يوميات الاخبار

نوال مصطفى تكتب: أيام الفن والجمال

نوال مصطفى
نوال مصطفى

جذبتنى كالنداهة لأغوص فى بحورها اللانهائية. وكلما غصت أكثر، أطفو قليلًا، لأعاود الغوص من جديد. عشت الصحافة كأنها الحياة بأكملها!

شيء رائع أن تزدحم أجندة مواعيدك بلقاءات محورها الرئيسى هو الإبداع. أعيش هذه الحالة التى أحبها، وأشعر داخلها أننى «أنا» التى أحب أن أكون. مع هؤلاء الذين سوف أحدثكم عنهم فى هذه اليوميات أشعر بانتماء حقيقى، أحس أننى طبيعية أسبح فى مياهى التى أحب أمواجها وعذوبة أجوائها. أهل الفكر والفن والأدب، ولا أجمل!

أواخر ديسمبر وإرهاصات يناير، ذلك الوقت من السنة الذى أحبه، حيث تلتقى النهايات بالبدايات فى سيمفونية بديعة، موحية ملهمة. يحتشد الكتاب والأدباء استعدادا للحدث الأهم عندهم «معرض القاهرة الدولى للكتاب». تزدحم المطابع، وينشغل الجميع باللحاق بالمعرض، حيث تتباهى دور النشر بعرض أحدث منتجاتها الثقافية، والإبداعية من كل فروع المعرفة والفن والإبداع. عرس حقيقى طالما انتظرته، وتعلق قلبى بقدومه فى نهاية يناير من كل عام، كنت من رواده منذ طفولتى وحتى الآن، تنقلت معه كلما تحرك من مكانه، وكلما مضى بى قطار العمر. من دار الأوبرا، إلى أرض المعارض بمدينة نصر، إلى مركز المؤتمرات بالتجمع الخامس. لم أتوقف سنة عن متابعته والاشتباك مع أحداثه، كقارئة أولا، ثم ككاتبة، والآن باعتبارى كل ذلك فى آن واحد، بالإضافة إلى إشرافى على النشر الثقافى لروايات مصرية للجيب.

أفرح من قلبى للإقبال الجماهيرى الذى أراه يوميا فى المعرض رغم برودة الجو الشديدة، والأمطار الغزيرة! هذا الشعب العبقرى يعشق الثقافة، الفن، والأدب، لذلك اصطحب كل أب أبناءه وشد الرحال إلى معرض الكتاب. نحن بلد الفن والإبداع، قوة مصر الناعمة هى الأصل، وهى السند والملهم لأجيال تتابع وتحمل راية الجمال.

زهور وبساتين

فى أول أيام المعرض التقيت أصدقاء أعزاء: إيمان حيلوز مؤسسة والمدير التنفيذى لتطبيق أبجد، وهو واحد من أهم تطبيقات نشر الكتب الإليكترونية، وأكثرها رواجا، كذلك ياسر الزهار مدير مكتب القاهرة، وحنين مديرة مشروعات أبجد. وكان لقاء مليئا بالفرحة والحماس لإصدارات المؤسسة العربية الحديثة التى يتم وضعها على أبجد فور صدورها ورقيا. رحبت إيمان بالشعار الذى تتبناه الدار الآن «نولد من جديد»، وافتتحت جولتها فى المعرض بزيارة جناح المؤسسة العربية الحديثة. كنت فى استقبالها أنا وأحمد المقدم المدير العام للمعرض والمؤسسة، قالت إنها سعيدة جدا لأن الأعمال التى تربى عليها جيلها والأجيال التالية، لاتزال تصدر فى طبعات جديدة، وكذلك تحمست جدا لفكرة الانطلاقة الثانية لروايات مصرية للجيب، وهاشتاج «نولد من جديد» حيث الأعمال الجديدة لكتاب الدار الحاليين أحمد فكرى وسالى عادل وعلا الشربينى وحسن الحلبى وسيد زهران وغيرهم، بالإضافة إلى الروايات والقصص الفائزة فى مسابقة روايات مصرية للجيب، التى أعلنت نتائجها فى حفل كبير بدار الأوبرا يوم 21 سبتمبر 2023.

سعيدة بصدور أعمال الفائزين فى المسابقة فى المعرض، فهو نتاج عمل متواصل دءوب على مدى أكثر من خمسة عشر شهرا، الحمد لله أثمر عن أعمال أفخر بها، وهى الفكرة التى دعمها وساندها مصطفى حمدى رئيس مجلس الإدارة بقوة، ووفر لها كل عناصر النجاح.

«الإستغاثة الأخيرة» هو اسم العمل الأول الذى تشارك به الكاتبة شيرين هنائى فى المعرض مع روايات مصرية للجيب للمرة الأولى. وسوف تصدر كسلسلة إن شاء الله. «يا دنيا يا غرامى» هو العمل الذى أشارك به أنا فى المعرض مع روايات مصرية للجيب. فرحة كبيرة، وزخم ثقافى ممتع.

