نهر النيل.. بعيون نرويجية

نهر النيل  ..بعيون نرويجية
نهر النيل ..بعيون نرويجية

فى دراسة جادة لا تخلو من التشويق يقدم الكاتب النرويجى تارييه تفايت عملًا مهمًا عن نهر النيل يتقاطع فيه الماضى والحاضر، الأسطورى والهيدرولوجى، الثقافى والسياسى، ساعيًا من خلال ذلك كله إلى استشراف مستقبل هذا النهر التاريخى الذى يمثل، وعلى حد وصفه، أهمية عالمية حقيقية.

ننشر هنا، وبالتعاون مع دار «العربى»، ناشر النسخة العربية للكتاب، فصلًا من هذا العمل الممتع والذى من المقرر أن يلتقى جمهور معرض القاهرة للكتاب مع مؤلفه فى إطار أنشطة ضيف شرف المعرض الممثلة فى النرويج.  

اقرأ أيضاً| «الكتب خان»: تم منعنا من المشاركة فى معرض الكتاب

سألتنى دار النشر المسئولة عن إصدار النسخة العربية من كتابى «النيل: نهر التاريخ» السؤال التالي: كيف يمكن لمؤرخ نرويجى لا تربطه أى صلات سابقة بالقارة الأفريقية، أن يقضى جل سنوات حياته فى البحث والكتابة عن نهر النيل؟



فأجبت بأن السبب الأساسى وراء ذلك هو ما أصابنى من ”الولع المائى» فى مدينة بيرجن - عاصمة الساحل الإسكندنافى المطير. منذ عقود، انتقلت من الجانب الشرقى من النرويج؛ حيث تهطل الأمطار بمعدل طبيعى، إلى مدينة بيرجن. وقد ذهبت إلى هناك لدراسة تاريخ العالم.

ونظرًا لكونى أنتمى إلى طبقة الطلاب المعدمين، فقد كانت أرضية السيارة القديمة التى أستقلها مهترئة بفعل الصدأ. لذلك، كان يتعين عليّ انتعال حذاء أمطار مطاطى فى الأيام المطيرة حتى لا يبتل بنطالى. فى صباح يوم ملبد بالغيوم، حيث كان المطر ينهمر بلا هوادة، قدت سيارتى بحذر من مسكن الطلاب إلى الجامعة، ووجدتنى دون قصد أنظر إلى أسفل حيث قدمى. فجأة، خطر لى أننى أنتعل حذاء المطر المطاطى أخضر اللون ذى الرقبة الطويلة ذاته يوميًا تقريبًا، منذ وصولى إلى هنا فى فصل الخريف. لقد كنت أنتعل حذائى المطاطى ذاك كل يوم تقريبًا! فما الذى كان يحدث حولي؟

وأدركت حينها أن الأمطار الخريفية تتحكم فى حياتى بشكل كامل. فأقصى ما يمكننى أن أفعله عندما أكون بالخارج، هو حمل مظلة معى فى كل مرة أخطو فيها خارجًا.



صففت سيارتى، وصعدت الدرج سريعًا إلى الجانب الذى يجلس به زملائى من الطلاب لاحتساء القهوة بين المحاضرات فى غرفة الاطلاع، لأعلن عن اكتشافى العظيم: «إن الماء جزء لا يتجزأ من مدينة بيرجن»! لاحظت على الفور أن الحماس الذى أعلنت به اكتشافى الجديد لم يؤتِ ثماره، فقد استقبله زملائى باستهجان. لقد اكتشفت وجود مجتمع حضرى كامل، يتعذر عليه فهم علاقته بالمياه بشكل صحيح دون دراسة. لكن أكثر ما أدهشنى هو أن كل شخص بدا غير مهتم بالفعل بقدرة هذه المياه على صياغة مجتمعهم وحياتهم؛ لقد أغفلوا قيمة المياه.

ومن ثم، قررت دراسة العلاقة بين المياه والمجتمعات من منظور مقارن وطويل الأمد، وكيف أنها منذ قديم الأزل، منذ فجر الحضارة وحتى اليوم، أثرت وتؤثر على تطورات المجتمعات حول العالم وتؤطرها. وحيث إن جميع المجتمعات تحتاج إلى المياه للنمو، وحيث إن مصادر المياه وخارطتها فى الوقت ذاته تختلف من مكان إلى آخر وتكون دائمًا فى حالة تغير مستمرة، فقد رأيت أن مثل هذا التركيز على علاقة المجتمع بالمياه يمكن أن يكون مفيدًا لفهم الأنماط المختلفة للتنمية على مستوى العالم. وحولت أبحاثى التى كانت تستهدف تاريخ العالم إلى برنامج بحثى شخصى يستمر على مدار عدة أعوام ويستهدف المياه والمجتمع فى جميع أنحاء العالمK منذ ذلك الحين، وضعت أكثر من 20 كتابًا عن الدور الذى لعبته المياه فى التاريخ، وسافرت صعودًا وهبوطًا وبطول العديد من أكبر وأهم الأنهار فى العالم؛ من الصين والهند واليابان شرقًا إلى فرنسا وألمانيا وإسبانيا غربًا، ومن فنلندا والسويد شمالًا إلى جنوب أفريقيا والأرجنتين جنوبًا.

لكن لم يسلب نهر لبى أكثر من نهر النيل.
تمكنت من متابعة اهتمامى البحثى ذلك بسبب النجاح فى الجمع بين الكتابة وصناعة الأفلام الوثائقية. كان أول فيلم وثائقى تليفزيونى كتبته وقدمته يحمل عنوان «رحلة فى تاريخ المياه» (A Journey in the History of Water). وقد قدمته برعاية جامعتى ومجلس البحوث النرويجى وهيئة الإذاعة النرويجية.



واستطعت من خلال هذا الوثائقى الوصول إلى نحو 25 دولة، بما فى ذلك مصر وإثيوبيا والسودان وأوغندا. فاز الفيلم بالجائزة الكبرى لأفضل فيلم وثائقى بيئى فى المهرجان الدولى للأفلام البيئية بباريس فى دورته السابعة عشر. ولاحقًا، اشترت كل من «ناشيونال جيوجرافيك» و«قنوات ديسكفرى» والعربية والعديد من المحطات التليفزيونية الوطنية فى جميع أنحاء العالم حق بث الفيلم. ونظرًا للاحتفاء الذى لاقاه فيلمى الوثائقى الأول، تمكنت بعد عشر سنوات من صناعة فيلم وثائقى آخر يتناول القضايا المائية فى العالم، بعنوان «مستقبل المياه» (The Future of Water).

ومرة أخرى، أتاح لى هذا الفيلم السفر إلى نحو 25 دولة، بما فى ذلك دول حوض النيل. واشترت منصة «نتفليكس» حقوق بث هذا الفيلم الوثائقى فى وقت لاحق، وكذلك قناة الجزيرة وعدد من محطات التليفزيون الوطنية. فى الفترة الواقعة بين صناعة الفيلمين، كنت أحد مؤسسى الرابطة الدولية لتاريخ المياه، وفى عام 2003، ترأست مؤتمر الرابطة نصف السنوى الذى ينعقد فى مكتبة الإسكندرية فى مصر. كما تمكنت، بدعم من وزير الموارد المائية المصرى الدكتور محمود أبو زيد والسفير المصرى فى النرويج الدكتور مجدى حفنى، من إطلاق برنامج أبحاث حوض النيل مع باحثين مشاركين من عشر دول من دول حوض النيل. فى عام 2012، أنهيت فيلمى الوثائقى التليفزيونى الثالث والأخير عن المياه، بعنوان «تحقيق بشأن النيل» (The Nile Quest)، والذى أعادنى مرة أخرى إلى التجول فى منطقة حوض النيل طولًا وعرضًا.



أثناء ذلك، قمت بنشر قائمة مراجع مكونة من ثلاثة مجلدات للكتب والمقالات المكتوبة عن النهر؛ وقد كانت دراسة طويلة ومفصلة لما أسميه إمبراطورية النيل البريطانية؛ كما قمت بتحرير كتاب عن النيل فى فترة «ما بعد الاستعمار» ساهم فى تحريره علماء من دول حوض النيل .

لقد سافرت، كما هو موضح أعلاه، إلى إحدى عشرة دولة تتشارك اليوم فى نهر النيل أكثر من معظم الناس، وقد استمتعت بمشاهدة النيل فى كل حالات تنوعه المذهلة. لقد كنت محظوظًا بما يكفى للالتقاء بالقيادات السياسية للدول وأهم الخبراء والتناقش معهم حول كيفية استغلال النيل فى الحاضر وفى المستقبل.

يلخص هذا الكتاب ما تعلمته فى سنوات دراستى لتاريخ النهر والدور الذى يلعبه. وكان هذا الكتاب محاولة لسرد تاريخ النهر والتعرف على تنوعه الهيدرولوجى والثقافى والسياسى. كما كان «رسالة حب» أيضًا موجهة إلى النيل. كان الهدف من وضع هذا الكتاب بسيطا: وهو وصف الدور الذى يلعبه النيل فى التاريخ والدور الذى يلعبه فى الماضى والحاضر بأكبر قدر ممكن من التكافؤ والحيادية. على المدى الطويل، فإن الفهم الكلى والشمولى لأهمية النهر، كما أعتقد، كان شرطًا أساسيًا لجعل النيل الأكثر إثارة للاهتمام تاريخيًا، مستمرًا فى لعب دوره المهم والإيجابى فى التنمية الحضارية. بالنسبة لى، عددت ذلك أيضًا دراسة لتاريخ العالم، لأن النيل هو نهر ذو أهمية عالمية حقيقية.

