محمود الوردانى ..على هامش رواية «الطنطورية»

محمود الوردانى
محمود الوردانى

إذا كانت «رقية» التى جاءت رواية رضوى عاشور «الطنطورية» -دار الشروق- الطبعة الثانية-2011 على لسانها، يجرى النظر إليها وكما كتب الكثيرون باعتبارها تمثل القضية الفلسطينية، أو هى القضية ذاتها، أى بوصفها رمزا وتجسيدا لفلسطين،  بكل ما تثيره هذه الكلمة من تداعيات تتعلق بالنكبة والاحتلال والمقاومة والشتات .

إذا كان ذلك كذلك، فإننى أظن أن هذا هو ما يلحق أبلغ الضرر، ليس برواية رضوى عاشور فقط، بل بالقضية ذاتها، فلا رقية هى فلسطين ولا القضية، بل هى امرأة من لحم ودم، منذ خرج لها صبى قريب من سنها من البحر، اسمه يحيى من عين غزال، يمشى بساقين مشدودتين إلى الشاطئ، عاريا لايستره سوى سروال أبيض مشدود على خصره بحبل.

امرأة لها هفواتها الصغيرة، ويمكن لها أن ترتكب أخطاء عابرة ولاتملك نفسها من الاستسلام للحظات منفلتة من الشبق، وفى الوقت نفسه هى امرأة قوية تكتب نفسها. القضية ليست هدفا لرقية لأنها تكتب الحياة ذاتها منذ ثلاثينيات القرن الماضى وحتى مطلع القرن الجديد.

رقية وزوجها أمين وأبناؤهما الثلاثة وابنتها المتبناة ليسوا رموزا أو إحالات لمعان أو أفكار خارج العمل المكتوب، بل لهم وجودهم الخاص وملامحهم التى تخصهم، وبالتالى تناقضاتهم وتحولاتهم ورحلاتهم وتوزعهم فى الشتات، من فلسطين إلى معسكرات اللاجئين فى لبنان وعمان وليس انتهاءً بأبو ظبى والإسكندرية. أقصد أن الكاتبة أخلصت وأنصتت للمنطق الداخلى الذى تفرضه روايتها.

هم ليسوا ملائكة من الفدائيين الذين ينزلون من السماء، ويصنعون المعجزات ويهزمون الأعداء ويزأرون كالليوث!. هم بشر حقيقيون يقاومون بلا أوهام، وربما انتابهم الخوف أحيانا، كما أنهم يخطئون ويصيبون.

من جانب آخر، لاتلجأ الكاتبة للصوت العالى، بل تتجنبه متعمدة. لذلك كانت لغتها متقشفة وعارية من الظلال ومتخلصة من الحواشى والزوائد المجازية. أوردت الوقائع عارية وجارحة وموّثقة. النزوح والطرد من فلسطين إلى معسكرات اللاجئين فى الأردن ولبنان، ثم طردهم من البلدين على التوالي، وتوثيق يعتمد على شهادات لايرقى لها الشك لأبشع المذابح ومعسكرات التعذيب فى صبرا وشاتيلا ، فى المستشفيات التى يتم اقتحامها وتصفية من فيها أو أسرهم، وحواجز الجنود الإسرائيليين فى قلب المدن، وبرفقتهم كتائبيون وعملاء يشاركون فى التعذيب والاغتصاب حتى الموت. وتو ثيق لايقل أهمية لماجرى لمركز الأبحاث فى بيروت، الذى كان يحفظ الذاكرة حرفيا ويضم وثائق دامغة رسمية كانت فى حوزة حكومات الانتداب وقبل أن تكون هناك إسرائيل، وكيف تم تدمير جانب منه ونقل الباقى إلى إسرائيل.

ووسط كل هذا تملك رقية وغيرها من الفلسطينيين القدرة على الفرح، ويقيمون مثلا حفلات الزواج فى مدن بعيدة، ويستقدمون الأهل من هنا وهناك (واحد من حفلات الزواج عُقد فى مدينة يونانية لأن العروس من أصول تنتمى لعرب الداخل).

يستطيع القارئ أن يشم رائحة فلسطين. لهجة الفلسطينيين وأغانى بهجتهم وبكائياتهم فى البلاد والمنافي. إجبارهم على الرحيل المتواصل أو البقاء فى معازل مراقبة لايستطيعون مغادرتها.

الحكاية الفلسطينية لاتحتاج إلى الصراخ أو البكاء أو الصوت العالى. تحتاج إلى ما فعلته رضوى عاشور فى عمل نادر برهافته وعدم تورطه العاطفي. عمل يضيف للقضية ولايقدم القضية ذاتها. 

  وأخيرا أعيد تقديم اعتذارى للكاتبة الراحلة، وأعيد اعترافى بخطئى وأدعو القارئ لتأمل « الطنطورية» واثقا أنها ستنال تقدير الكثيرين.