حديث الأسبوع

خلطة حقوقية سياسية

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

 لم يختلف التقرير الجديد الذى أصدرته منظمة (هيومان رايتس ووتش) الأمريكية هذه السنة، ونشرته قبل أيام، تستعرض من خلاله تقييمها لأوضاع حقوق الإنسان فى مائة دولة فى العالم عما سبقه من التقارير السابقة، حيث خرج إلى الرأى العام كنسخة منقحة للتقرير السابق الذى أصدرته المنظمة قبل سنة من اليوم. وفى كثير من الأجزاء أعادت المنظمة نشر نفس الفقرات بنفس الوقائع، فى حين نُسبت أحداث أخرى لسنة 2023، بينما أغفلت أو تعمدت إغفال أنها فى السنة الفارطة نسبتها لسنة 2022. كما أن التقرير لم يختلف عن سابقه فيما يخص إطلاق العنان لتعابير فضفاضة لا تقدم معطيات دقيقة وملموسة، ناهيك عن تعمد إعلان مواقف سياسية فى قضايا ونزاعات عالمية لا تزال معروضة على أنظار الشرعية الدولية.


كل هذه تفاصيل صغيرة وكبيرة معرضة لقراءات مختلفة وتقييمات متباينة من طرف المحللين المتخصصين، لذا نترك ذلك لأصحاب الاختصاص والخبرة، ويهمنا أن نتعامل مع هذا التقرير من زاوية أخرى تبدو أكثر أهمية، وتخص علاقة هذا التقرير بالمواقف الأمريكية الرسمية وعلاقة منظمة (هيومان رايتس ووتش) نفسها بالإدارة الأمريكية، وبالتالى التساؤل عما إذا كانت المنظمة، التى تقدم نفسها بهوية حقوقية، تقوم بدور ما لتحقيق أهداف السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية ؟
والأكيد أن جرائم الإبادة التى تقترفها قوات الاحتلال الإسرائيلى ضد الشعب الفلسطينى فى غزة صالحة لقياس نزاهة مثل هذه التقارير واختبار مصداقية منظمة (هيومان رايتس ووتش). وفى هذا السياق، يجب أن نسجل أولا أن المجازر والمحارق التى تقترفها قوات الاحتلال الإسرائيلي، والتى لا يختلف اثنان على أنها تتجاوز جرائم الإبادة بمفهومها التقليدي، وجرائم التدمير والدمار الشامل التى ترتكبها نفس القوات، واستهداف المساجد والمدارس والمستشفيات وسيارات الإسعاف والصحافيين والأحياء الآهلة بالسكان المدنيين، وغير ذلك كثير، ليس إلا حربا بين إسرائيل وحماس، حسب رصد المنظمة الأمريكية المذكورة، وهذا الرصد يتوافق تماما وبصفة مطلقة مع الموقف الأمريكى الرسمي، الذى يرى أن ما يحدث مجرد دفاع شرعى عن النفس من طرف إسرائيل ضد حماس، وبكثير من الذكاء حاولت المنظمة المساواة بين الضحية والجلاد حينما اتهمت (طرفى الحرب) بـ»اقتراف أعمال ترقى إلى جرائم حرب»، وبذلك فإنه حسب تقرير المنظمة الحقوقية، فإن تقتيل أزيد من 26 ألف مواطن مدني، أكثر من ثلثيهم أطفال ونساء، يوازى ويعادل وفاة بضع عشرات واعتقال عشرات آخرين، علما أن الذى يواصل اقتراف المجازر وجرائم الإبادة، هى إسرائيل وليس طرفا آخر، ومهم أن نسجل أيضا أن (هيومان رايتس ووتش) تجنبت الدعوة إلى وقف المجازر فى تقريرها، تماما كما تحرص الإدارة الأمريكية على ذلك .


ومن السخرية أن نرى المنظمة تنتقد قيام بعض الدول بالكيل بمكيالين حيال بعض القضايا، مستدلة بما «تمارسه الحكومة الصينية واعتقالها التعسفى للمدافعين عن حقوق الإنسان وتشديد سيطرتها على المجتمع المدنى والإعلام والإنترنت»، وهى بذلك تمارس ما تنتقده فى الآخرين، لأنها كالت بمكاييل متعددة فى تعاطيها مع قضايا حقوق الإنسان فى العالم، ولم تر فى مواقف الدول الغربية، فيما يقترف من جرائم إبادة فى حق الفلسطينيين ما يدعو إلى الانتقاد، بل المقلق بالنسبة إليها والذى يمثل انتهاكا لحقوق الإنسان يقتصر على ما يجرى فى الصين، وذلك ما يؤكد على ارتباطها بالسياسة الأمريكية الخارجية. وقد يبدو الأمر أكثر وضوحا وتجليا فيما يتعلق بالموقف من الحرب فى أوكرانيا، حيث تعاملت المنظمة بحماس كبير يكشف حدة قناعتها السياسية إزاء هذه الحرب، بعدما تغنت وطربت بإصدار المحكمة الجنائية الدولية لمذكرة اعتقال فى حق الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، وهو ما يتوافق تماما وبصفة مطلقة أيضا مع الموقف الأمريكى الرسمى حيال هذه القضية.


وموازاة مع ذلك، تركز المنظمة الحقوقية الأمريكية بشكل مثير للملاحظة على قضايا حقوقية صغيرة ومتفرعة فى كثير من البلدان العربية، خصوصا فى دول شمال إفريقيا، فى المغرب كما فى الجزائر، كما فى تونس، كما فى مصر، كما فى ليبيا، كما فى موريتانيا. وفى هذه الحالة تبدو المنظمة حريصة على التقاط التفاصيل المملة وتضخيمها، وحتى إن لم تقبض بيدها على وقائع تشفى غليلها، عادت إلى تقارير سابقة تستنسخ وقائع منها وتزيد فى عمرها الافتراضى بتضمينها فى كل تقرير جديد، ودون أن تتحلى بأدنى منسوب من النزاهة من خلال التذكير بزمن وقوعها بهدف إعطاء الإيهام بأنها وقعت خلال السنة موضوع التقييم والرصد. فى نفس الوقت الذى تتعمد فيه المنظمة مع سبق الإصرار والترصد التقليل من جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية تقترف فى نقطة أخرى توجد بالمحاذاة مع الدول التى تحظى بالنصيب الأوفر من اهتمام المنظمة الحقوقية الأمريكية، وهو ما ينسجم تماما أيضا مع السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية.


بعد كل هذا وغيره كثير، فمن الواضح أن منظمة (هيومان رايتس ووتش) الأمريكية، ومن خلالها كبريات المنظمات الحقوقية الغربية، لا تبذل كل هذه الجهود فى رصد أوضاع حقوق الإنسان فى العالم، خصوصا من خلال تركيزها على منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، بهدف خدمة قضية حقوق الإنسان فى حد ذاتها فحسب، بل الأكيد أن ثمة أهداف أخرى مبطنة تستخدم هذه القضية الكونية مخالب حادة لتنفيذ السياسات الخارجية للدول الممولة لها. وهذا ما ينطبق تماما فى التقرير الأخير لمنظمة (هيومان رايتس ووتش) الأمريكية الذى قام باستعراض مفصل للمواقف الأمريكية تجاه القضايا الساخنة فى الأوضاع العالمية المعيشة وغلف استعراضه وانتقاداته فى قوالب حقوقية جاهزة.