سمر طاهر تكتب .. بالميّت!

أبداع
أبداع

ما أن انتهى الشيخ من تلاوة الآية الأخيرة من سورة البقرة، حتى سالت على وجهى دمعة، تلك الدمعة التى حاولت منعها من اللحظة الأولى التى جلست فيها بالعزاء، ثقل كبير يقطن بداخل صدرى، ليس حزنا، لكنه شىء آخر.. غضب؟ 

لن تصدق الموجودات حولى أننى أبكى من الغضب، فى عزاء سيدة مسنة، عموما فإن دموعنا تسعفنا على تحسين هيئتنا فى هكذا مناسبات، تجعلنا نبدو مهتمين وعاطفيين، دموع تجميلية، حتى لو كانت قد ذرفت لغير ذى سبب.

اقترحت صديقة أن نذهب لشرب القهوة فى مكاننا المفضل، والقريب من بيت نهلة، كم أنها فكرة غير ملائمة، ستجعل هيئتنا سيئة، غير متعاطفين، وجلودنا غليظة، إلا أن نهلة، على غير ظنى، سرعان ما وافقت! قلبها قوى صحيح..

فى المقهى نظرت لنهلة من رأسها لقدميها، ترشف مشروبها الدافئ، لقد طلبت كاكاو دافئا، وليس قهوة، نظرت لها بينما ترشف وتتحدث بهدوء وسط دموعها، ذكرتنى بالأفلام الأجنبية، حيث يبكى الأبطال على موت أقاربهم فى سكون وأناقة، كأن هناك بروتوكولاً خفياً يجبرهم، أو إيماناً عميقاً يغمرهم ويهدئهم، بل قد يبتسمون أيضا، كأنهم يتذكرون "محاسن" موتاهم.

طبعا نهلة تتذكر محاسن والدتها، فقد كانت صديقة لها، على عكس أمى، الله يرحمها..

 ابتسمت للكلمة الأخيرة التى خطها عقلى لا إراديا، سريعا ما تمتمت لنفسى "الله يديها الصحة"، كأنها تجلس معى لتراقب أفكارى، وأخشى غضبها.

أظن أنى سأبكى بعد موتها بصوت عالٍ، وأتأوه، وربما أصرخ.

طردت الخاطر ووقعت عينى على ملابس صديقاتى، المشغولات الذهبية وقطع الألماس تتلألأ فوق الملابس السوداء ذات الماركات الباهظة، تذكرت كلام جدتى، العزاء مناسبة مهمة للتزين وإظهار المستوى الاجتماعى لمعارف الميت، نظرت للسوار الضخم باهظ الثمن فى يدى اليسرى بفخر.. لقد قمت بالواجب وزيادة..

قطع تدفق أفكارى صوت نهلة، وهى تخبرنا عن مدفن والدتها، وكيف أنها قد اشترته بالضبط قبل موتها بشهرين فى مدافن طريق الواحات، أفضل مكان بدون جدال، وكل جيرانهم فى "نيو جيزة" اشتروا مدافن هناك، وسعر المتر يرتفع كل يوم، حتى أن نادى الجزيرة قدم تسهيلات لأعضائه لشراء قطع أرض بالتقسيط..

 -"الحمدلله أن ماما اشترت هناك ولولا ذلك كانت ستدفن فى المدفن القديم فى البلد" 

حركت جميع السيدات الجالسات أفواههن، تعجبا، وتسبيحا، أو ادعاءً، ولسان حالهن يقول:

-" يا سلام، كانت حاسة، سبحان الله".

نهلة ممتنة جدا لدفن والدتها هنا فى القاهرة، هكذا سيسهل عليها زيارتها.

دموع نهلة تبدو غريبة، ليست غضباً بالتأكيد، ولا حتى حزناً، ربما شجن، ابتسامة، ذكريات طيبة، لا أعرف، لكنها دموع مايعة، ليست كدموعى التى ذرفتها منذ قليل بالعزاء. 

قالت صديقة بينما نحن نهم بمغادرة المكان، أن علينا كلنا شراء مدافن، فعمرنا لم يعد صغيرا، نظرت لصدرها، ففهم الجميع ما تقصده، ربما فعلا ترهلنا بفعل الزمن.

 انفجرن جميعا فى ضحك متواصل بلا سبب.. ابتسمت.

.....

على سريرى أخلع حذائى بهدوء، أنظر لنفسى بثوبى الأسود الأنيق فى المرآة، الفستان يجعل قوامى ممشوقا ولا يظهر تهدلاً أصابنى، لكن لا أظن أننى لا أزال جميلة، الحزن يسرق البهاء.

شعرت بالامتنان لأحداث اليوم، فالعزاء فرصة جيدة للبكاء، بدون التعرض للسؤال أو الحاجة للتبرير.

وصل لمسامعى صوت كرة قدم تقفز وتخبط الأرض عدة مرات، كتمت غضبى، ومن النافذة رأيت ياسين فى الحديقة، ومعه ولد آخر من أبناء الجيران، ابتسمت عندما رأيته سعيدا، وتجاهلت الاستفزاز الذى تسببه لى صوت الكرة. يلعب ببراءة وحماس، كأن الحياة ملكه.

