بين عشق الجسد والروح| «عيد الحب».. مُلهم المبدعين والفلاسفة

لوحة سقراط يحاور أسبازيا لنيكولا أنساو
لوحة سقراط يحاور أسبازيا لنيكولا أنساو

■ كتب: رشيد غمري

يبدو الحب كشوق جارف لاحتواء الجمال، وشعور فائق بلذته، يبدل إدراكنا للعالم، ويجعلنا نعيد اكتشاف كنوزه وروابطه، وكأننا نتعرف على نسخة جديدة من الوجود، ومن أنفسنا. وهذا على الأغلب سر إلهامه للفنانين، ولكونه موضوعا أثيرا للإبداع عبر التاريخ، بما يحمله من تناقضات اللذة والألم، وما يطرحه من أسئلة وجودية ما زالت تحير الفلاسفة والمبدعين. وهو الشعور نفسه الذى يراه بعض الصوفية والروحانيين معبرا أثيريا بين عالمي الجسد والروح، وخلاصا شخصيا، ومنقذا للعالم بأسره.

◄ إعادة اكتشاف الحب الأفلاطوني وحبيبة سقراط المجهولة

◄ «باث» شبهه باللهب المزدوج و«بريتون» نادي بالحب الوحيد

◄ الحب عند «هيجل» إدراك الحياة بأنها كاملة ومتسقة

◄ ابن عربي سبق «دانتي» في الرمز بالمحبوب للحكمة العلوية

■ نيتشة ولو سالومي من الفيلم الألماني لو

للكاتب والشاعر المكسيكي «أوكتافيو باث» - نوبل 1990 - كتاب بعنوان «اللهب المزدوج»، تناول فيه الحب ببعديه الغريزى التكاثرى، والإيروسى الباحث عن اللذة المنزهة، على خلفية قراءته لمفهوم الحب فى ثقافة الغرب خلال القرون الأخيرة، عبر أعمال عدد من المبدعين والفلاسفة. ويشير إلى تعدد مستويات الحب حول المركز الجسدى حيث يجرى تصعيده فى دوائر أرقى ضمن هندسة عاطفية، يتحول خلالها إلى ابتكار وإبداع، ويكتسب أبعادا ثقافية بتحليقه على أجنحة الخيال. ويصف الإيروسية فنيا بأنها استعارة للغريزة، بينما يصف الشعر بأنه شهونة للغة. ويمتدح فكرة «الحب الوحيد» عند رائد السيريالية الفرنسى «أندريه بريتون»، التى ناقض بها اليساريين وتجاهلهم للخاص والعاطفى. كما انتقد الدعوة للتحرر والمجون. وفى الوقت نفسه عارض ما وصفه بالتزمت الكنسى القديم المتعلق بالحب. واستعرض مفاهيم الاغتراب والاستلاب التى هى سر تعاسة البشر، وخلص إلى أن الحب هو إحدى تلك اللحظات التى تنفتح فيها الذات على العالم عبر شق فى جدار الزمن، لنرى ذواتنا والعالم فى كيان واحد. وهو ما لا يمكن وصفه إلا من خلال الفن، لأنها تجربة روحية نعود بها إلى أصلنا، حيث لا زمان ولا مكان. 

■ نيتشة بريشة مونج

◄ روح وجسد
رأى «هيجل» أيضا أن الحب يلغي التعارضات، ولذلك يفلت من مجال العقل، ويجعل الموضوعية عدما وخواءً، وأن الحياة تكتشف من خلال الحب أنها فى ذاتها خالية من أى نقص أو تعارض. وهو ما يحيلنا رغما عنا إلى الفلسفات الشرقية القديمة والتصوفية الوسيطة، حيث الوجود كيان واحد متصالح، كل ما فيه خير.

كان الإيطالي «دانتي أليجيري» قد حاول إزالة التناقض بين الحب العذرى والتحريم المسيحي فى القرن الرابع عشر، وذلك بعد حبه الجارف عن بعد لـ«بياتريس بورتينارى» التى ألهمته «الحياة الجديدة»، وصبغت مجمل أعماله وحياته، وصارت رمزه الخالد للتعبير عن المعاني الروحية، خصوصا بعد موتها المبكر فــى الرابعـة والعشرين. لكن الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى، كان قد سبقه بقرنين إلى آفاق جمعت الحب الإنسانى، مع أرقى مراتب العشق الإلهى فى كل شعورى. ويعتبر ديوانه «ترجمان الأشواق» عنوانا على هذه العلاقة. الذى لم يفهم فى عصره، وتعرض للوم، ما استدعى أن يعيد الشيخ شرح مقاصده.