مقدمة المؤلف للنسخة العربية
أوسلو، 13 أبريل 2023

«فسيفساء النيل» فى باليسترينا
فى الطابق الرابع بمتحف أثرى متواضع يبعُد قرابة 35 كيلومترًا عن روما، ستجد العمل الفنى «فسيفساء النيل» (Nile Mosaic). وهو عمل فنى عمره 2000 عام، يبلغ عرضه ستة أمتار ويتخطى ارتفاعه الأربعة أمتار، ويصوِّر النيل ومظاهر الحياة على ضفتيه بشكل إبداعى، ويتناوله من مناظير مختلفة ومتعددة. يصوِّر الجزء العلوى من «فسيفساء النيل» عناصر إفريقية، ويحاكى الجزء السفلى مناظرَ خاصةً بالحياة على شواطئ البحر المتوسط.

على الرغم من ضرورة مشاهدة الأعمال الفنية المصنوعة من الفسيفساء من مسافة لتبين تفاصيلها، وضرورة الالتزام بالوقوف خلف الحواجز الموضوعة لحماية الأعمال الفنية من اقتراب المتفرجين الذى قد يُلحِق بها ضررًا، فإن الرسوم الكاملة والزاهية بشكل استثنائى التى تكوِّنها الأحجار الملوَّنة الملتصق بعضها ببعض بواسطة الملاط، تظهر جلية من جميع المسافات.



ولكنَّ الأمر الإبداعى حقًّا فى «فسيفساء النيل» فى بلدة بالسترينا هو تصوير النيل وتصوير الشعوب وهى تمارس حياتها بنظرة حديثة تمامًا، كما لو كان الفنان الذى أبدعها قد نظر إلى النيل وهو على متن طائرة. ويُعَدُّ أيضًا هذا العمل الفنى مصدرًا تاريخيًّا تعبيريًّا مثيرًا للإعجاب: فهو يؤكد بقاء النيل كشريان حياة المجتمع ومحور اهتمامه إلى أبد الآبدين، كما رُسِمَ البحر الأبيض المتوسط كمحتضِنٍ لتاريخ القارة الذى سطرته المياه.

تصوِّر «فسيفساء النيل» المكانة المحورية التى يشغلها النيل فى حياة أولئك الذين يعيشون على ضفافه، كما تنقل لنا كذلك كيفية تشكيل النيل جزءًا من تاريخ أوروبا الثقافى والدينى. وتُذكرنا بماضٍ سحيق كان يُعبَد فيه النيل كنهر مقدس، ولم تقتصر عبادته على الكهنة بالمعابد الضخمة المنتشرة على ضفافه فى مصر، بل امتدَّت أيضًا إلى أوروبا.

جاءت «فسيفساء النيل» وليدة العهد الذى انتشرت فيه عبادة النيل والإلهة إيزيس من مصر إلى العالم الهلينى والرومانى. مثَّلت عبادة النيل مذهبًا جديدًا ومستقلًّا، دينًا غامضًا اهتمَّ بفكرة الموت والبعث، وتمحور حول المواكب والشعائر المهيبة التى أدت فيها مياه النيل دورًا رئيسيًّا.

يضم المتحف البريطانى فى لندن واحدًا من عدة تماثيل للإلهة «إيزيس»، حامية الطبيعة وإلهة الخصوبة. يصوِّر هذا التمثال الإلهة «إيزيس» وهى تحمل فى يدها اليسرى جرة بها مياه النيل المقدسة، وسيلة الخلاص الأكثر شيوعًا.



قبل ألفيْ عام، كان يمكن رؤية الورعين وهم يحملون جرارًا مملوءة بمياه النيل -مثل جرة «إيزيس»- ويسيرون بها خلال السهول والأودية الواقعة جهة الشمال ناحية البحر المتوسط، وهذا ما يُظهر الرابط التاريخى العميق بين جرار مياه النيل وأجران المعمودية التى ظهرت بعد ذلك فى الكنائس الأوروبية (بعض الكتب التى تتناول العلاقة بين مصر وتطور الثقافة الرومانية والإغريقية: كتاب «مصر واليونان وروما: حضارات البحر الأبيض المتوسط القديمة» Egypt, Greece, and Rome:Civilizations of the Ancient Mediterranean)، لـ«فريمان»، 1996. كتاب «فسيفساء النيل فى بالسترينا: الدليل المبكر للديانة المصرية فى إيطاليا» (The Nile Mosaic of Palestrina: Early Evidence of Egyptian Religion in Italy) لـ«مايبوم»، 1995. كتاب «الآثار المصرية وتمصير آثار إمبراطورية روما» (The Egyptian and Egyptianizing Monuments of Imperial Rome) لـ«روليه»، 1972.).

ابتُدِعَتْ «فسيفساء النيل” منذ مئات من السنين، قبل أن تصبح عبادة النيل والإلهة «إيزيس» منافسًا قويًّا للمسيحية، الدين الجديد الذى انبثق من الشرق الأوسط. استمرَّت عبادة النيل وآلهته مدةً طويلة إبان الحقبة المسيحية، وقيل إن أتباع الإلهة «إيزيس» هم مَن كانوا وراء إعدام القديس «مرقس» الإنجيلى الذى استُشهِد فى مدينة الإسكندرية فى أحد أعياد الفصح بعد بضعة عقود من حادث موت المسيح: فقد وُضِعَ حبلًا حول عنقه وسُحِلَ خلال بوابات المدينة ثم قُطِعَ رأسه.

ولم يُقْضَ على عبادة الإلهة «إيزيس» والنيل سوى بعد أن أضحت المسيحية الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية. وتحولت دلتا النيل إلى معقل للمسيحية المبكرة بعد أن كانت مهدًا لدينٍ غامضٍ حظى بانتشار واسع.



تُمثِّل «فسيفساء النيل» الموجودة بأحد المتاحف خارج مدينة روما تاريخًا طويلًا وممتدًّا، جعل من الفروق والحدود التى رُسِمَتْ لاحقًا بين القارات والشعوب غير واضحة المعالم. فاسم النيل يرتبط بأوروبا بفضل الشاعر الإغريقى «هسيودوس» الذى عاش فى المدة بين عامى 700 و600 قبل الميلاد، عندما اشتركت مصر والدلتا واليونان فى الانتماء إلى ثقافة البحر الأبيض المتوسط المشتركة. فقد أطلق «هسيودوس» على النهر اسم «نيلوس»، إذ إن القيمة العددية لتلك الحروف الإغريقية هى 365 - وهذه القيمة تعنى الكلية - كما لو كان لتأكيد أن النهر كان يُنظَر إليه على أنه يمثل كل شيء. وتُذكرنا «فسيفساء النيل» بأن وادى النيل كان أحد الطرق الرئيسية الذى انطلق خلاله البشر خارج إفريقيا وعمروا الأرض، وأن أحد أقدم المجتمعات الزراعية التى نعرفها تطورت على طول ضفافه، وأن أكثر الحضارات القديمة تأثيرًا وعظمة قد بزغ فجرها بفضله.

فـ«فسيفساء النيل» هى تصوير طوبوجرافى لأحد المراسم الدينية، لكن يمكن تأويلها أيضًا على أنها احتفاء بالنيل باعتباره جزءًا من ثقافة البحر المتوسط. تنضح «فسيفساء النيل» بافتتان مبدعها بالنهر. هذا الافتتان أيضًا هو ما سيطر على الإمبراطور الرومانى «يوليوس قيصر»، إذ قيل إنه أعلن أنه سينزل على الفور عن مُلك مصر بأكملها لمن يخبره عن مكان منبع النيل. فمن أين تأتى كل تلك المياه، التى تفيض كل صيف - حالما تعانى مصر أشدَّ الأوقات حرارةً وجفافًا - على الصحراء الحارقة، لتكوِّن أحد أكثر الأقاليم خصوبةً على وجه الأرض؟

حتى أواخر العصور الوسطى بأوروبا، كان يكتنف النيل غموض يولِّد أفكارًا أسطورية رائعة، فقد وُصِفَ فى الأدب على أنه يفيض من الجنة وتنحدر مياهه فوق درج حجرى مُذهَّب. وعلى ذلك النحو، ظل يُنظَر إلى النيل كمعجزة إلهية لوقت طويل. فيما لخَّص المؤرخ «جان دى جوانفيل”، أحد أعظم مؤرخى القرن الرابع عشر، المعتقد السائد عن النيل فى كتابه «تاريخ القديس لويس” (Historie de Saint Louis) الذى نُشِرَ ما بين عامى 1305 و1309، حيث يقول: «لن يعلم أحد مصدر كل هذه المياه ما لم تكن مشيئة الله”( انظر إلى النبذة المنشورة فى Allen and Arnt) (eds) (الصادرة فى 2003.).

