملفات تؤهلنى بالقطع للسفر دون أدنى شك فى ذلك، لقد بدأت بخطاب الدعوة من صديقتى الأمريكية «مارلين» التى قابلتها فى مدينتى الجنوبية الدافئة «الأقصر» حيث أعمل بأحد البازارات السياحية، والتى من خلالها كنت أحاول التعرف على سائحة أمريكية تكون سببا فى تحقيق حلمى فى السفر إلى بلاد العم سام، ولكن للأسف الشديد يأتى القليل منهم إلى المدينة، بينما يكثر عدد السائحين القادمين من أوروبا وروسيا وغيرها من البلاد، لذا آليت على نفسى منذ رأيتها ألا أضيع تلك الفرصة قبل أن أحقق مرامى منها، فى البداية اقتصر بيننا الحديث حول الهدايا التى تود شراءها لعائلتها هناك؛ وبالتالى أخبرتنى عن رغبتها فى التعرف على الثقافة المحلية وقضاء يوم فى المدينة وبين سكانها وبالقطع رحبت بذلك، ووجدت ذلك فرصة لتوطيد العلاقة بيننا، بدأت معها بجولة فى أزقة المدينة ومحلاتها، ثم دعوتها إلى الغداء فى منزلنا المتواضع، وأذكر يومها كيف قدمت ابنة عمى «فريدة» وقد أطلت من وجهها مظاهر التبرم والغيرة من تلك الأمريكية الجميلة، والتى سوف تخطف منها من تحب، كل من فى العائلة يعلم جيدا حبها لى، فهى منذ أن كانت طفلة تخبر الجميع أنها سوف تتزوج ابن عمها «جنوبى»، قالت لى تحت شجرة الجميز بالقرب من منزلنا:

اقرأ أيضاً  | محمد عبدالنبي.. جلسة تنويم

«جنوبى» أنا لا أعرف الأمان إلا بجوارك، وليس لأنك ابن عمى فقط، ولكن لأنك بالنسبة لى كل الرجال، أنت الحلم وأنا أعرف أن حلمك أنت هو السفر، يمكننا السفر معا يا «جنوبى».

يوجد فرق شاسع بين نطقها لاسمى بالجيم المعطشة مع تسكين حرف النون وطريقة نطق «مارلين» له بلكنتها الأمريكية، والتى تجعل منه اسما غربيا محببا لنفسى، خلال الزيارة تجاهلت كل ما قامت به «فريدة» من محاولات لإفسادها، وبالقطع لم أترجم حرفاً واحدا مما قالته، والذى كان ينطوى فى أغلبه على شتائم ونقد لاذع لملابسها وطريقة كلامها مع الأسرة والجيران الذين حضروا ليروا صديقتى الأجنبية، رغم أننى لم أرتح للطريقة التى قابلت بها «فريدة» ضيفتى الأمريكية، إلا أننى أيضا لم ترقنى نظرة الاحتقار الخفية من «مارلين» لابنة عمى، ولا أدرى لماذا؟ هل أحبها، أنا لم أعرف امرأة طوال حياتى غيرها، إذا مر يومان، ولم أر فيهما «فريدة» أبحث عنها لأسمع منها، وربما ينتهى ذلك بتذمرى؛ مما تقول والصراخ فى وجهها كالعادة حيث تتركنى غاضبة لتظهر فى اليوم التالى لتسألنى عن حالى، وكأن لها سنين لم تقابلنى فيها، انتهت الزيارة والتى كان الهدف منها أن أفوز منها بورقة تعبر بى إلى الطرف الآخر من العالم أما ورقة بالزواج أو دعوة إلى الزيارة على الأقل، وبما أنها كانت مرتبطة بصديق لها فى وطنها الأم، فلم أحصل منها إلا على الورقة الثانية.

بجانب الدعوة كان لا بد أن يحتوى الملف على كشف حساب من البنك كضمان للعودة مرة أخرى، ومن قال إننى سوف أعود، سأكذب مجددا، وهذا ليس صعبا فى الحقيقة، فأنا أمارس الكذب كل يوم تقريبا، أخبر والدتى أننى بخير، ولم أكن بخير، أخبر من حولى بأننى سعيد، ولم أكن سعيدا، أخبر زبائنى سعرا، وأقسم بأننى لا أكسب من وراءه شيئا، وأعتبر ذلك شطارة تاجر وهو فى الحقيقة كذب، إذن لا ضير من كذبة أخرى، ولكنها فى تلك المرة لا بد أن تكون متقنة، لقد ادخرتُ مبلغا من المال من عملى لما يزيد عن سبع سنوات بعد تخرجى من الجامعة، ولكن لم يكن كافيا، فتوجهت لوالدتى كالعادة أطلب منها النصيحة.

