حديث الأسبوع

الإعلام الغربى فى بيت الطاعة

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

ما من شك أن الحرب القذرة التى تخوضها قوات الاحتلال الإسرائيلى ضد الشعب الفلسطينى فى غزة، مثلت لحظة فارقة جدا فى مسار وتاريخ الإعلام الغربي، حيث وجدت الغالبية الساحقة من وسائل الإعلام الغربية نفسها فى مواجهة زمن صعب ومعقد، أجبرها على الخروج من دائرة الشعارات والمبادئ والقيم التى سوقت لها على امتداد عقود من الزمان، ومثلت مرجعيات صلبة فى الممارسة الإعلامية المعاصرة.

الأكيد أن وسائل الإعلام الغربية لم تكن حرة فى اختيار خط تحريرى آخر فى التعامل مع أحداث كبرى مستجدة لها تداعيات وتأثيرات كبيرة جدا على الأوضاع العالمية والمصالح الاقتصادية والجيو استراتيجية المرتبطة بها، بل ومن نتائج هذه الحرب الشنيعة أن اضطرت كثير من وسائل الإعلام الغربية إلى التجرد من جميع شروط ومبادئ وقيم الممارسة الإعلامية، التى تظاهرت بها أمامنا لحقب طويلة من الزمن، وخرجت إلى الرأى العام العالمى عارية، متنكرة لمنظومة طويلة من الشروط المتعلقة بأخلاقيات العمل الصحفي. 

وفى الحقيقة يصعب إنجاز رصد دقيق لأداء العدد الكبير من وسائل الإعلام الغربية تجاه الحرب القذرة فى غزة، ولعل هذه المهمة تحتاج إلى خبراء متخصصين، وإلى مجلدات تستوعب التقييم الشامل والدقيق، لكن مع ذلك فإنه ثمة شظايا كثيرة تطايرت بما اقترفته وسائل الإعلام هاته من جسيم الانتهاكات ضد الحقيقة وضد هذه المهنة النبيلة.

فمنذ اليوم الأول من (طوفان الأقصى) لوحظ أن جميع وسائل الإعلام الغربية، خصوصا كبرياتها، تعاملت مع الحدث بمنسوب عال جدا من الحماس المفرط، حيث لم تقتصر على نقل الوقائع كما حصلت فى الميدان، بل تجاوزت ذلك إلى التجرد من عدم الانتماء لهذه الأحداث والانحياز لتفسير أحادى لما جرى، واستعمال التعابير المستقاة من قناعات إيديولوجية معينة، ولذلك لم يكن لافتا أن تضيف كثير من وسائل الإعلام  هذه أحداثا من عندها لم تحدث فى أرض الواقع، أو أنها تحولت إلى رجع صدى للأطروحة المعادية، وهذا ما يفسر تكثيف اللحظة بالأخبار الزائفة، التى تأكد لاحقا أنها لم تحدث إلا فى الخطة الإعلامية الإسرائيلية التى سعت إلى تكثيف الطابع الإنسانى لما ترتب عن عملية (طوفان الأقصى) لاستمالة مشاعر الرأى العام الدولي، وهكذا تزاحمت أخبار زائفة فى العديد من وسائل الإعلام هذه، من قبيل قيام رجال المقاومة بعمليات اغتصاب للنساء وتعذيب للمسنين والمعاقين والأطفال. 

إن مجموع وسائل الإعلام الغربية حرصت حرصا شديدا على نشر وعرض أحداث السابع من أكتوبر معزولة عن السياق التاريخى للعنف وللحروب وللعدوان ولجرائم الإبادة فى فلسطين، وهكذا سعت إلى الترويج بأن العنف هناك بدأ من يوم السابع من أكتوبر لإلباس تهمة الإرهاب بالمقاومة الفلسطينية، وأن إسرائيل ضحية فى حاجة ملحة إلى دعم وإسناد، وتعمدت وسائل الإعلام الغربية التنكر للجرائم الإرهابية التى اقترفها الاحتلال الإسرائيلى ضد الشعب الفلسطينى طوال أكثر من سبعة عقود، وهكذا فإن المجازر التى اقترفت فى حق الفلسطينيين بداية من مجزرة حيفا سنة 1938 إلى اليوم قام الإعلام الغربى بإلغائها للإبقاء على ما جرى يوم السابع من أكتوبر معزولا عن السياق التاريخى للعنف و الإبادة فى فلسطين.