بعد انتصار الفكر التنويرى فى أوروبا، ظهر مذهب رومانسى متعلق بالنيل، مختلف وذو أساس علمى بشكل أكبر. ففى القرن التاسع عشر، حظيتْ مناقشة القليل من المسائل الجغرافية باهتمام أكبر من السؤال ذاته المتعلق بمكان منبع نهر النيل. منذ قرن ونصف القرن، أصبح حوض النيل ساحةً لبعض الاستطلاعات العلمية الأكثر شهرة فى العالم، إذ انهمك المغامرون والمستكشفون فى البحث عن منبع النيل، كـ«هنرى مورتون ستانلي» و«ديفيد ليفينجستون» و«جون هاننج سبيك» والسيدة الهولندية واسعة الثراء «أليكساندرين تينيه» - التى حظيت بشهرة أقل من نظرائها المستكشفين من الذكور - بالإضافة إلى عدَّاء مسافات طويلة نرويجى شهير. وكما نعد تاريخ كيفية رسم خرائط النيل بواسطة الجغرافيين والمستكشفين وخبراء علوم المياه الأوروبيين وواضعى مخططات المياه البريطانيين تاريخًا للغزو الاستعمارى، فإننا نعده بشكل علمى بحت تاريخَ مسيرة انتصار العلم الحديث فى ربوع إفريقيا على حد سواء.

مع ذلك، فإن النهر الذى تصوره «فسيفساء النيل»، وقد حُفِظَتْ صورته الملتقطة سريعًا فى لحظة امتدَّ عمرها حتى 2000 عام، يتهادى، منذ ذلك الوقت، وفى كل لحظة، ويومًا بعد يوم، وجيلًا بعد جيل، خلال الغابات القديمة المعروشة التى لا يخترقها ضوء الشمس أبدًا، ويصطدم هادرًا بالمنحدرات البركانية ويشقُّ طريقه خارج البحيرات الداخلية العملاقة، ويتلوَّى مجراه عابرًا أحد أكبر المستنقعات فى العالم، وقاطعًا واحدة من أجف صحارى كوكب الأرض، على طول الطريق من عمق القارة الإفريقية. استمرَّت الجغرافيا الثابتة للنيل والإيقاع النابض لمياهه فى تشكيل الظروف اللازمة لتطور المجتمع وتغيُّره، وظل النيل نفسه مبعثًا خالدًا لخلق الأساطير وصراعات السلطة.

فى الوقت الذى ابتُدِع فيه العمل الفنى «فسيفساء النيل»، كان الفُرس و«الإسكندر الأكبر» و «قيصر» وجيوشهم قد غزوا فعلًا دلتا النيل - أحد أكثر أقاليم العالم خصوبة. ولاحقًا، تولى العرب زمام النيل مع الفتح العربى. وفى البقعة نفسها، ظهرت أطماع الصليبيين.

وقاد «نابليون» جيشه إلى الدلتا للاشتباك مع قوات المماليك فى «معركة إمبابة». وأسس البريطانيون إمبراطوريتهم النيلية التى امتدت من البحر المتوسط إلى منابع النيل التى كانت تُوصَف بأنها قلب إفريقيا، واتخذوا من القاهرة مركزًا لتلك الإمبراطورية. وللمرة الأولى والوحيدة فى التاريخ، استقرَّ النيل بأكمله تحت سلطة حاكمة واحدة وهى سلطة بريطانيا.

منذ القرن السابع، كان أولئك الذين يعيشون على طول مجرى النيل، يقعون فى قلب الخلاف المذهبى القائم بين الإسلام والمسيحية داخل القارة الإفريقية.

كان حوض النيل أرضًا خصبة لإحاطة نظم المساعدات الدولية بالأساطير المختلقة والأفكار الشائعة الأكثر كلاسيكية، إذ إن بعض أجزاء حوض النيل كانت تشهد أعمالًا تنموية فى بداية الألفية الثالثة. هذا الأمر يجعل تصوير عصر المساعدات الدولية لإفريقيا كقارة عاجزة تصويرًا قد عفاه الزمن.

ينتمى هذا الكتاب إلى الأسلوب ذاته الذى ترمز إليه «فسيفساء النيل» فى بلدة بالسترينا: الافتتان الأوروبى بدور النيل وأهميته. فهو كتاب تاريخى يتناول تطور الحضارة، كما ينتمى إلى أدب الرحلات السردى الذى يحكى عن قصص يرويها لنا أطول نهر فى العالم. وفى الوقت ذاته، يُعَدُّ أيضًا دراسة عن السياسات المائية الحديثة والتنمية الإفريقية ومتغيراتها، فضلًا عن الطريقة التى أظهرت بها هذه المتغيرات العديد من خصائص التنمية بالعالم الحديث. لكنْ فى المقام الأول، يُعَدُّ الكتاب سردًا تاريخيًّا لشريان حياة يربط قرابة نصف مليار شخص معًا بمصير مشترك.

سبق لى أن كتبت عن تاريخ النيل، من الحقبة التى كان النيل يقع فيها تحت سيطرة الاستعمار البريطانى (النيل فى عصر البريطانيين)، وخلال حقبة ما بعد انتهاء العهد الاستعمارى (نهر النيل فى عصر ما بعد الاستعمار). ونشرتُ كذلك العديدَ من الاستطلاعات الببليوجرافية المتعلقة بالمنطقة (خمسة أجزاء) بالإضافة إلى نشر مجموعة من الكتب التى تتناول زمن المساعدات الدولية فى الإقليم. يتميز كتاب «النيل: نهر التاريخ» بمحور اهتمام مختلف وبمنظور طويل الأمد بشكل أكبر، وهو يسعى إلى ربط كل شىء تعلمته بعد قيامى بعدد لا يُعد أو يُحصى من الرحلات، قاطعًا النيل جيئةً وذهابًا، وبعد خوض مناقشات لا نهائية حتى ساعات متأخرة من الليل على طاولات مقاهٍ امتدت من مدينة الإسكندرية حتى مدينة كيجالى، وبعد إجراء حوارات عدَّة ومطوَّلة مع الخبراء وقادة الدول والوزراء، وبعد قضاء أعوام داخل دوائر مخطوطات ثلاث قارات، بحثًا عن مصادر تتحدث عن تاريخ النيل وإقليمه.

إن ما يحدث بشأن النيل وعلى طول ضفافه الآن، وما سيحدث فى الأعوام القادمة ستكون له تداعيات وخيمة تؤثر فى سياسات الإقليم وفى السياسات العالمية. فى أثناء كتابتى هذا الكتاب، يمرُّ النيل، متدفقًا خلال الطبيعة ومتضافرًا فى المجتمع، بأكبر تحول شهده على مدار تاريخه الطويل. وفى مثل هذه الأوقات المأساوية والانتقالية ومبهمة العواقب على وجه التحديد، تصبح المعرفة التاريخية بالغة الأهمية، فلن نتمكن من تفسير ما يحدث فى الوقت الراهن على نحو صحيح ما لم نفهم أحداث الماضي.

نُظِّمَ هذا الكتاب كرحلة نيلية تمتد من مصبِّ النيل وصولًا إلى منبعه. فما من سبيل للكشف عن أسرار النيل ودوره وأهميته فيما يتعلق بالتنمية المجتمعية وفهمها دون تتبع حركته باتجاه الأعلى، من مكان إلى مكان بصبر وبوتيرة منتظمة تشبه دقات قلب النهر.

مجرى التاريخ
وأنا مسافر من روما عابرًا البحر المتوسط، وقع نظرى على أميال من الشواطئ الرملية، حيث تمتد الصحراء مترامية الأطراف باتجاه الغرب، ثم وقع بصرى على حديقة غنَّاء شاسعة. إننى أحلِّق الآن فوق مصر ودلتا النيل، ألصقتُ جبهتى بزجاج نافذة الطائرة كعادتى، وما إن رأيت النيل العظيم وهو يبدو كشريان حياة متفرد ولامع ومحاط بالخضرة، يقف محتجًّا على هيمنة الصحراء، حتى أدركتُ أن جهلى الشمال-أوروبى بأهمية المياه يتداعى. فأنا هنا فى مصر كى ألقى خطابًا افتتاحيًّا عن أهمية تاريخ الأفكار المتعلقة بالمياه فى مؤتمر بمكتبة الإسكندرية. ومع أن لى باعًا طويلًا فى إلقاء المحاضرات والخطابات، فإننى ما زلت أشعر بالقليل من التوتر - فأنا، ذلك الرجل القادم من النرويج، سأناقش أمورًا تتعلق بالمياه وبنهر النيل فى موطنه. تصفحتُ مرة أخرى أحد الأعمال الممتازة التى تتناول تاريخ النيل الجغرافى، ومع أن النيل يمثل الثقافة والحنين إلى الوطن والرومانسية والأساطير، فإن كتاب «نهر النيل: نشأته واستخدام مياهه فى الماضى والمستقبل»(The River Nile: Geology, Hydrology and Utilization)  للجيولوجى رشدى سعيد، يؤكد أن النيل هو فى الأساس كيان مادى، وفى واقع الأمر، لا سبيل إلى فهم الدور الذى يؤديه فى حياة المجتمع دون وضع الهيدرولوجيا الخاصة به فى الحسبان (راجع أعمال الجيولوجى رشدى سعيد الصادرة فى 1993.

