يوميات الاخبار

ولن يُعوّض فقدَهم أحدٌ

د. مجدى أبو الخير
د. مجدى أبو الخير

أدركتُ وقتها ودون أدنى شكّ أننا عندما نُربّى أبناءنا إنما نُربّى فى الحقيقة آباءنا وأمهاتنا

قبل سنواتٍ اصطحبتُ أبى -رحمه الله- وكان وقتها ذا اثنتينِ وسبعين ربيعًا إلى الحلاق الباكستانى المجاور للمنزل الذى أسكنه شمال الرياض، وبعد أن جلس أبى سألنى الحلاق كعادةِ أهل مهنته: رأسًا أم لحيةً؟! أم الاثنتينِ معًا؟! غير أن اللافت للنظر أنه سألنى أنا ولم يسأله هو، ودون غرابةٍ منى أجبتُه من فورى وكأننى أنتظر سؤاله لى لا هو، وكأننى المسئولُ عنه وولى أمره لا هو. وبعد أن أسلم أبى رأسه إلى هذا الباكستاني، والذى راح هو الآخر يقطفُ من بياض رأسه ما بدا له نابيًا وشاذّا مهذّبًا إياه، كل ذلك وأنا أتابع وأراقب عن كثبٍ واهتمامٍ، وبعد أن فرغ من رأسه وذقنه سألنى عن شاربه الخفيف أصلًا: ما حاله؟! فأجبته : دَعْه وهـذّبْه وحسبْ.

هنا، وبنبرةٍ فيها استسلامٌ وطواعيةٌ وامتثالٌ لأيّ قرارٍ سيصدرُ بحق شاربه الذى يحمله هو لا أنا، وبصوتٍ متهدّج تركتْ السنون عليه بصماتها مثلما طالت باقى أعضائه من مفرقه حتى أخمصه، شَيْبٌ وتجاعيدُ وجهٍ وتقاربُ خطوٍ، قال أبي: « أنت عاوز تشيله ولا إيه «؟! فأجبته من فورى : لأ طبعًا، تحمله أنت كل هذه السنين وأشيله أنا النهاردة؟! وفى أول مرة أصطحبك إلى الحلاق؟! وبعد أن فرغ الحلاق تمامًا من أداء دوره لم يتخلَ أبى عن عرشه -كرسى الحلاق- إلا بعد أن أومأتُ له بذلك، وتأكدى من عدم وجود أية ملاحظات على عمله. هنا فقط تذكرتُ وقتَ أن كان أبى يصطحبنى هو الآخر ولم يتجاوز عمرى أصابع اليد الواحدة إلى الحلاق، ويقوم بدوره حيالَ ذلك، ويتابع ويراقب ويصنع وقتها مثلما كان منى بالأمس.

وبين الأمس القريب والأمس البعيد أدركتُ هنا معنى أن يُنادَى على المرء منّا بـ (فلان أبو فلان) إذا كان ولدًا يقصد أباه، وبـ (فلانة أم فلان) إذا كانت بنتًا يقصد أباها؛ فهو أبو أبيه، وهى أم أبيها! وتذكرتُ وقتها كيف كان الأبُ فى بيئتنا المتواضعة يُنادِى لا شعوريًّا على (ابنه يابا) ويُنادى على ابنتِه (يمّه). وقلتُ فى نفسي: ربما يكون هذا فى بيئتنا البسيطة ومجتمعنا البسيط وفى حدود دولتنا وحسبْ، غير أننى وجدتُ فى مجتمعات الطبقة المتوسطة وما فوقها، وخارج حدود دولتنا كذلك الأبَ ينادى بصورةٍ تلقائية على ابنه (يا بابا) وعلى ابنته (يا ماما) وربما أحيانا يُناديها يا (بابا) ربما لقيامها وحدها عن جدارةٍ وكفاءةٍ بدور الأب والأم معًا.

عندئذٍ أدركتُ محدِّثًا نفسى أننا عندما نُربى أبناءنا ونأخذ بأيديهم، ونقوم على رعايتهم وجميع شئونهم من مأكل وملبس ومشرب، وقضاء حوائجهم، وأخصّ خُصوصياتهم، والتى لا ينبغى لأحدٍ غيرنا الاطلاع عليها، إنما نصنع معهم ما ننتظره منهم، ونغرسُ فيهم ما سنحصُدُه نحن بأيدينا منهم عندما تفعل بنا الأيامُ والسنون أفعالها. أدركتُ وقتها ودون أدنى شكّ أننا عندما نُربّى أبناءنا إنما نُربّى فى الحقيقة آباءنا وأمهاتنا؛ فلْيغرسْ كلٌّ منّا ما شاء له أن يغرس، ولْيبْذُر من البذور ما شاء له أن َيبْذُر؛ فالكلُّ حاصدٌ وجانٍ ما غَرَستْه وبذرتْه يداه؛ فكما تُدينُ تُدان.