هل سأموت يوما وأتركه، هل سأدفن بعيدا عنه، هل سيزورنى..وهل..؟

هززت رأسى وطردت الأفكار سريعا، كم أكره المناسبات التى تذكرنا بفكرة الفراق.

......

فى الصباح، فى بيت أمى، أشرب الشاى فى بلكونة شقتها وانظر لحديقة الحيوان. أتشاغل بالنظر للشارع عن أسئلتها وتعليقاتها ولومها لى ولخادمتها السمراء على حد سواء، والذى لا تسميه لوما، لكنه مجرد كلام عادى، "ومحدش بيزعل منه غيري".. حتى الخادمة لا تغضب من نعت أمى لها بـ"السوداء".

ربما العيب فىَّ بالفعل، بالتأكيد أمى تعرف أكثر.

زيارتها عبء علىَّ، لكن لا مشكلة، ساعة فى الأسبوع، مقدور عليها، سامحنى يارب، فشعورى ليس بيدى.

وبينما هى تكمل حديثا لا ينقطع، كنت أنا قد سافرت بعيدا لمدافن عائلتنا، هل سأدفن بجانبها بعد عمر طويل، هل ستكون وقتها بنفس درجة الإزعاج والضجيج.

نظرت لها، لا تتوقف عن الكلام واللوم، ونظرت لجسدى الكائن إلى جوارها، أحاول أتخيله راقدا بجوار جسدها.. بعد عمر طويل..

أجفل من مجرد الخيال.. أنا أطول منها، لكننى قزمة بجانبها.

لا أكرهها، لكنها تثير توترى وشعورى بالذنب، لا تفهمنى، وتعتقد أننى لا أفهمها، ربما كانت تستحق ابنة أفضل منى، ربما يجب أن أكرهها..

أفقت على صوتها تسأل عن حال حاتم، وإذا كان بخير.

.....

حاتم؟ 

نظرت للحظة لا أفهم السؤال، هل هى فعلا تريد أن تعرف أحوال حاتم، أم تريد أن تسمعنى أتكلم عنه ولو باقتضاب كى تطمئن نفسها بأن كل شىء بينى وبينه على ما يرام، وأننى نسيت موضوع الطلاق.

 كرَرت السؤال، فاكتفيت بأن أهز رأسى وأتمتم بكلمات لم أفهم معناها لكن يبدو أنها كانت كفاية لطمأنتها، سألتنى أيضا عن أحوال حماى وحماتى، تسرعت وقفزت من فمى كلمات غاضبة، ففى آخر مرة قابلتهما على الغداء انتقدت والدة زوجى تصرفات وشقاوة ياسين، وانتقدتنى أيضا لأنها شمَّت فى كلامى لوماً لابنها حاتم، زوجى، عندما ذكرت لها سفره الدائم ففهمت إشارتى لتقصيره فى تخصيص وقت لنا.. دافعت هى عنه ولامتنى.. هى لا تنصفنى أبدا..

 -"كيف ستنصفنى إذا كانت أمى نفسها لا تنصفني".. 

هكذا فكرت لكنى لم أخبر أمى بخاطرى الأخير..

قذفتنى أمى بوابل من كلمات اللوم تعليقا على شكواى من أهل حاتم، ومع أنها لم تحب أهله يوما إلا أنها اتهمتنى بعدم الحنكة فى التصرف معهم.

بدأت أدافع عن نفسى، رغم أنى كنت قد قررت ألا أدافع عن نفسى أبدا عندما تلومنى، لكننى فعلت رغما عنى، كطفلة جوعى لنظرة رضا، تريد تبرئة ساحتها أمام أمها..

 لم تستمع إلىَّ وأنهت كلامها بقرار حاسم:

-"حماتك عندها حق، أنتِ اللى غلطانة"..

أدارت وجهها لتنادى خادمتها لتحضر المزيد من الشاى والبسكويت، وأكملت كلامها بطريقة اعتيادية معى عن ابنة خالتى وخطيبها، وابن خالة والدتها، وابنة عمة فلانة، وعن العائلة كلها.

فكرت أن حماتى أكثر رأفة من أمى، على الأقل هى تحب ابنها وتدافع عنه، بالتأكيد سأدافع عن ياسين لو لامته زوجته، شىء طبيعى.. لكن ما تفعله أمى يغضبنى، فهى محامى الخصم بمناسبة وبغير.. خنقتنى تلك الفكرة.

شعرت بالاشتعال، قاومت إحساسى تجاهها، ولم أسمع كلمة واحدة من باقى ثرثرتها، حتى قطعت أفكارى كلمة "أبوكى" على لسانها، ولم أتبين السياق الذى كانت تتكلم عنه، لكن انتبهت لها، فكرت أن أسألها عما قالته للتو لأننى لم أسمع جيدا، لكننى تراجعت لأننى لا أحتمل أى لوم آخر.