ستجد عددًا من الدراسات المفيدة عن هيدرولوجيا النيل وجغرافيته الطبيعية. للاطلاع على نبذة، راجع كتاب «النيل: قائمة مراجع مفصلة» (The River Nile: An annotated bibliography)، الطبعة الثانية لـ«تفدت»، 2004.. فى الصفحة الأولى من دفتر ملاحظاتى، الموجود على المنضدة الجانبية بجوار حاسوبى، دوَّنت بأحرف كبيرة أهم البيانات المتعلقة بنهر النيل. فأنا أفعل ذلك باعتيادية تقريبًا، كما لو كنتُ أؤكد لنفسى أن تحت التأثير العميق للثقافة والدين والسياسات التى تعمل على تشكيل كل منظور معاصر خاص بالنيل، يتدفق نهر حقيقى له سمة جغرافية وهيدرولوجية ثابتة. وطبعًا، تُعَدُّ البيانات التى أدوِّنها بيانات ذات أهمية مجتمعية غير تقليدية. ثم إنها تنتمى إلى زمن «فسيفساء النيل” بنفس درجة انتمائها إلى وقتنا الراهن. إن نهر النيل، كما نعرفه أنه نهر دائم الجريان، هو نتاج مجموعة من العمليات الجيولوجية الحديثة نسبيًّا التى تعود إلى ما بين الـ15000 عام والـ25000 عام مضت، عندما تجتمع المياه النابعة من بحيرة فيكتوريا والمياه المتدفقة من إثيوبيا، وتتقابل المياه فى النيل الأبيض والنيل الأزرق حاليًّا فى الخرطوم. لهذا السبب يُعَدُّ النيل على صورته الحالية نهرًا حديثَ العهد، منح الحياة لحضارات شديدة القدم.


فردتُ خريطة للنيل أحتفظ بها دومًا عندما آتى إلى هنا. نظرًا إلى كونى مؤرخًا وعالمًا سياسيًّا صادف وأصبح عالمًا جغرافيًّا، كان حملى الخرائطَ سلوكًا لا إراديًّا، فالخرائط توضح الروابط التى لا يوليها علماء الاجتماع الإهتمام الكافى عادةً. يبلغ طول نهر النيل أكثر من 6800 كيلومترًا. وإذا مددته وحوَّلت مساره تجاه أوروبا، متخذًا من القاهرة نقطة انطلاقه المحورية، فسيتدفق النهر عابرًا البحر المتوسط ومنتشرًا بكل ربوع أوروبا وصولًا إلى الشمال الأقصى، متجاوزًا أبعد نقطة فى شمال النرويج.

تغطى منطقة الترسيب النهرى مساحة 3 ملايين كيلومتر مربع، وهو ما يعادل عُشْر مساحة القارة الإفريقية بأسرها، أو ما يعادل ما هو أكبر من مساحة فرنسا بست مرات. تتشارك إحدى عشرة دولة فى مجرى النيل، وطوَّر قرابة الألف من فصائل الشعوب المختلفة ثقافاتهم ومجتمعاتهم المتنوعة على ضفافه. ونظرًا إلى حجم النيل وتنوعه المناخى والطوبوجرافى والنباتى والحيوانى وتنوع التشكيلات الاجتماعية المنتشرة على ضفافه، تظلُّ منطقة حوض النيل خارج أى مقارنة، فهى المنطقة الأكثر تعقيدًا وتنوعًا بين جميع مناطق الأنهار الكبرى، سواء فيما يتعلق بالطبيعة أو العلاقات الاجتماعية.

تخضع الأهمية السياسية الفائقة للنيل إلى تناقض قاسٍ: على الرغم من امتداد مجرى النهر بطول غير مسبوق، فإن النيل يحمل كمية قليلة من المياه. فقد ثبت متوسط إنتاجه المائى سنويًّا عند 84 مليار متر مكعب، وفقًا للقياس الذى يخضع له النيل فى أسوان بمصر. وهذا قدر غير وفير من المياه - فهو يمثل ما يقرب من 12% من إنتاجية نهر اليانجتسى - الذى يُعرَف فى الصين باسم نهر «تشانج جيانج» - وما يقرب من ٦٪ من إنتاجية نهر الكونغو وقرابة الـ1% من متوسط كمية المياه التى يصبها نهر الأمازون سنويًّا فى البحر. وسبب ذلك هو أن أحد أهم سمات نهر النيل: أن أجزاءً كثيرة منه تمتد خلال منطقة لا تتعرض أبدًا لسقوط أمطار. ففى صعيد مصر، تراوحتْ كمية المياه المتدفقة طبيعيًّا بين 80 و90 مليار متر مكعب سنويًّا.

ومع ذلك، فقد شهدت كمية المياه انخفاضًا خلال العقود الأخيرة، ويعود ذلك بشكل أساسى إلى تبخر ما يقرب من 10% من مياه الفيضان والأمطار المتدفقة إلى البحيرات الاصطناعية الكبرى الموجودة فى صحراء النوبة. لا يحظى النيل بأى مياه جديدة تُضَخُّ فى مجراه خلال رحلته التى يبلغ طولها قرابة الـ2700 كيلومتر خلال واحدة من أكثر مناطق العالم جفافًا وحرارةً. فلا يوجد نهر فى العالم يقطع كل تلك المسافة الشاسعة خلال الصحراء دون تلقِّى دفقات مائية من مصادر أخرى تُعزِّز من كمية المياه السارية فى مجراه.

إن رحلة النيل الطويلة والدائمة فى الصحراء فريدة من نوعها. فعلى طول مجراه، يندمج نظامان نهريان متميزان، لهما لمحات هيدرولوجية مختلفة تمامًا عن بعضهما. يلتقى رافدا النيل الرئيسيان، النيل الأبيض والنيل الأزرق، فى مدينة الخرطوم عاصمة السودان.

هنا تحدث عملية هيدرولوجية استثنائية! هذه العملية يمكنها كذلك أن تفسر لماذا يُعَدُّ النيل الأبيض هو الرافد الأهم لمصر على مر التاريخ (حتى عام 1971). ففى فصل الخريف، يمتلئ النيل الأزرق بالمياه ويعمل كحاجز طبيعى يحفظ المياه فى النيل الأبيض الأصغر وذى قوة الجريان الأقل. وبينما يبدأ منسوب المياه فى النيل الأزرق فى الانخفاض تدريجيًّا طوال فصل الربيع، تجرى المياه المحتجزة من النيل الأبيض إلى مصر. منذ آلاف السنين، كانت هذه الظاهرة سببًا فى جعل الحياة والزراعة ممكنةً فى فصل الصيف.يتدفق النيل الأزرق لمسافة 2500 كيلومتر من منبعه المقدَّس من بحيرة تانا الصغيرة التى تقع على المرتفعات الإثيوبية، قبل أن يصل إلى مدينة الخرطوم.

ويكفل النيل الأزرق، بالإضافة إلى الروافد الأخرى التى تُجمِّع مياه الأمطار فى إثيوبيا، كرافد عطبرة (المعروف منبعه فى إثيوبيا وإرتريا باسم تكايزى أو سيتيت) ورافد السوباط (المعروف منبعه فى إثيوبيا باسم بارو) تدفق ما يقرب من 90% من إجمالى المياه الجارية بالنيل. فى أثناء فصل الخريف، فى موسم الفيضان، يكون النيل الأزرق هو الرافد المهيمن بشكل كامل. فهو وحده مسؤول عن تغذية النيل بما يقرب من 80% من الماء المتدفق إلى مصر.

بالرغم من ذلك، تعانى هذه الروافد المذكورة التى تُزوِّد مجرى النيل الرئيسى بالمياه من تغيرات مأساوية موسميًّا. فرافد عطبرة يكاد يكون جافًّا تمامًا خلال فصل الصيف، فى حين يضخ النيل الأزرق ما يقرب من 90% من إجمالى كمية مائه السنوية فى أثناء فصل الخريف الممتد إلى ثلاثة أشهر.

أما النيل الأبيض، فهو رافد مختلف تمامًا. فهو يتدفق من مدينة الخرطوم حتى أقصى نقطة بجنوب المستنقعات - وهى مسافة تقدر بنحو 1800 كيلومتر - وينحدر بمقدار متر واحد لكل 24 كيلومترًا. وتجرى مياهه طوال العام بشكل أقل تفاوتًا من النيل الأزرق. لا توجد روافد تغذيه بالمياه على طول المسافة الممتدة بين مدينة الخرطوم ومدينة ملكال.

ثم، من جهة الشرق، ينحدر رافد السوباط أو بارو - كما يُطلَق على منبعه فى إثيوبيا - ويبتلع فى طريقه العديد من الروافد الأصغر حجمًا. عند هذه النقطة، ينحرف مجرى النهر الرئيسى بشدة تجاه الغرب ويتدفق من بحيرة «نو» وهى بحيرة شاسعة الاتساع تقع فى مصب واحدة من أكبر مناطق المستنقعات فى العالم.

تمثل هذه المستنقعات الظاهرة الهيدرولوجية الأكثر إذهالًا فيما يتعلق بالنيل الأبيض، وهى ظاهرة ذات أهمية اقتصادية وسياسية عظيمة: فإن نحو 50% من المياه الموجودة فى بحر الجبل - كما يُعرف النيل الأبيض فى هذه المنطقة - لا تصل إلى مدينة الخرطوم ولا إلى مصر. تبدأ منطقة المستنقعات على بعد عدة أميال من شمال مدينة «جوبا»، عاصمة ما يُعرف الآن بدولة جنوب السودان. وقد أضحى بحر الجبل (المتصوَّر أنه ينبع من سفوح وسط إفريقيا) كتلةً مائيةً عملاقةً تنساب ببطء على سهول جنوب السودان.