فى حضن أمى

كان الوقتُ عشاءً فى قريةٍ يطغى ظلامُ ليلها -إذا ما أقبل- على نور مصابيح شوارعها، وقد عَزّتْ شأن مثيلاتٍ لها، وعند دَرَجٍ أسمنتى وربما حجارة جانبَ ترعةٍ ممتدة بمحاذاة قريتنا من غربها لشرقها حيث جرت عادةُ الناس وقتها ذهابًا إليها طلبًا لتنظيف بعض أغراضهم، ربما قناعةً منهم وربما لتواضع مفردات الحياة حِينها، وكثيرًا ما كنتُ أرافق أمى رغمًا عنها وبإلحاح الصغار، وكنتُ أجاورها أحيانًا إحدى الدَّرجات مداعبًا الماء، وإذا بى مرةً ودون أن أدرى هويتُ داخله؛ وإذا وأنا أصارعُه طلبًا للنجاة بظلمةٍ حالكة تتخللها أضواءٌ بسيطة تجيء وتذهب، أراها تلمع هناك أعلى فى تسارعٍ شديدٍ وسط هذه الظلمة تسارع الأحداث إلا من ثوانيها السمجة الثقيلة، تلفّها جَلَبةٌ ملأت المكان حركةً وصراخًا وصياحَ استغاثةٍ كل ذلك أذكره، ولا تفتأ ذاكرتى تذكره ولا أنساه كلما ذكرتُ أمى ونازعتنى نفسى شوقًا إليها، رغم مرور أكثر من أربعة عقودٍ على ذلك، وإذا بأمى تُلقى بنفسها من فورها لتنقذني، وهى التى لا تعلم من أمور السباحة حتى حروف هجائها، مع أن عاطفتها نحوى لم تسعها معاجم اللغة ومداد البحر وألسنة البيان، لم تلتفت أمى لأحدٍ يَمنةً ولا يَسْرةً، لم ترقُبُ نُصرةً ولم تومئ طلبًا لها، لم تستغث حتى بلحظها، فلم تعد تسمع صوتًا سوى ندائى عليها (يمّه) حتى التقت عينانا عبر نافذةٍ شفافةٍ من الماء تفصل بيننا، هى فى ظاهرها ومن قِبلها كنتُ أنا، التقت عينانا فى ظلمةٍ يرقبُها هناك ذاك الضوءُ الخافتُ القادمُ من بعيد، التقت عينانا لقاءَ العاشق بمعشوقه، لقاء الهلع بالأمان فألقت بثِقْلها عليّ، وكفى، هنا وهنا فقط صمت كلُّ شيء بالنسبة لي، وإن علا الضجيجُ والصراخُ، فالأمرُ برمته لم يعُد يعنيني، ولم أعد أذكر بعدُ منه شيئًا فقط أننى بِتّ فى حضن أمي، كِلانا غريقُ فِطرتِهِ.

ولِوالديْك

أصدقُ عاطفةٍ تجاهك لا تُدانيها أخرى ولا تشوبها شائبةٌ قطّ هى عاطفة الأب والأم؛ فليس هناك مَن هو أصفى وأصدق وأخلص منهما فى حُبّه لك، حتى وإن أسأتَ إليهما، حتى وإن بدا منهما فيما ندر خلافُ ذلك لجُرمٍ ارتكبته وعقوقٍ اقترفته فى حقّهما. إنها عاطفةُ الفطرة، عاطفةُ المنح المطلق والعطاء اللامحدود عن طيب نفسٍ وخاطر دون أدنى ترقّبٍ لجزاءٍ فى أيّ صورةٍ كان، إنها عاطفةُ الدعاء عليك إذا اشتطّا فى غضبهما عليك والكُره لمَن قال آمين. إنها عاطفةٌ تتجاوز حدود العقل والمنطق فلا تخضع عندئذٍ لمقاييس البشر خارجها فى علاقاتهم الحياتية وُدًّا بوُدّ وحُبًّا بحُب، وهذا فى مقابل ذاك.

