تساؤلات

كيف كانت رحلتك؟

أحمد عباس
أحمد عباس

السؤال كتبته دون تفكير كأنه حل وتسرسب من بين أصابعى دون أن يمر على عقلى، انكب من رأسى فجأة لما حان عيد ميلاد صديق عزيز جدا أعرفه منذ نصف عمره ويعرفنى منذ نفس المدة، كلانا يعرف الآخر جيدا ويفهم لؤم نظرته وضحكته المدفونة ويستطيع أن يرى نواجذ الآخر وقهقهته بينما هو صامت أصلا.
كيف كانت رحلتك؟ سألته.
صديقى الذى أقول إننى أفهمه بنظرة عين هو الآخر يقرأ عقلى من نبرة صوتى، إذا كانت خشنة يفهم أننى أسخر واذا كانت ناعمة يدرك مدى غضبى وحزنى وثورتى وغيرها من المتناقضات، ولما رأى سؤالى له فى عيد ميلاده «الكام وأربعين» عرف اننى لا اسأله عن رحلة قضاها ثم عاد، بل عن المشوار حتى هذه اللحظة من عمره، فرد حينها بكلمة واحدة فهمت أنه لمس قصدى وقال: آااه.
اكتفيت أنا بإجابته واعتبرتها ردا وافيا، أما الأصدقاء المشتركون بيننا فانهالوا على كلينا باتصالات مكثفة يسألون عن معنى السؤال والاجابة أيضًا، أين كان لتسأله عن رحلته، هل غادر البلاد أم كان مسافرا ثم عاد أم ماذا؟ ثم لماذا رد بـ آااه، هل هو مريض ولم يخبر أحدا أم يخفى شيئا ما عن الجميع وأنت تعرفه، أم لعله يمر بضائقة مالية، هل أنتما أصدقاء الى حد يجعل بينكما سرا لا يفهمه سواكما؟ وكل ذلك فى ظنى فى احسن احواله إما غباء أو تطفل وأنا أكره كلا الأمرين.
صديقى الذى هو من بيئة فلاحية -أحبها جدا- له طولة بال أحسده عليها، له ملكة الكلام وتبادل الكلام وأكل الكلام والاستماع والانسجام، قرر الرد على الجميع بذكاء مصرى فطرى وساير كل سائل على حدة، أما أنا فلى ابتسامة صامتة تميل أكثر للبلاهة -أحفظها وأحبها- أجيد رسمها تساعدنى دائما فى مواجهة مثل هكذا أسئلة، تستطيع امتصاص كل الحماقات والسذاجات والافتراءات المحيطة، جربتها مرات ونفعت ثم لما زادت عن حدها عاودت طبيبا نفسيا فنصحنى بالمداومة عليها، ثم أضفى عليها وصفا طبيا يستطيع معه أن يريح ضميره ويحلل الڤيزيتا ووصفها بأنها حيلة دفاعية ممتازة للشخصية قصيرة البال مثل شخصيتى، وقال لى: استمر، استمرأت الوضع أنا وصارت طبيعتى.
يسأل الأمريكان هذا السؤال عادة لما يستقبلون عزيزا كان مسافرا وعاد أو يكون متنقلا بين بلد وآخر عقب رحلة طائرة فيطمئنون بهذه الطريقة وأنا أحب طريقة الأمريكان فى الكلام لا اللغة، فأنا أحب لغتى جدا وأقدسها ولكن أميل لطريقة الأجانب فى الافصاح والتعبير.
لذا اعتبرت سن صديقى وعمره هو رحلته التى تستأهل الاطمئنان عقبها، ذلك ان رحلته كانت شاقة جدا كما جميعنا، فكلنا واجه ما واجه من فقد ووجع وضحك ودموع فرح وألم وصعود وهبوط ومساندة ومساعدة وخذلان ولا نزال، المسألة أن كلنا نفوس مهما بدت صلبة هى فى النهاية ضعيفة أو ان شئت وصفا حقيقيا فقل انها نفوس هشة حتى انك اذا ضغطت عليها برفق تكاد تسمع خشخشاتها من بعيد، آااه.. والله يا صديقى فهمت اجابتك من دون استرسال كما تفهمنى أنت، عافاك الله من كل ألم وعافانا، دمت طيبا وسعيدا ومواجها قويا لصلف العمر وقسوته، والسلام ختام.