يمتدُّ بحر الجبل فى جميع الاتجاهات، ويتغير حجمه وفقًا لفصول السنة وتدفق المياه فى النيل. ولا تصل الروافد الكبرى التى تقع فى جنوب السودان، كبحر العرب وبحر الغزال (سُمِّى بذلك لأنه يتدفق خلال ما يبدو كالحديقة العملاقة المأهولة بأعداد هائلة من الغزلان)، إلى النيل الأبيض أبدًا، بل ينتهى بها المطاف فى المستنقعات.


عند الوصول إلى مدينة «جوبا»، تظل أمام النيل الأبيض مسافة 4787 كيلومترًا ليقطعها قبل أن يصل إلى البحر. على مسافة غير بعيدة من أول محطة أوغندية لتوليد الطاقة الكهرومائية «محطة موبوكو الأولى»، ينضغط مجرى النيل الأبيض منطلقًا من بحيرة «فيكتوريا» الواقعة فى مدينة «جينجا»، ثم يتدفق من بحيرة «ألبرت” خلال بحيرة «كيوجا» الضحلة، وعند الوصول إلى النقطة التى تقع على بُعد 168 كيلومترًا أعلى مدينة «جوبا»، يعبُر النيل الأبيض الحدود السودانية الأوغندية من جزيرة فولا رابيدز.

تعمل بحيرات إفريقيا الوسطى هذه كخزان طبيعى هائل لمياه النيل الأبيض. تشكلت هذه البحيرات بعد أن تراجعتْ معدلات تساقط الثلوج فوق أجزاء أخرى من العالم خلال العصر الجليدى الأخير، وأصبح مناخ هذه المنطقة أكثر رطوبة. أدتِ التغيرات التى طرأت على معدلات سقوط الأمطار المقترنة بالارتفاع الجيولوجى إلى فيضان بحيرتيْ فيكتوريا وألبرت عند سقوط الأمطار، وبدأت هذه المياه الفائضة فى التدفق شمالًا مكونةً بذلك المجرى الدائم لنهر النيل.

جرتْ هذه الكميات الهائلة من المياه دون عوائق فوق ما كان آنذاك منطقة جافة، قبل أن تُشكِّل اليوم هذه المنطقة مستنقعًا هائلًا جنوبى السودان، حتى وصلت إلى مصر. على مدار عدة قرون، شهدت مصر عددًا متزايدًا من الفيضانات القوية والاستثنائية التى شكَّلت منطقة دلتا النيل وما يقع بها من مجارٍ مائية عدَّة.

وعلى مدار الـ10000 عام الماضية، ظلَّت بحيرة فيكتوريا على حالها وهى تُعَدُّ اليوم ثانى أكبر بحيرة على مستوى العالم (رغم تعرضها للجفاف التام فى فترات سابقة). تمثِّل بحيرة فيكتوريا فى حد ذاتها مصدرًا لسقوط الأمطار الغزيرة، إذ تتبخر المياه من سطح البحيرة هائل المساحة. فضلًا عن تغذية الأنهار المتدفقة من بوروندى ورواندا وتنزانيا وأوغندا وخصوصًا كينيا بالمياه. تُوصَف بحيرة فيكتوريا بأنها المنبع الأساسى لنهر النيل فى الموسوعات والأدلة السياحية، لكنَّ النيل الأبيض يمتلك منابع مائية متعددة، فإن له منابع فى جهة الشرق بكينيا وفى جهة الجنوب ببوروندى وفى جهة الغرب برواندا وبجمهورية الكونغو الديمقراطية. وتُعد الجبال الموجودة غرب حوض النيل حيث تنحدر مياه الأمطار، منبعًا لبعض أهم روافد النيل الأبيض التى تنتمى إلى أكثر الأقاليم رطوبة على وجه الأرض، بمعدل سقوط للأمطار يصل إلى 360 يومًا فى العام وبمعدل سنوى قدره خمسة أمتار.

عمل ائتلاف هذه الظروف التصادفية الجوية والجيولوجية على استمرار تدفق مياه النيل، حتى خلال تلك الأوقات من العام التى ينخفض فيها منسوب مياه منابع النهر فى إثيوبيا ويتعرض بعضها للجفاف.

قد تبدو كل هذه البيانات فى غير محلها، أو تبدو كاكتراث مبالغ فيه بالأرقام فى نظر أولئك المعنيين بالاهتمام بالمجتمعات وقصر الانتباه على عالم الإنسان، وهذا ما يعنى أن السرد التاريخى المعنيَّ بالإنسان والمتمحور حوله ينبغى له أن يتجاهل مثل هذه البيانات والأرقام لأنها تصرفه عن العلوم الطبيعية.

لكنَّ العكس هو الصحيح: فهذه البيانات تضع محورًا مستدامًا للتنمية المجتمعية وتصف جوهر بقاء المجتمعات. ولا تقتصر هذه البيانات على ذلك فحسب، بل تحدد إطار تنمية هذه المجتمعات بصورة لا تحتمل التأويل. إضافة إلى ذلك، فإن هذه السمات الجغرافية القابلة للقياس هى التى تمنح النيل هُويَّاته الإقليمية والمحلية الفريدة، وتكشف كيف أسهَم فى تشكيل المجتمعات المستقرة على ضفافه بطرق مختلفة، وتخلق هذه السمات إمكانات إقليمية متعددة تساعد على استغلال النيل.

سيناقش هذا الكتاب الأساطير المتعلقة بنهر النيل والمغزى من الرواية القصيرة «قلب الظلام» (Heart of Darkness) وكتاب «تاريخ هيرودوت» (Histories)، كما سيوضح أنه من غير الممكن فهم بزوغ فجر الاستعمار وأُفوله أو إدراك الدور المحورى الذى أدته إثيوبيا تمهيدًا للحرب العالمية الثانية أو تبين مصير جنوب السودان ووضعه الراهن أو الوقوف على ماضى مصر ومستقبلها، دون استحضار هيدرولوجيا النيل فى قلب المشهد.

«عيدى أمين» يصفق لتماسيح النيل المتخمة
مشهد طويل - حُذِفَتْ أجزاء منه فيما بعد - من الفيلم الوثائقى الشهير لـ«باربيت شرودر»، «الجنرال عيدى أمين دادا: صورة ذاتية” (General Idi Amin Dada: A Self-Portrait) ، صُوِّرَ الفيلم عام 1974، على متن قارب نيلى، بالقرب من شلالات مورشيسون، باتجاه المصب. يمكننا أن نرى فى الفيلم أفراس النهر والأفيال والتماسيح - ويبدو الرئيس الأوغندى عيدى أمين متحمسًا بشكل خاص بشأن التماسيح. مصفقًا وملوحًا لها بيديه وهو مبتسم فى محاولة منه لدفعها إلى التحرك. روى مخرج الفيلم الوثائقى لاحقًا فى حوار خاص أجرته معه مجموعة «كريتاريون كوليكشنسز دى فى دي» (Criterion Collections DVD)، أن التماسيح التى شغلت الجميع لم تكن تتحرك لأنها كانت متخمة، والسبب هو التهامها العديد من جثث خصوم عيدى أمين الذين حُكِمَ عليهم بالإعدام وأُلقِيَتْ جثثهم فى النهر (لم يُدرَج هذا الحوار، ولا الصور الوثائقية لعيدى أمين وهو يصفق بيديه ويهلل للتماسيح كجزء من الفيلم الوثائقي). أما «هنرى كيمبا»، أمين مجلس الوزراء وأحد الوزراء فى حكومة أمين، فقد كتب فى وقت لاحق من منفاه عن هذا الموضوع، وأكد أن كل تلك الجثث خلقت مشكلة حقيقية. لذلك، أفرغت الشاحنات المحملة بالجثث فى نهر النيل فى ثلاثة أماكن - فى شلالات أوين فى جينجا، وفى بوجاجالى، وهنا فى حديقة «هيبو بارك» (hippo park) - لينتهى المطاف بالجثث كغذاء للتماسيح. لكنِ اتضح أن أعداد التماسيح الموجودة فى النهر كانت أقل بكثير من أن تلتهم هذا الكم الكبير من الجثث. تحدث «كيمبا» عن الجثث التى كانت تطفو على سطح البحيرة المجاورة لمحطة شلالات «أوين» لتوليد الطاقة الكهرومائية. وقال «كيمبا» إنه فى منطقة ما، بينما كان مسافرًا خلال السد المقام فى منطقة جينجا، رأى «سِتَّ جثث، منتفخة ومتفسخة طافية على سطح الماء بشكل مقزز».

وبالرغم من وجود مركب مكلَّف بانتشال أى جثة تطفو عند السد، فإن العاملين فى الشركات الصناعية القريبة من السد أكدوا لـ«كيمبا» أنهم يشاهدون كل يوم تقريبًا عشرات الجثث الطافية على سطح البحيرة(كتاب «دولة الدم» (A state of blood) لـ«كيمبا»، صادر فى 1977: ص. 53.).