■ لوحة دانتي وبياتريس في الحديقة للفنان سيزار ساكاجي

والديوان يرتبط مباشرة كما أوضح فى مقدمته بقصة حب عاشها فى مكة عام 598هـ، بطلتها تدعى «النظام»، ابنة الشيخ إبى شجاع الأصفهانى. وكانت ملهمته لهذا العمل الذى اتهم بسببه بأنه يراوغ مظهرا الغزل، ويدعى أنه يبطن التعبد، ويمتدح الحسى مدعيا أنه صورة للروحانى. والديوان مثال للإبداع الفنى عندما يصل إلى منطقة تذوب فيها الحدود بين متناقضات الظاهر، وتتلاشى الأحكام السطحية، ضمن تجربة يعرفها ذائقوها من أهل التنسك والإلهام. لكن الشيخ المحلق فى آفاقه العلوية، اضطر إلى الهبوط من عالم الرمز الرفيع، ولطف الإشارة إلى أرض التوضيح والشرح والاعتذار عن سوء الفهم، بلغة أهل الظاهر، خلافا لسمو فنه الروحى. وهى تجربة قاسية يعرفها بعض أهل الخيال والفكر، عندما يضطرون للانكماش والتصاغر ليلائموا ضيق العقول والأرواح.

ونظنه رضخ لدرء سوء الظن عن محبوبته أكثر من اعتبارات الرد على محاولات تشويهه. وهو الرجل الجسور، الذى أعلن صراحة بما يخالف تقاليد قومه أن ما لا يؤنث لا يعول عليه، وخالف بشجاعة استخدام العقيدة كوسيلة للتجييش ضد الآخرين، معتنقا دين الحب، وموليا وجهه صوب كل قبلة لأنها جميعا تؤدى إلى الله، وهو أكثر ما عرضه للانتقاد.

■ لو سالومي التي أحبها نيتشة حتى الجنون

◄ بين السماء والأرض
صرح ابن عربى فى مقدمة «ترجمان الأشواق» بعلاقة ديوانه بمحبوبته قائلا بعد الحديث عن والدها: «وكان لهذا الشيخ بنت عذراء طفيلة هيفاء تقيد النظر وتزين المحاضر والجماضر، وتحير المناظر، تسمى بالنظام، وتلقب بعين الشمس والبهاء، من العابدات العالميات السائحات الزاهدات ...، ساحرة الطرف، عراقية الظرف، إن أسهبت أتعبت، وإن أوجزت أعجزت، وإن أفصحت أوضحت..» ثم حدد مراده من الديوان بقوله: «وكل اسم أذكره فى هذا الجزء فعنها أكنى، وكل دار أندبها، فدارها أعنى، ولم أزل فيما نظمته فى هذا الجزء على الإيماء إلى الواردات الإلهية والنزلات الروحانية والمناسبات العلوية، جريا على طريقتنا المثلى فإن الآخرة خير لنا من الأولى،... والله يعصم قارئ هذا الديوان من سبق خاطره إلى ما لا يليق بالنفوس الأبية، والهمم العلية، المتعلقة بالأمور السماوية..».

ووفق المستشرق «هنرى كوربان» بترجمة فريد الزاهى فإن «ترجمان الأشواق» يمثل نمط الإدراك الشهودى الذى يميز وعى العاشقين. والفتاة «النظام» هى إشارة إلى الحكمة العلوية التى تجلت له شهودا، التى أدركها بخياله فى المستوى الرفيع للرمز، فالفتاة مدركة بوصفها تجل للحكمة الخالدة.

■ غلاف كتاب الفلاسفة والحب ترجمة دينا مندور

◄ الحب الأفلاطوني
اشتهر أفلاطون بالحب العذري. ولكن الباحث والمؤرخ البريطانى «جى كندى» من جامعة «مانشستر» توصل إلى أنه كان يؤمن بأن للعلاقة الحسية قوة روحية تلهم الإنسان الإبداع، ولم يدع للحب العذرى، بل إلى عدم الإفراط، ما يعرف بالطريق الوسط، الذى اعتبره مصدر الإلهام الفنى والفكرى. وقد اشتهر «كيندى» بإعلانه عام 2010 عن توصله إلى شيفرة سرية فى أعمال أفلاطون تقوم على رموز موسيقية. وفى كتابه «البناء الموسيقى لمحاورات أفلاطون». يشير إلى كتاب أفلاطون: «المأدبة»، الذى شبه فيه الوقوع فى الحب بالرجفة التى تنتابنا عند الإصابة بالحمى، فتكشف عن أجنحة الروح وتحررها، حيث نستعير أجنحة (إيروس- كيوبيد). أما الحب من طرف واحد فرآه عذابا، لكنه أسمى أنواع الحب لخلوه من الرغبات والأنانية وتقبله المعاناة بصدر رحب. 