وأنا فى قرارة نفسى أسعى لمساعدة منها، ولا سيما وهى تحتفظ بذهبها فى خزانة غرفتها، ذهب كفيل بتغطية تكلفة السفر وأكثر، بدأت الحديث معها وكعادتها أدركت ما أرمى إليه فبادرتنى قائلة:

إن الذهب يا بنى من أجل أختك، كما أن لأخيك نصيباً فيه.
نظرت إلى أرضية الغرفة التى تغطيها الأكلمة، وقد ظهرت على وجهى خيبة الأمل، وبعد دقائق من الصمت كنت أعلم خلالها أن والدتى تراقب فيها قسمات وجهى الحزينة، أخبرتها بأنى سوف أعيد لها كل قرش بعد أن أجد عملا هناك، ففرق العملة كفيل بتحقيق ذلك بعد عدة شهور، بعد جدال وافقت بشرط ألا أخبر والدى الذى لن يوافق بالطبع عل إهدار مدخرات الأسرة من أجلى، وخاصة وهو يعتقد اعتقادا راسخا بأنى فاشل فى العمل، فهو ينظر إلى أبناء العمومة الذين لم يكملوا تعليمهم ومع ذلك استطاعوا الزواج وتأسيس منزل زوجية خاص بهم ويقارن بينى وبينهم، ربما من أحد أسباب سفرى هو عجزى عن إقناعه بعكس ما يؤمن به، أحيانا أعتقد أن أبى هو الحائل بينى وبين «فريدة» فقد طلب منى مباشرة الزواج بها، فأخوها يملك ثروة طائلة وهو مثال النجاح ومصدر فخر العائلة، ولكنى أعلم كما يعلم والدى أن مصدر تلك الثروة هى تجارة الآثار، ولكنه لا ينفك ينفى ذلك، رفضت أن أتزوج بها لسببين: الأول هو عدم رغبتى فى أن أصبح أفاكاً يعيش على أموال زوجته كما يريدنى أبى، والثانى هو نظرة ابن عمى المترفعة لى رغم تعليمه المتوسط وتعليمى الجامعى، سوف ينتهى كل ذلك بمجرد إقلاع الطائرة صوب الغرب وبدء حياة جديدة هناك.

أمسكت بالمظروف المغلق، وأنا أجلس على المقهى القريب من السفارة، والذى يحوى جواز السفر والذى استلمته من السفارة بعد إجراء المقابلة بساعات قليلة، راح صدرى يرتفع ويهبط بشدة، وبدأت أحس بنبضاته السريعة، فلم أستطع فكه حتى يهدأ جسدى الذى غرق فى ثورة راحت معها يدى ترتعش بقوة والعرق يغرق ملابسى، دقائق تمالكت فيها نفسى، ثم فضضته وأخرجت الجواز، قلبت صفحاته ولكنى لم أجد إلا ختما بالرفض به تاريخ المقابلة، وهذا بالقطع يعنى الخبر السيئ وهو عدم حصولى على التأشيرة المنشودة، راحت يدى تبحث بسرعة فى المظروف عن الخطاب الذى يحوى حيثيات الرفض حتى وجدته ثم بدأت بقراءته:

«نعتذر عن منحك تأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة؛ لأنه بفحص خطاب الدعوة المقدم من طرفكم، وبمراجعة قاعدة البيانات لدينا لم نجد شخصا باسم «مارلين ماكنزى» تنطبق عليها المعلومات المقدمة، وبالتالى يعتبر هذا نوعا من التزوير غير المقبول، والذى يستدعى معه إدراجك فى القائمة السوداء، ومنعك من دخول البلاد لمدة عشر سنوات».

بدأت قطع متفرقة فى خبايا الذاكرة تتجمع معا، كلمات «مارلين» وحوارها المبهم معى حول رغبتها فى قطع أثرية حقيقية وليست هدايا، والذى اعتبرته نوعا من الشغف والفضفضة غير المقصودة، ثم إجابتى لها فى لحظة صفا بأنى لدىَّ قريباً ربما يبيع هذا النوع وبالقطع بصورة غير قانونية، رؤيتى لها تخرج من متجره، وعندما سألتها تعللت بأنها تقوم بالشراء المعتاد، ابتسمت بعد أن تملكنى اليأس المريح، وأدركت أنه ليس هناك جدوى من المحاولة أو ترك مقعدى فى القطار، تركت المقهى متوجها إلى محطة مصر قاصدا الجنوب حيث تجلس أمى فى الدار تدعو لعودتى بالسلامة وفى الغالب تجلس «فريدة» بجانبها تذرف دموع الفراق.