كان الاقتصاد الأوغندى تحت قيادة عيدى أمين يعانى الضعفَ، ولم تكن تُتخَذ أى مبادرات مهمة جديدة عندما يتعلق الأمر بالتحكم فى النيل. وبدلًا من ذلك، استخدم عيدى أمين النهر كمكب ليس فقط لجثث المناوئين لحكمه، لكنْ أيضًا جثث ذوى الإعاقات البدنية من شعبه. كان مشهورًا عن الرئيس عيدى أمين شغفه الشديد بالظهور بمظهر الرجل العادى.

فى أحد الأيام، استقلَّ سيارته وسافر إلى أحد مواقف السيارات المنتشرة فى مدينة كامبالا، وهناك، قرر الدخول إلى أحد المتاجر القريبة، وانضم إلى مجموعة من الأوغنديين كانوا يلعبون «الأجوا»، وهى لعبة لوحية شهيرة فى أوغندا. بينما حضر الكثيرون للمشاهدة، وفجأة، برز من بين الحضور رجل معاق لكنه معروف بين أهالى كامبالا، يدعى «وانديرا ماسكيني». اقترب الرجل من اللوح، وحملق إلى عيدى أمين، وبدأ فى توبيخه قائلًا: «كما ترى، لا توجد بضائع على أرفف المتاجر، وذلك لأنك طردت الآسيويين».

وأضاف: «أيها اللعين، إن شئت أن تقتلنى لكلامى هذا اقتلني» (مجلة «درام” (DRUM) عدد يناير 1987).. لم يقلْ عيدى أمين شيئًا وغادر المكان بعد هنيهة. فى تلك الليلة نفسها، أعلنت محطة أوغندا الإذاعية أنه على كل شخص يعانى إعاقةً بدنيةً كالعمى أو الصمم أو بحاجة إلى أطراف صناعية أو يشعر بالوهن الشديد لدرجة أنه بحاجة إلى دعم صحى من الحكومة، التوجه فورًا إلى أقرب قسم شرطة ليبلغ عن حالته.

وفى صباح اليوم التالى، شوهد الآلاف من المعاقين وهم يُنقَلون داخل شاحنات عسكرية متجهة ناحية جينجا، حيث أُلقوا فى النهر. وكان يُطلَق النار على من كان يحاول التشبث بأى شيء لينقذ نفسه من الغرق. وراء المشهد الجدلى الذى ظهر فيه عيدى أمين فى الفيلم وهو يصفق بيديه للتماسيح أمران: أن الديكتاتور لم يكن يقصد فقط أن يرهب تلك الوحوش الشرسة المستلقية على حافة النهر أو التى تستريح تحت ظل الشجرة بتصفيقه وتهليله، بل كان يحيى جلاديه ويهلل ويصفق لهم.

لا شك أن رؤية «شرودر» فى إخراج الوثائقى كانت بعيدة النظر، لأنه حسب روايته أراد فى هذا المشهد أن يجسد صورة ذاتية للديكتاتور، من خلال تصوير شخص وهو يجسد حقيقته بنفسه داخل الفيلم. لكنَّ الفيلم الوثائقى يقدِّم أيضًا خلفية حقيقية لطبيعة الأوضاع فى أوغندا تحت حكم عيدى أمين، تحديدًا بعد أن قرر طرد الآسيويين من البلاد (وطرد أيضًا 500 إسرائيلي)، وكانوا يمتلكون 80% من المحال التجارية، وكيف أسهم هذا القرار فى إلقاء البلاد فى فوضى اقتصادية عارمة، كان من شأنها أن تطلق العنان لوحش التضخم الهائل والمعاناة الحادة فى الحصول على الموارد الأساسية للمنتجات الغذائية الرئيسية.

صحيح أن الفيلم لم يوثِّق عددًا من تقارير القتل الجماعى للمعارضين والمئات من المفقودين، ولكنه اكتفى بالإشارة إليها، مدعِّمًا تلك التقارير بالعديد من الصور الخاطفة لعمليات الإعدام العسكرية. لكنَّ الغريب فى الأمر، أن عيدى أمين لم يُقدَّم فى الفيلم كديكتاتور تقليدى أو كشخص ذى ميول استبدادية سعيد بقبضه على مقاليد السلطة، لكنَّ الانطباع الذى يتركه الفيلم عند المشاهد هو أنه يرى نفسه شخصًا مرحًا، ومواطنًا بسيطًا. يروى قصصًا عن ماضيه، وشوهد فى أحد مقاطع الفيلم وهو يرقص مع أحد الفرق الإفريقية، ويتحدث كذلك عن علاقات الصداقة التى يزعم أنها كانت تجمعه بعدد من القادة الإسرائيليين، أمثال: «موشى دايان» و«جولدا مائير»، لكنه ذكر أيضًا أن إسرائيل تخطط لتسميم نهر النيل كى تحقق الفوضى المطلقة.

فيلم آخر، أوسع شهرة من الفيلم السالف الذكر، وهو فيلم «آخر ملوك إسكتلندا» (The Last King of Scotland) ، الصادر فى 2006، الذى كان بلا شك يتحدث أيضًا عن شخص الرئيس عيدى أمين، مع أنَّ الفيلم قُدِّم ورُوِّجَ له على أنه فيلم إثارة ـ يحكى عن عامل إغاثة أوروبى ساذج، تورط وعلق فى شبكة هذا الديكتاتور الآسر.

اعتمد الفيلم الروائى على العديد من المشاهد للنيل، لكنَّ النيل، مثله مثل القارة الإفريقية نفسها، استُغِلَّ كخلفية للفيلم يمكن من خلالها سرد ما هو فى الأساس دراما إسكتلندية حسنة النية.

كان هدف مخرج الفيلم «كيفين ماكدونالد» أن يخلق «فيلمًا حقيقيًّا» عن شخصية عيدى أمين، لأنه وفقًا لـ«ماكدونالد»، يُعَدُّ أكثر الشخصيات الإفريقية شهرة إلى جانب «نيلسون مانديلا». لذلك، كان طموحه المعلن هو ملء ما يشبه الفراغ: سيُظهِر الفيلم حقيقة عيدى أمين، وبذلك يكون قادرًا على أن يفسر سبب انشغال العالم الخارجى به.

ومع ذلك، فإن إحدى مفارقات الفيلم هى أن عيدى أمين لم يكن هو محور القصة، لأن لسان حال الفيلم يقول إن عامل الإغاثة الإسكتلندى كان هو الشخصية المحورية التى تدور حولها أحداث الفيلم: فبطل الفيلم هو الدكتور «نيكولاس جاريجان»، الذى حضر إلى أوغندا كى يعمل فى مستشفى ريفى، لكنْ ينتهى به المطاف طبيبًا خاصًّا لعيدى أمين وأقرب ناصحيه ومستشاره الشخصى. وكونه عاملَ إغاثة جسَّد الشق العاطفى من الفيلم، فالطبيب يمثل الأمل والنوايا الحسنة والضمير اليقظ، وعليه، فقدْ قدَّم الفيلم شخصية تمثيلية وذات تفكير كلاسيكى تنتمى إلى الحقبة التى كانت ترسل فيها أوروبا عمالَ إغاثة إلى إفريقيا.

يسلط الفيلم الضوء على وجهات النظر العالمية إبان هذه الحقبة، ويكشف عن ماهيتها فى إطار جديد. و فيلم «الملك الأخير لإسكتلندا» (The Last King of Scotland)، وفقًا لرؤية المخرج هو بالأساس فيلم عن عيدى أمين، لكنه وبشكل غير مباشر كشف النقاب عن وجهة النظر العالمية التى لا تهتم سوى بمصلحتها وعلاقتها بالإغاثة، أى النموذج الأصلى التأسيسى لها. فكيف لنا أن نفهم سبب عدم قدرة فيلم من المفترض أن يدور حول عيدى أمين على نقل ما يحدث فى أوغندا دون أن يظهر المغيث أو المانح فى بؤرة الأحداث؟

وأكد المخرج أن الهدف من وراء العمل لم يُقصد به استحضار نسخة جديدة من فيلم «قلب الظلام» (Heart of Darkness) (مأخوذ عن رواية «جوزيف كونراد») فى تصويره لإفريقيا.

لقد أراد تجنب إعادة إنتاج الأنماط التقليدية التى سقطت القارة ضحية لها. وبدلًا من تكرار هذه الأنماط التى عفاها الزمن، دعم الفيلم بأقوى القوالب المعاصرة من خلال دمجها داخل حدث تاريخى ظهر خارج نطاق عالم علاقات الإغاثة الإنسانية. وميَّز الطبيب الشاب «نيكولاس» نفسه عن نمط أبطال الحقب السابقة؛ فعلى النقيض من المغامر الأوروبى الكلاسيكى، لم يكن يسعى وراء الإثارة والمغامرة داخل القارة «البرية».

بدلاً من ذلك، يدمج بطل النوع الحالي: نمط المساعد الغربى الباحث عن «المعنى» فى عمق «القارة المظلمة». هذا النمط المعاصر لبطل الأحداث ضاعفَ المشكلة عندما عُرِضَ الفيلم، على الرغم من وضع عامل الإغاثة فى مركز الأحداث، فإنه لم يغفل فضح السياسات والممارسات المرتبطة بعيدى أمين.