فما إن يستشعر الأبوانِ أى أذىً قد يلحق بأبنائهم حتى يتوقف العقل لديهما تمامًا عن العمل دون تقديرٍ منهما لعاقبةٍ أو خطر؛ فهما أسبقُ وأسرع من كل احتمالٍ وأقوى من أيّ خطرٍ، بينما يختلف الأمر مع غيرهما تجاهك، وإن كانوا أقرب الناس إليك؛ فللعقل عندئذٍ دوره دون سواه إلا فيما عزّ وندر وبات مستحيلًا رابعًا. كلّ عاطفةٍ يُؤخذ منها ويردّ إلا عاطفتهما، وكل عاطفةٍ دونهما إنما هى عاطفةٌ مشروطةٌ ومقيدةٌ تخضع لقانون العقل عند أحسن الناس عدًلا وإنصافًا، إحسانًا بإحسانٍ والبادئ أظلم، ولربما بادر المرء بحُسن الشرط لغيره ورغم ذلك لم يجد منه سوى سوء الجواب.

أخ 

أقربُ الناس إليك وأكثرُهم حرصًا عليك وحبًّا لك بعد أبيك وأمك (أخوك) يتمنى لك كل خيرٍ، وأن تكون دومًا فى خيرٍ وأحسن حال حتى وإن لم يُعطك، حتى وإن وجدتْ وساوسُ الشيطانِ طريقها يومًا بينكما لكنه فى عميق نفسه يفرح لفرحك ويحزن لحزنك ويتألم لألمك؛ فإذا ما أصاب أخاك خيرٌ فإنك أول ما ترد إلى ذهنه وقلبه ليُصيبك الخيرُ الذى أصابه، ولنا فى سيدنا موسى عليه السلام خير شاهدٍ ودليلٍ فعندما اختاره الله لرسالته سأل ربه أن يُشرك معه أخاه هارون؛ فكان بحقٍّ أكرم أخٍ على أخيه « واجعل لِّى وَزِيرًا من أهلى هارون أخى اشْدُدْ به أَزْرِى وَأَشْرِكْهُ فى أمرى «.

ولن ينازعك مكانتك عند أخيك سوى بضع نفسه وفلذة كبده (ابنه) فقلبُه بينكما دومًا فى عِراك، أيكما يَقْدُم الآخر، فأنتما لديه كل حياته فى بدئها وختمها، وبكما معًا تأنس روحه وتطمئن وتأمن؛ فأخوك يرى فيك عمره الفائت بأكمله وحياته الأولى مذ أول صرخةٍ له فى الحياة، ويشتمّ فيك عطر أبيكما وأمكما، يشتمّ فيك براءة البدايات وبَكارتها، فكلُّ أولٍ فى حياته كان معك.

يرى أخوك فى ابنه، والذى جُبل على حبّه وفُطِر، نفسه التى رغبها ومستقبله الذى يتمنّاه، يرى فيه قوته حين تخونُه قُواه، وأُنسَه وسامره حين ينفضّ عنه كلُّ أنيسٍ وسميرٍ، يرى فيه حياةً حين تنقضى عنه الحياة، وذكرى حين تنساه الذواكر. فلا أحد يَقدُم الابن والأخ أو يفوقهما؛ فكلاهما مُقدَّم لا يبغى أحدهما على الآخر أو يطغى؛ فالأخ مقدّمٌ لتقدم وجوده وأسبقيته فى حياتك، وفقدُه لا يُعوّض وثُلمةٌ لا تُسدّ، والابن مقدّم لأنه حياةٌ لك بعد الحياة، فإذا ما خُيِّر المرءُ بينهما يومًا فإن قسوة الخيار تفوق كل قسوة، وأيّ نفسٍ تقوى على ذلك؟! ولا أدرى أى رباطة جأشٍ وأيَّ ثباتٍ انفعاليٍّ وأيّ حكمةٍ قد بلغتها تلك المرأة على عهد الحجّاج والتى قدمت أخاها على زوجها وابنها عندما خُيّرت بين ثلاثتهم لافتداء أحدهم مُبرّرةً ذلك بقولها: الزوج موجود والابن مولود والأخ مفقود؟!

وأيّ ألمٍ يقترفه الأخ فى حقّ أخيه ليس بعده سوى الحسرة والندم، بدءًا من حسرةِ قابيل ومرورًا بإخوة يوسف وحتى حسراتٍ لا حدّ لها فى يومنا هذا. نعم، ربّ أخٍ لم تلده أمك، لكنه لن يكون عند جدّ الخيرِ والخطر كمَن ولدته أمك، فيبقى الأخُ أخًا وإن نبا ونأى، ومَن شذّ فى أخوّته وهان عليه أخوه فهو شاذّ تلاحقه الحسرة.

أخاكَ أخاك إنّ مَن لا أخ له... كساعٍ إلى الهَيْجا بغير سلاحِ
أخاكَ أخاكَ فهو أجَلُّ ذُخرٍ ... إذا نابتْك نائبةُ الزمانِ