خواطر الإمام الشعراوي .. مخالطة مال اليتيم

الإمام الشعراوي
الإمام الشعراوي

يواصل الشيخ الشعراوى خواطره حول الآية 220 من سورة البقرة: «فِى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» بقوله: ونعرف أن اليتامى قد لا يدخلون فى دائرة المحتاجين لكن الله ينبهنا إلى أن المسألة فى اليتيم ليست مسألة احتياج إلى الاقتيات، ولكنه فى حاجة إلى أن نعوضه بالتكافل الإيمانى عما فقده من الأب، وذلك يمنع عنه الحقد على الأطفال الذين لم يمت آباؤهم.

وحين يجد اليتيم أن كل المؤمنين آباء له فيشعر بالتكافل الذى يعوضه حنان الأب ولا يعانى من نظرة الأسى التى ينظر بها إلى أقرانه المتميزين عليه بوجود آبائهم، وبذلك تخلع منه الحقد. وكان المسلمون القدامى يخلطون أموالهم بأموال اليتامى ليسهلوا على أنفسهم، وعلى أمر حركة اليتيم مئونة العمل، فلو أن يتيمًا دخل تحت وصاية إنسان، وأراد هذا الإنسان أن يجعل لليتيم القاصر حياة مستقلة وإدارة مستقلة ومسلكًا مستقلا فى الحياة لشق ذلك على نفس الرجل، ولذلك أذن الله أن يخلط الوصى ماله بمال اليتيم، وأن يجعل حركة هذا المال من حركة ماله، بما لا يوجد عند الوصى مشقة. ولما نزل قوله تعالى: «وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتى هِيَ أَحْسَنُ» «الأنعام: 152». وتحرج الناس، وتساءلوا كيف يعاملون اليتيم خصوصا أن الحق سبحانه وتعالى قال: «إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا» «النساء: 10».

وكف الناس أيديهم عن أمر اليتامى، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يسهل الأمر، فأنزل القول الحق: «قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ» والمخالطة تكون على أساس أن اليتامى إخوانكم واحذروا جيدًا أن يكون فى هذا الخلط شيء لا يكون فيه إصلاح لليتيم. وإياكم أن تفهموا أن الشكلية الاجتماعية تكفى الوصى فى أن يكون مشرفًا على مال اليتيم دون حساب؛ لأن الله يعلم المفسد من المصلح. فلا يحاول أحد أن يقول أمام الناس: إنه قد فتح بيته لليتيم وإنه يرعى اليتيم بينما الأمر على غير ذلك؛ لأن الله يعلم المفسد من المصلح.

ويقول الحق: «وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ» والإعنات هو أن توقع غيرك وتدخله فى أمر فيه مشقة، فلو لم يبح الله لكم مخالطتهم لأصابتكم مشقة فيسر الله للمؤمنين من الأوصياء أن يخالطوا اليتامى، ومعنى المخالطة: هو أن يُوحد الوصى حركة اليتيم مع حركته، وأن يوحد معاش اليتيم مع معاشه، بدلاً من أن يكون لليتيم على سبيل المثال أدوات طعام مستقلة، وقد كان هذا هو الحاصل. وكان يفسد ما يتبقى من الطعام؛ فلم تكن هناك وسائل صيانة وحفظ الأطعمة مثل الثلاجات، وكان ذلك ضررًا باليتيم، وضررًا أيضا بمن يشرف عليه.

لكن حين قال: «وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ»، فكان ذلك توفيرا للمشقة على الأوصياء. فالمخالطة هى المعاشرة التى لا يتعثر فيه التمييز. وقد درسنا فى طفولتنا درسا بعنوان (الخلط والمزج) فالخلط هو أن تخلط على سبيل المثال حبوب الفول مع حبوب العدس، أو حبوب الأرز مع حبوب البندق. وعندما تأتى لتمييز صنف من آخر، فأنت تستطيع ذلك، وتستطيع أن تفصل الصنفين بعضا عن بعض بالغربال؛ ولذلك فالمخالطة تكون بين الحبوب ونحوها. أما المزج فهو فى السوائل.

والحق سبحانه يرشدنا أن نخالط اليتامى لا أن نمزج مالهم بمالنا؛ لأن اليتيم سيصل يوما إلى سن الرشد، وسيكون على الوصى أن يفصل ماله عن مال اليتيم.

ويتابع الحق: «والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح» لأن الوصى قد يدعى أمام الناس أنه يرعى حق اليتيم، وأنه يقوم بمصالحه ويحترم ماله، لكن الأمر قد يختلف فى النية وهو سبحانه لم يكل الأمر إلى ظواهر فهم المجتمع لسلوك الوصى مع اليتيم وعن المخالطة، بل نسب ذلك كله إلى رقابته سبحانه، وذلك حتى يحتاط الإنسان ويعرف أن رقابة الله فوق كل رقابة، ولو شاء الحق لأعنت الأوصياء وجعلهم يعملون لليتيم وحده، ويفصلون بين حياة اليتيم وحياتهم ومعاشهم.

وفى ذلك مشقة شديدة على النفس. وحتى نفهم معنى العنت بدقة فلنقرأ قول الحق سبحانه: «لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ» «التوبة: 128».

لقد جاءكم أيها المؤمنون رسول منكم، عربى ومن قريش يبلغكم رسالة الله سبحانه وتعالى. يحرص عليكم كيلا تقعوا فى مشقة أو تعيشوا فى ضنك الكفر، حريص على أن تكونوا من المهتدين. فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يأتى من جنس الملائكة، ولكن جاء من جنس البشر، فلا يقولن أحد: إنه لا يصلح أسوة لي.

إنه نشأ فى مكة التى تعيش بها قريش، وتاريخه معروف لقومه: بدليل أنهم خلعوا عليه أول الأوصاف المطلوبة والواجبة للرسالة وهى الأمانة، فالحق جاء به من البشر وليس بغريب عليهم، وبمجرد أن أخبر بالوحى وجد أناسا آمنوا به قبل أن يقرأ قرآنا، وقبل أن يأتيهم بتحدٍ.