ما نعرفه عن خلفية «أمين» التاريخية، أنه كان جنديًّا فى الجيش الأوغندى ونجح فى استغلال فرصه أفضل استغلال، واستحوذ على السلطة، وأسس ديكتاتورية جديدة. وبالرغم من الروايات الكثيرة التى دارت عن وحشية عيدى أمين وأكله لحومَ البشر وممارسته السحر والشعوذة، وكانت هذه الأمور معروفة لدى الكثيرين، وكونه يعتبره العديد من الأفارقة أسوأ ما فى إفريقيا، كان من المزعج بل من المثير أن يضع الفيلم عيدى أمين فى موضع غريب وشاذ بعض الشيء، وإظهاره كشخص يتمتع بروح الدعابة مجسدًا إياه، حقيقًا كشخصية طفولية، ذات مسحة سيكوباتية. إن أداء «فوريست ويتكر» للدور جعل عيدى أمين يبدو كشخصية أبوية، وكأنه كان واحدًا «من الشعب» (وهو شيء أكده «ويتكر” فى الإعلان الترويجى للفيلم، راجع منصة يوتيوب). لو كان مخرج الفيلم استعان بالمزيد من الأوغنديين كممثلين فرديين وحيويين، لكانت حدود منظور الفيلم قد كُشِفَتْ بصورة أوضح.

كرامات «لاكوينا» وحماية مياه النيل للمحاربين من رصاص أعدائهم
فى شهر مايو من عام 1986، جلست امرأة تبلغ من العمر نحو 30 عامًا بالقرب من شلالات مورشيسون التى تُعرَف فى اللغة الأتشولية بـ«وانج جوك» أو «عين الشيطان». ولتدفق نهر النيل فوق حافة الجرف باستمرار واندفاعه القوى وهدير خريره الذى يصم الآذان، أصبح هذا المكان، كغيره من العديد من المعالم المائية المماثلة، مرتعًا لممارسة شعائر السحر الشعبية. كما أضحى هذا المكان فى عام 1986، مهدًا لواحدة من أغرب الحركات الأيديولوجية العسكرية فى إفريقيا فى الآونة الأخيرة. وكانت هذه المرأة صاحبة الأعوام الـ30 هى مؤسستها.

لمن لا يعرف، كانت «أليس أوما» - وهى امرأة من عامة الشعب ليس لديها أطفال - تبدو للوهلة الأولى كسيدة جالسة بالقرب من الشلالات تتحدث إلى نفسها؛ فقد كان فمها يتحرك بوضوح. لكنَّ «أليس” كانت بالكاد يمكنها أن تتكلم أو تسمع. وقد اصطحبها والدها إلى العديد من المعالجين المحليين، لكنهم لم يفلحوا فى علاجها. وخُلص الأمر إلى أنها لم تكن قادرة على التحدث أو السمع بصورة طبيعية لأن الروح «لاكوينا» قد حلَّت فى جسدها وبدأت تتحدث من خلالها.

وقد أمرتها الروح بزيارة شلالات النيل واقتادتها إلى هذا المكان، بالقرب من «وانج جوك». وقد ظلت معتكِفة هناك لمدة 40 يومًا، لكنها لم تكن تتحدث إلى نفسها، بل كانت تتواصل مع أرواح النهر.

وفقًا للرواية المتداولة، نصبت الروح «لاكاوينا» محاكمة بمشاركة الحيوانات فى «حديقة بارا الوطنية» (Paraa National Park) بشأن الحرب الدائرة فى أوغندا بين قوات الجيش التابع لقائد التمرد «يوويرى موسيفيني» وقوات الجيش التابع للأخوين «أوكيلو”. كان الأخوان «أوكيلو» ينتميان إلى قبيلة أتشولى، تمامًا مثل «أليس»، وخلال مدة قصيرة؛ من عام 1985-1986، استطاعا الاستيلاء على زمام السلطة فى أوغندا(فى عام 1985، جلست وتحدثت مع شرطى مسلح بالكامل عند أحد المتاريس المقامة فى مدينة نمولى، المدينة الحدودية بين السودان وأوغندا، فى حين كان الجيش الأتشولى غير المنظم بشاحناته القليلة يتدفق عبر الحدود إلى أوغندا لتولى السلطة فى مقر الحكم بالعاصمة كامبالا خلفًا للزعيم «ميلتون أوبوتي». واستولى جيش «أوكيلو» سريعًا على موقع الدفاع، وكان «موسيفيني» فى العام نفسه قد اُستُقبل كبطل محرِّر للدولة فى كامبالا، واستولى على السلطة فى البلاد لما يقرب من 25 عامًا.). 

قالت الروح للحيوانات: «أيتها الحيوانات، لقد أرسلنى الرب لكى أحاسبكم إذا ما كنتم تتحملون مسئولية إراقة الدماء فى أوغندا».. لكنَّ الحيوانات أنكرت تحملها المسئولية ونفت أن تكون هى الطرف الذى يقع عليه اللوم؛ واستعرض الجاموس جرحًا فى ذراعه وأظهر فرس النهر جرحًا فى كُراعه. حينها، وجَّهت «لاكوينا» حديثها للشلال وقالت: «أيتها المياه، لقد أتيتُ إلى هنا لكى أسألك عن الخطايا وإراقة الدماء فى العالم» (يستند جزء من هذه القصة على كتاب لـ«بيرند»، صادر فى 1999. الاقتباسات من ص. 30-32). أجابت المياه: «إن البشر - أولئك الذين لهم قدمان - هم من يقتلون إخوانهم ويلقون بجثثهم فى المياه». ولمَّا سألت الروح المياه عمَّا فعلته بالخاطئين، أجابت المياه: «أنا أحارب الخاطئين، لأنهم هم من يقع عليهم اللوم وذنب إراقة الدماء. أتدفق وأقاتل الخاطئين، لأنهم يرمون بإخوتهم فى المياه».

بعد عودة «أليس» إلى قريتها لمدة قصيرة، قادتها الروح «لاكوينا» إلى جبل كيلاك الذى بدوره رحَّب بقدومها بانفجارات كبيرة. قالت الروح للجبل: «لقد أرسلنى الرب لأكتشف لماذا توجد سرقات فى هذا العالم». أجابها الجبل: «أنا لم أذهب إلى أى مكان ولم أسرق أطفالَ أحد. لكنَّ الناس يأتون إليَّ هنا ويسمون أسماء من يجب أن أقتلهم [من خلال صب اللعنات]. وبعضهم يطلب منى الدواء [للشفاء من السحر]. [...] أنا أريد أن أمنحك الماء كى تشفى به الأمراض. لكنكِ يجب أن تحاربى الخاطئين».

فى أغسطس عام 1986، أمرت الروح «لاكوينا» «أليس» أن تتوقف عن العمل كمعالجة شعبية. فلا جدوى من الاستمرار فى هذا العمل والحرب مستعرة فى البلاد. وبدلًا من ذلك، جاءتها الروح لبدء حركة جيش الرب الأوغندى. عليها أن تقود المعركة ضد الشر - وتضع حدًّا لحمام الدم. رأت «أليس» أن هذه المهمة هى هدية أرسلتها إليها الآلهة. تطلب الأمر استعادة العاصمة كامبالا من أيادى السلطة. بهذه الطريقة، ستتحرر قبيلة أتشولى من أعمال العنف التى دارت فى مثلث لويرو، وحينها ستتمكن القبيلة من بناء جنتهم على الأرض.

رأت حركة جيش الرب الأوغندية وجنودها أن الهزيمة العسكرية ناتجة عن الانحلال الأخلاقى وليست ناتجة عن أى عدو يتمتع بقوة عسكرية أكثر تفوقًا. لذلك، لم يُنظَر إلى تمردهم على أنه تمرد على الجانب الأخلاقى فحسب، بل كان يُنظَر إليه كتمرد للطبيعة ضد الأوضاع الراهنة فى أوغندا. وأن الطبيعة كانت ستقف إلى جانبهم لو كانوا تعاملوا معها بالطريقة الصحيحة. وتمدُّهم بالإضافة إلى الجنود، بـ14000 من الأرواح والنحل والثعابين والحجارة والأنهار. كانت المياه تمثل دومًا قيمة عظيمة بالنسبة إلى المحاربين. لم يكن الأمر محوريًّا فى عملية التطهير الضرورية لتحويلهم إلى محاربين فحسب، لكنْ أيضًا لحمايتهم من طلقات الرصاص. فى النهاية، أعلنت الروح: «أيًّا ما كان يحدث، فسيمحوه الماء!» و«ليس هناك ما هو أعظم من الماء»، فالربُّ خلق الماء قبل كل شيء». «إن الماء هو خلق الرب الأول، وهو بمنزلة «ولده البكر» (المصدر السابق: ص. 63..)

ألهمت «أليس» قبيلة «أتشولي» خلال حقبة تاريخية تميزت بالهزيمة العسكرية والانحلال الأخلاقى والثقافى. وهكذا، فإن التقاليد والمعتقدات الدينية الخاصة بالمجموعة العرقية الأتشولية تعنى أن رؤى «أليس» كانت مفعمة بقوة الإيمان. فـ«أليس»، المرأة غير المتعلمة التى لا تمتلك أى خبرة عسكرية، استطاعت وبسرعة كبيرة حشد آلاف الجنود. وقادتهم إلى حرب ضروس دون أى أسلحة حديثة، فقط العِصى والحجارة وماء النيل بخصائصها التى من شأنها أن تجعلهم لا يُقهرون.