بطولة سفينة

هذا العمل الأدبى للأستاذ حمدى مصطفى رحمه الله، والذى نال الكاتب وقت صدوره بتكريم من الرئيس جمال عبد الناصر، كما تقرر تدريسه ضمن مناهج اللغة العربية للصف الثانى الإعدادى، صدر فى طبعة جديدة فى معرض 2024 . بغلاف أنيق من تصميم الأستاذ الفنان حسام كامل. الذى أحدث تطويرا كبيرا فى تصميمات أغلفة الكتب فى الدار هذا العام.

احتفى القراء بصدور هذه الطبعة الجديدة لأنهم يقدرون حمدى مصطفى الذى سبق عصره بمشروع القرن الثقافى، وتبنيه لأقلام ومواهب شابة، لم تكن معروفة فى ذلك الوقت (عام 1984) لكنها لمعت وتألقت لتصبح أسماء ونجوما مرموقة فى عالم الإبداع. ارتبط بهم الشباب الصغير، ومن خلالهم عرفوا عالم القراءة والفن، وتربت أجيالا متتالية على مدرستهم فى الكتابة والنشر.

يا دنيا يا غرامى

 سألت نفسى هل أنا إنسانة محظوظة أم أننى مجتهدة، مخلصة للأهداف التى آمنت بها فى حياتى، والأشياء التى أحببتها: الصحافة، العمل الإنسانى، الأدب والثقافة؟.

لم تكن الإجابة على هذا السؤال سهلة، لكنها دفعتنى إلى التفكير والتركيز. وجدتنى أغوص فى أعماق الذاكرة، أتأمل تجارب عشتها، استدعى شخصيات عرفتها، أتذكر كتبا قرأتها، وبلادا زرتها. أفكر فى أحداث صعبة، موجعة عبرت حياتى، ولحظات فرح، نجاح، وسعادة جذبتنى بعيدا عن الأرض، لتزرعنى فى سماء الحلم. شعرت بامتنان بلا حدود لله لإنه أنعم علىّ بالكثير والكثير. خلقنى بروح متسامحة، محبة للحياة والبشر، متفائلة، أرى دائما الضوء فى أحلك لحظات الظلام. وأشعر أنه سبحانه معى مهما اشتدت الأزمة، وضاقت الحلول وتضاءلت السبل.

فتحت تلك اللحظة التلقائية، وذلك السؤال المفاجئ باب عريض تدفق منه شلال من الحكايات الإنسانية الغنية، أبطالها شخصيات من كل الطبقات، أغنياء وفقراء. مثقفون وأميون، أصحاب سلطة وجاه وبسطاء من أولاد بلد، على باب الله. فجأة، رأيت وجوههم جميعا تطل علىّ من عوالمهم المختلفة، وتطرق باب الذاكرة لتنبهنى: نحن هنا..

أحسست أن مهنة الصحافة التى عشقتها، واخترتها مع سبق الإصرار والترصد دون باقى المهن التى داعبت أحلامى وقتها، هى التى منحتنى ذلك الغنى وذاك السخاء فى الاشتباك مع الحياة، بكل ما تعنيه هذه الجملة من معنى. منذ أن دلفت إلى مبنى «أخبار اليوم» وأنا طالبة بالسنة الثالثة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، ودخلت مكتب أستاذى العظيم جلال الدين الحمامصى ضمن مجموعة اختارهم من طلبته فى كلية الإعلام جامعة القاهرة للتدريب العملى تحت إشرافه ورعايته بدار أخبار اليوم، وحتى اليوم الذى أكتب فيه هذه السطور. 

مهنة الصحافة التى عشقتها، فأعطيتها وقتى، فكرى، وروحى. جذبتنى كالنداهة لأغوص فى بحورها اللانهائية. وكلما غصت أكثر، أطفو قليلا، لأعاود الغوص من جديد. عشت الصحافة كأنها الحياة بأكملها! حفرت جملٌ لأستاذى العظيم مصطفى أمين نفقا عميقا فى ذاكرة إحساسى، وبؤرة تفكيرى «الصحفى الحقيقى هو من يعيش 24 ساعة صحفيا». «أنا أكتب كما أتنفس». «النجاح فى أى شيء فى الحياة هو قصة حب».

أنظر خلفى إلى سنوات عمرى الفائتة، أتأمل كم الأحداث التى عشتها كصحفية، الأشخاص الذين التقيتهم، وحاورتهم، الأماكن التى ذهبت إليها، العوالم المختلفة التى دخلتها، ثم ابتسم بسعادة وامتنان لله وأقول لنفسى «لقد عشت أكثر من حياة». هذه هى الصحافة التى ربما تأخذ من أعمارنا الكثير، لكنها تعطينا فى المقابل مذاقا مختلفا لأيامنا، وفهما أعمق للحياة.