■ إيروس إله الحب اليوناني الملقب بكيوبيد عند الرومان

المعنى نفسه حاضر عند الشاعر الإيطالى «فرانشيسكو بيترارك» من القرن 14، حيث أنتج أروع قصائده بإلهام من حبه الحزين من طرف واحد لحبيبته «لورا» التى تزوجت غيره. وفى رواية «آلام فيرتر» عبر الألمانى «جوته» أيضا عن آلامه الشخصية من جراء حب من طرف واحد، وجعل بطله يصادق خطيب حبيبته، وأخيرا يطلق النار على نفسه. كذلك عانى «إرنست همنجواى» حبا من طرف واحد لممرضة خلال الحرب العالمية، صبغت حياته وعالمه الإبداعى حتى وفاته منتحرا.

■ المحبوب إشارة للحكمة العلوية عند ابن عربي

وحتى «نيتشه» الداعى إلى القوة، وقع في الحب من طرف واحد وهو فى الأربعين لفتاة شقراء وجميلة اسمها «لو اندرياس سالومى»، اشتهرت فيما بعد كمحللة نفسية، وكانت مولعة بإيقاع الرجال فى حبها. وقد جثا على ركبتيه مرتين طالبا الزواج منها قبل أن يتأكد من أنه لا يعنى لها شيئا. ومع ذلك يقول إن معاناة الحب دفعته لفهم الحياة بعمق.

ووفق كتاب «الفلاسفة والحب» للفرنسيتين «مارى لومينييه» و«أود لانسولان» ترجمة دينا مندور، يبدو الحب كأزمة عانى منها كبار الفلاسفة. وكان التغلب على مخاوفهم بإحدى طريقتين: إما الإفراط فى الأيروتيكية أو التسامى العذرى على طريقة «جان جاك روسو». ويرى الكتاب أن كليهما هروب من الحب، قد يؤدى إلى المرض أو الجنون.

■ الشاعر الإيطالي بيترارك

أما البولونى «زيجمونت باومان» فقدم كتابا بعنوان «الحب السائل» نعى فيه الحب فى عصر الثقافة الاستهلاكية التى تفضل المشاعر المعلبة للاستهلاك السريع. وهو المعنى نفسه الذى سبق أن تحدث عنه الفيلسوف «تيودور أدرنو» منتصف القرن العشرين قائلا: إن للحب وجها يائسا وتافها، يبدو أنه قد انتصر. 

◄ اقرأ أيضًا | لا داعي للهدايا باهظة الثمن| في عيد الحب.. وردة واحدة تكفي

■ أفيش فيلم ألماني عن قصة حب جوته في شبابه

◄ الخير والجمال
وبتتبع معاناة الفلاسفة سنصل إلى أبيهم سقراط الذى قال إن من يمتدحون الحب يخطئون، لأنهم لا يرون سوى جزء منه؛ إذ يعتبرون الحب متحققا حين نحب، وليس حين نكون محبوبين. وقصته مع زوجته «كسانتيب» تضاربت الأخبار حولها، وقيل إنها كانت تسكب الماء القذر على رأسه أمام تلاميذه، ما جعله يعتبر الحب شأنا سماويا لا أرضيا.

لكن كتاب «سقراط فى الحب.. صناعة فيلسوف» الصادر 2019 لـ«أرماند دانجور» أستاذ الكلاسيكيات بجامعة أوكسفورد تحدث عن شباب الفيلسوف الذى بدأ حياته راقصا ومصارعا رياضيا، وعن «أنستازيا» حب حياته، التى رفضت الزواج به، وفضلت «بريكليس» الذى كان أيضا فيلسوفا وأبرز أعضاء حكومة أثينا، ووصفها منافسوه بالباغية. وقد عرفت كخبيرة فى البلاغة والعلاقات الزوجية.

■ أفلاطون

وكانت علاقتها بسقراط سببا فى تحول حياته من السعى لتحقيق النجاح المادى ضمن نخبة أثينا إلى فيلسوف لا يبالى إلا بالحقيقة. ويرجح أنها نفسها من سماها أفلاطون فى محاورته المأدبة: «ديوتيما» للتمويه. وقال «سقراط» ضمن المحاورة إنها علمته أن الحب وسيط بين الجمال والخير، وبين الإلهى والفانى، وأن الباحث عن الجمال الجسدى سينتهى به الحال متغلبا على حب الجسد إلى حب الروح، ثم يرتقى إلى حب الحكمة غير المحدود نحو الجمال.