وقع الهجوم الأول بالقرب من مدينة ليرا فى شمال أوغندا، بجوار أحد روافد بحيرة كيوجا الضحلة التى تمرُّ خلالها مياه النهر ببطء. كان أعضاء الحركة مسلحين بأكياس مليئة بالحجارة، ويحملون العصى – وهم ينشدون الأغانى، وملابسهم مبللة وأجسامهم مدهونة بزيت السمسم - مسرعين إلى الحرب. والمثير للدهشة، أنهم ألحقوا خسائر فادحة بصفوف القوات الحكومية، مع أنَّ أحجارهم لم تكن تنفجر مثل القنابل اليدوية ولم تتوقف طلقات الرصاص عن ملاحقتهم كما وعدتهم «أليس».

لكنْ فى النهاية، عانى جيش «أليس» خسائر أكبر وأعظم، واتُّهمت «أليس» بممارسة السحر والشعوذة، وبأنها ممسوسة من الشيطان والأرواح الشريرة المدمرة. فى حين مُنيت الحركة بهزيمتها الأخيرة قبل أن تتمكن من الوصول إلى كامبالا، أما «أليس»، فقد هربت إلى أحد مخيمات اللاجئين فى كينيا - وزعمت أن «لاكوينا» قد هجرتها - واختفت من تاريخ أوغندا.

وبذلك، اختفت المرأة التى أتت لطلب المشورة بالقرب من «وانج جوك» أو «عين الشيطان»، لكنْ ظل مفهوم القوة الكامنة فى مياه النيل باقيًا على مر التاريخ فى هذا الجزء من حوض النيل.

مرض النوم والاستعمار
كانت وجهتى هى مدينة كيزيمو (بورت فلورنس سابقًا)، التى تُعَدُّ الآن أكبر مدينة على الضفاف الكينية لبحيرة فيكتوريا. لم تحقق المدينة أى جذب لرءوس المال الأجنبية أو المصالح التجارية المحلية فى مطلع القرن العشرين. ولم تكن المدينة آنذاك تثير أى اهتمام من أى نوع، كما لم تكن تمتلك الموارد التى تغرى المغامرين بالسفر إليها؛ فلم يكن بها ذهب ولا فضة ولا مطاط ولا قطن. ولكنها كانت تتميز بأنها تقع مباشرة قبالة ضفاف البحيرة النيلية، وهذا فى حد ذاته كان كافيًا لتشكيل مستقبلها.

فى ذلك الوقت، انتشر وباء مرض النوم القاتل خلال إقليم البحيرة بأكمله ومنه إلى باقى دول حوض النيل. مات مئات الآلاف من البشر جراء الإصابة بالوباء القاتل فى غضون سنوات قليلة. فى عام 1903، ذكرت التقارير أن 90000 شخص لقوا مصرعهم جراء الإصابة بالوباء القاتل فى أوغندا وحدها. وفى سبتمبر 1904، قدَّرت الجمعية الملكية الإفريقية للمملكة المتحدة عددَ من ماتوا خلال هذه السنة بنحو 40000 شخص. لم يكن من الممكن تفادى الوفاة إذا لدغتك ذبابة تسى تسى ولم تتلقَِ العلاج المناسب. وعلى هذا الأساس، تصرفت الإدارة الاستعمارية البريطانية.

اتفق الجميع على أن التغيرات التى طرأت على نظام المياه المحلى هى التى تسببت فى عودة ظهور المرض. وخلال المدة ما بين عامى 1898 - 1900، ضربت موجة من الجفاف الشديد إقليم شرق إفريقيا. أدى ذلك إلى تلف كمية كبيرة من المحاصيل وانتشار المجاعات.

من ناحية أخرى، هطلت الأمطار بغزارة فى عام 1900، وهذا ما أدى إلى إعادة إحياء نباتات الأدغال المنتشرة على طول ضفاف البحيرة بسرعة. ووثَّق البريطانيون أن بضع مئات فقط من مئات الآلاف من حالات الوفاة، وقعت فى أقاليم أخرى غير تلك المتاخمة للبحيرة. على هذا النحو، سرعان ما أصبح واضحًا أن ذبابة تسى تسى كانت هى مصدر العدوى، وأن الشجيرات المنتشرة على ضفاف البحيرة هى التى مكَّنت الحشرة من التكاثر بهذه السرعة. ولوجود العديد من الذباب، ولقدرة هذا الذباب على نقل المرض من شخص إلى آخر من خلال اللدغ، فقد تبع ذلك ظهور الوباء القاتل.

اتخذ البريطانيون العديد من الإجراءات العاجلة لمواجهة الوباء. فبنوا مستشفى للحجر الصحى فى مدينة كيزيمو، التى صارت، مثلها كمثل محطة السكة الحديدية، مكانًا هامًّا. نُقِلَ كل مَن يعانى مرض النوم من المناطق الواقعة على ضفاف البحيرة قسرًا إلى معسكرات الحجر الصحى المقامة فى مواقع متعددة. وبمجرد وصولهم، إما كانوا يموتون فى سلام جراء الإصابة بالوباء دون نقل العدوى وإما يشفون. تلقَّى كل زعيم قبيلة يمتلك أرضًا أمرًا بإخلاء المكان من جميع سكانه الذين يعيشون على ضفاف البحيرة وحتى مسافة كيلومترين بعيدًا عنها لستة أشهر التالية. وطُبِّقَتْ جهود إعادة التسكين هذه، دون مقاومة تُذكَر، فكل أسرة من الأُسَر التى كانت تعيش بجوار البحيرة تلقَّت مبلغًا صغيرًا من المال كتعويض وأُعفِيتْ من الضرائب لمدة عامين.

فى الوقت ما بين عامى 1900 و1904، لقى 200000 شخص من إجمالى 300000 شخص من الذين كانوا يعيشون على طول ضفاف البحيرة مصرعهم جراء الإصابة بالوباء القاتل. وكان البرنامج الصحى الذى اتبعته بريطانيا للتعامل مع الوباء هو السبب الرئيسى وراء انخفاض إجمالى عدد الوفيات فى الوقت ما بين عامى 1905 و1909 إلى أقل من 25000 حالة وفاة. كان التقدم واضحًا، ففى عام 1905 انخفض إجمالى عدد الوفيات إلى 8003 حالات وفاة؛ وفى عام 1906، انخفض إلى 6522 حالة وفاة، وفى عام 1907، انخفض إلى 4175 حالة وفاة، وفى 1908، انخفض إلى 3622 حالة وفاة، فى حين انخفض إلى 1782 حالة وفاة فى 1909. لقد أظهرت سياسة الإجلاء وإعادة التسكين بعيدًا عن البحيرة الأيديولوجية الإمبريالية النموذجية فى ذلك الوقت، وكانت حملة الإجلاء فرصة لاستعراض هيمنة بريطانيا وسطوتها على مستعمراتها، أمام نفسها وأمام الآراء المتشككة دائمًا، على الأقل الموجودة منها داخل بريطانيا العظمى.

مثل العديد من المعارك الأخرى فى تاريخ التنمية، لم يُنتصَر فى المعركة ضد ذبابة تسى تسى مرة واحدة وإلى الأبد؛ فشواطئ بحيرة فيكتوريا قدَّمت محيطًا دائمًا للتنوعات المميزة أو استدامة الظواهر البيئية؛ فذبابة تسى تسى التى أجبرت «وينستون تشرشل» على الاحتماء منها وتغطية نفسه بزى الوقاية (كما لو كان نحَّالًا) عندما زار أوغندا فى مطلع القرن العشرين، ما زالت موجودة فى المنطقة. لكنَّها أصبحتِ اليوم مجرد ذبابة مزعجة ومثيرة للغضب، للدرجة التى دفعت السائق الذى استأجرتُه ليأخذنى فى جولة حول هذه المنطقة، إلى تعمُّد قتل كل الذباب فى أثناء قيادته السيارة. ونتيجة لذلك، فقد السيطرة على السيارة وانحرف عن الطريق.

تدحرجت السيارة بنا عدة مرات، وكنت الوحيد الذى بقى ثابتًا فى مكانه لأننى الوحيد الذى كان يضع حزام الأمان. أمَّا رفيقى الآخر، فقد سمعتُ صوت تخبط جسده خلفى. كان ضخم الجثة، لذلك، كان صوت ارتطام جسده عاليًا. وبالرغم من كل ما حدث، تمكنَّا من فتح أبواب السيارة الثقيلة، وخرجنا منها دون أن نُصاب ولو بخدش صغير، وبينما كنا نهرول خارج السيارة، كان علينا أن نحرك أذرعنا لكى نحمى أنفسنا من لدغات الذباب. فوجود ثلاثة رجال يحركون أذرعهم فى الهواء بشكل محموم على الطريق السريع الخالى والصامت كان دون شك مشهدًا غريبًا، لكنه لم يكن مثيرًا للقلق للحد الذى يمنع السيارة الأولى التى مرت بنا من التوقف لنا وإيصالنا إلى أقرب مكان ممكن.