والآن دعونى أفصح لكم عن فكرة هذا الكتاب، وكيف ولدت فى عقلى كبذرة صغيرة، ظلت تنمو داخلى حتى ألحت علىّ فى أن تخرج، وتسكن هذا الورق الذى أعشقه، وأؤمن أنه أحد أسباب استمرار البشر على الأرض. 

شعرت أن حياة الإنسان فى الدنيا محدودة مهما طالت، وأن التجارب الإنسانية الحقيقية كنز لا يجب إهداره بتجاهله أو عدم توثيقه فى كتاب قد يكون مفيدا لأجيال قادمة. تزامنت هذه الإرهاصات مع مصادفة جميلة، كنت أجلس فى مكتبى وأدير بعض الأغنيات والموسيقى فى الخلفية، لأننى من عشاق الموسيقى، واعتبرها أم الفنون جميعا لأنها ليست فى حاجة إلى لغة حتى يشاركها البشر من أقصى كوكب الأرض إلى أدناه.

المهم أننى فوجئت بأغنية قديمة جميلة كتبها مأمون الشناوى، ولحنها وغناها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، هى أغنية «يا دنيا يا غرامى» أثارت الكلمات واللحن والأداء الرائع مشاعر خاصة داخلى، تدافعت ذكريات وأحداث من الذاكرة حميمة، قريبة من القلب والروح، وجدتنى أمسك القلم، وأكتب «يا دنيا يا غرامى» عنوان كتابى القادم.. وحتى لا يظن قارئى الغالى أنها مذكراتى، أقول إنها ليست كذلك. إنها مجموعة من تجاربى ليست كلها، ولكن مقتطفات مما يأتى إلى ذهنى بشكل تلقائى، وما تجود به الذاكرة من مخزون جميل أعتز به، وأرغب فى مشاركتكم إياه.

لذلك لن يكون هناك تتابع فى الأحداث، ربما أحكى قصة قديمة جدا عشتها فى بداياتى الصحفية، وربما أتحدث عن كتاب قرأته حديثا، ثم تجد فصلا عن رحلات قمت بها داخل مصر أو خارجها، أو تجد حوارا أجريته مع شخصية من العيار الثقيل فى الفكر أو الطب، أو السياسة.

اعتبرها حكايات حرة، دردشة على الورق، لا يحكمها سياق معين، أو موضوع محدد، إنها حكاياتى عبر مشوارى الصحفى، الأدبى، والإنسانى الطويل، أحببت أن أتركها محفوظة فى كتاب ضد الزمن والفناء، ربما لأننى أحببت كل لحظة فيها بحلوها ومرها، ولأن «على هذه الأرض ما يستحق الحياة» كما قال الشاعر محمود درويش، وأنا أحب الحياة وأحبكم جميعا قرائى الغاليين الأعزاء.

عمرو سليم

تخيل أن تذهب إلى حفل موسيقى فى دار الأوبرا المصرية، يقدمه مع فرقته الخاصة الفنان عمرو سليم، ماذا يمكنك أن تتوقع؟ من الممكن أن تمنى نفسك بقضاء وقت جميل مع بعض المقطوعات الموسيقية التى تحبها لنجوم الغناء العربى بعزف متقن، احترافى إلى أقصى حد. ومن الممكن أن تقول لنفسك ربما يكون الحفل فصلا واحدا لأنه يتضمن موسيقى فقط دون غناء. فمن الطبيعى أن تكون مدته أقصر من الحفلات الغنائية.

ذهبت أنا مثلك محملة بكل هذه التوقعات والأسئلة، وبدأ الحفل، العزف والإحساس الذى رفعنا جميعا نحن المشاهدين من محبى عمرو سليم إلى سماء لانهائية، لم نشعر بالوقت، (لا الزمان ولا المكان كما تقول وردة) عشنا على مدى ثلاث ساعات تقطعها استراحة قصيرة بين الفصلين عالما من الجمال الخالص، الصدق المصفى، الإحساس الذى يغوص داخل مشاعرك، فيخرج منك الإنسان الذى تحب.. عمرو سليم أصدقائى فنان عالمى بكل ما تحمله الجملة من معنى. أن يحتفظ بتفاعل، وانصهار مشاعر الجمهور فى الحالة التى يخلقها بموسيقاه وحده، دون مساعدة من مطرب أو مطربة، أو حتى كورال أراه شيئا معجزا. حقيقة لم أر مثل هذه القوة والتمكن، لم أر خفة دم على المسرح مثلما يتمتع بها عمرو سليم، يتكلم مع جمهوره، يضع البسمة على وجوههم، يأخذهم إلى الوادى، إلى الجبل، إلى القدس القديمة، إلى حيث يريد، يجعلنا ننفصل عن كل ما حولنا إلا ما يعزف من ألحان على المسرح. لقد حرم الله عمرو من نور البصر، لكنه منحه فيضا من نور ربانى مذهل، يدخل قلوبنا فينيرها، ويسعدها، ويغسلها، ويسمو بها. شكرا.. شكرا.. وألف شكر عمرو سليم.