وعززت وسائل الإعلام الغربية تحيزها لفائدة طرف من طرفى الحرب بالتسويق والترويج لأطروحة (شرعية الدفاع عن النفس)، وبذلك أكدت أنها طرف مباشر فيما يحدث، لأنه لم يكن فى يوم من الأيام من دور وسائل الإعلام المستقلة والنزيهة البحث عن مبررات لطرف من أطراف الأحداث، وليس من اختصاصها تبرير ما يحدث، بل وظيفتها الرئيسية تقتصر على نقل الأحداث ونشرها إلى العموم عبر تغطيات إعلامية مهنية.

الأدهى من ذلك أن الإعلام الغربى  قاسم الجيش الإسرائيلى مفهوم (الدفاع الشرعى عن النفس)، الذى انتقل من اكتساب شرعيته من التصدى إلى خطر مستمر من طرف شخص أو جماعة، ومواجهته بما تتطلبه هذه المواجهة مع الجهة التى عرضت الآخر إلى الخطر، إلى اقتراف مجازر ضد المدنيين لا علاقة لهم نهائيا بالخطر الذى تعرض له الاحتلال الإسرائيلي، ولا بالضرر الذى لحقه من جراء عمل ما. وهكذا أضحى (الدفاع عن النفس) بالنسبة للاحتلال الإسرائيلى ولوسائل الإعلامية الغربية الخدومة، وسيلة جبانة للانتقام ولتعويض العجز والفشل فى تحقيق الأهداف التى أعلنها الاحتلال الإسرائيلي، خصوصا ما يتعلق بتدمير بنية المقاومة والأنفاق، وتحرير الأسرى، باقتراف مجازر ومحارق ضد البشر والحجر، فى إطار الضغط و الابتزاز.

 ورغم هول المجازر فإن وسائل الإعلام الغربية تماهت مع المغالطة الإسرائيلية، وحرصت على تغييب الآراء والأطروحات المخالفة، بل أكثر من ذلك، تعمدت فى كثير من الأحيان التعتيم بإتاحة الفرصة لجزء يسير جدا من الرأى الآخر وللموقف الآخر، لكن بشروط مخالفة تماما للرأى الواحد الأوحد الذى اقتصرت عليه، وكان الهدف من هذه المحاولة إظهار الرأى والموقف الآخر ضعيفا ومرتبكا وفاقدا للشرعية، وتجلى ذلك فى تقليص المدة الزمنية واستفزاز الضيوف وحجب الصور وغيرها كثير من الوسائل الخبيثة التى اعتدنا استعمالها واستغلالها من طرف الأنظمة السياسية المغلقة.

وبدا واضحا أن الرهان الأكبر لوسائل الإعلام الغربية تجسد فى السعى إلى فرض حالة إجماع دولى لفائدة طرح معين، مقتنع بأن ما يجرى يخدم السلم والاستقرار فى العالم، من خلال القضاء على المقاومة الفلسطينية بصفتها منظمات إرهابية، وأن الشهداء الذين يسقطون تباعا بالآلاف، بما فى ذلك الأطفال والنساء هم فاتورة طبيعية وعادية، بل وضرورية للقضاء على الإرهاب، والأخطر من ذلك تماديها فى الإيهام بافتعال وجود إجماع واقتناع عالمى بهذه الأطروحة الزائفة.

ولم تترد وسائل الإعلام الغربية طيلة الأربعة أشهر المنصرمة من عمر العدوان فى استعمال أساليب التضليل ونشر الأخبار الكاذبة ثم الاعتذار عنها، ومن ثمة العودة إلى نشر أخبار زائفة أخرى ليتم الاعتذار عنها مجددا، فيما أصبح يعرف بـ (لعبة الاعتذار)، ويكفى الاستدلال على هذا المكر الإعلامى بالتذكير بأن جميع الأخبار الزائفة كانت تتعلق فقط بالمقاومة الفلسطينية وبالشعب الفلسطيني، وليس بجهة أو طرف آخر. 

ولم يكن خافيا أن وسائل الإعلام الغربية تعاملت بدونية واحتقار مع المواطن الفلسطينى الذى بدا من خلال التعاطى الإعلامى الغربى بدون قيمة إنسانية ولا وجودية مقارنة مع المواطن الإسرائيلي، الذى بدا أكثر سموا ورفعة فى وسائل الإعلام هذه، والأدهى من ذلك أنها لم تخف تحريضها على التمييز والكراهية ضد الفلسطينيين.

هكذا وغير كل ذلك كثير، تكون كثير من وسائل الإعلام الغربية قد تحولت إلى ماكينة حرب، وإلى أدوات طيعة فى خدمة الجيش الإسرائيلي، ومن خلاله المصالح الجيو استراتيجية للغرب .

 نقيب الصحفيين المغاربة