وجدت نفسى أخبرها:

-"أنا رايحة لبابا بكرة"..

.....

فى الصباح كنت أقرأ الفاتحة أمام قبره، وأدمع، أتذكر خفة دمه وحكاياته، وحتى مقالبه.. أفتقده جدا.

بينما هى بجانبى تتفقد أحوال المدفن، وتنظر لدموعى باستغراب:

-"بتنهنهى على إيه؟"

 

أخذت نفسا عميقا ولم أرد، أخبرتها بعد دقائق أننى أشم رائحة غير طيبة بالمكان، فنفت بحركة من رأسها بحسم وبغير تفكير:

-"مفيش ريحة"..

أمر متوقع، أى أمر أقوله، خطأ.

تجولنا بالمدفن، وازداد شعورى بالرائحة الكريهة، تذكرت أنها ربما فقدَت جزءاً من حاسة الشم، تعجبت، هل تقل القدرة على الشم مع الشيخوخة، مثلما تقل حاسة السمع، لا أدرى..

ربما هى تشم الرائحة لكن لا يعنيها الأمر، فهى لا تهتم بأمر أبى ولم تهتم أبدا.

-"ماما، أنا فعلا شامة ريحة، بعد عمر طويل، لو احتجنا نستخدم المدفن.. بعد عمر طويل.. هتكون مشكلة، الأحسن نشوف الريحة دى إيه.."

فجأة استيقظت لديها حاستا الشم والسمع، وكل الحواس الأخرى حتى اللمس والصراخ، ربما خافت على نفسها ومستقبلها بعد الموت والدفن! 

 كل شىء يجب أن يدور حولها حتى تعيره اهتماما.

نادت على الحارس، وبخته وسألته عن الرائحة، وأخبرها أن هناك شائعات بتسرب مياه مجارى، وأن أصحاب المدافن المجاورة اشتكوا بالفعل.. امتعضت وبدأت التفكير فى حلول..

 

لم أعرف ما الذى قررته أمى ولم أرغب فى المعرفة، فلتفعل ما تريد، بالتأكيد لن أدفن هنا بجانبها على أى حال، وبكل تأكيد لن أدفن فى مدفن زوجى وعائلته حتى لو كان أفضل مدفن فى العالم.

.....

شغلتنى الفكرة أياما طوال، وأنا أتناول طعامى مع ياسين، وأنا أحضر اجتماع الآباء بمدرسة ياسين، وأنا أسير معه فى المركز التجارى، وأنا أجلس معه فى حديقتنا نضحك ونهتم بالزهور بينما هو يقطف لى زهرة ويقبّلنى فأدمع رغم عنى.

 ياسين هو الميزة الوحيدة من زيجتى البائسة بأبيه، وهو الوحيد الذى يحبنى حبا غير مشروطا.. هو الوحيد.

كم أتمنى أن أظل بجانبه حتى بعد أن أموت، على الأقل أشعر بالونس، وأسهل عليه مشوار زيارتى فى قبرى، قبرى الذى لا أعرف أين مكانه، ولا أعرف كيف سأدفن به وحدى بلا أحباب. 

ياسين سيدفن بجانبى.. ابتسمت ببعض الراحة، ثم طردت الخاطر فورا..

بعد الشر عليه.. أعوذ باللـه..

ربنا يجعل يومى قبل يومه.

أكيد "يومى قبل يومه" بإذن اللـه، هدأت للخاطر الجديد، لكن بقيت أمامى مشكلة المكان.. أين سأدفن.

>>>

 

لا أعلم هل فقدت صوابى أم أنه تأثير الذكاء الاصطناعى، فكل الإعلانات التى أراها الآن، هى إعلانات تروّج لمدافن فى أماكن قريبة.

 لكن ولا واحد فيهم يعجبنى.. ربما سأترك الأمر للورثة، لن أشترى مدفناً وأعلمهم بمكانه، لأن الأمر صعب بالنسبة لى، سيكون مؤلماً، إذن سأسرد رغباتى وأترك الأمر لهم.. هل سأوصى ألا يدفن حاتم بجانبى؟

لن أحتاج، أعتقد أننى سأكون طُلقت قبل موتى.

فى غرفتى قررت كتابة وصيتى.. من المفيد كتابة الوصية، لا أحد يعلم موعد رحيله، والاستعداد أفضل..

الحمد للـه على نعمة الوصية، والحمد للـه أننى حضرت عزاء والدة نهلة، فقد جعلنى أفكر بطريقة إيجابية فى حياتى ومصيرى، وسأصل لأفضل قرار يسعدنى.. لكن ماذا أكتب.. 

فكرت أنى أريد مدفنًا "شرح وبرح" كبيرًا ومريح نفسيا، قريب من البيت ليسهل على ياسين زيارته، تدخله الشمس، أرضه مغطاة بالنجيل وليس التراب، وزهور بيضاء وريحان.. و.. يا سلام لو به نافورة ولو صغيرة.. و..

وقعت عينى على الحديقة من نافذة غرفتى.. بهتت للحظة..

لاحظت أننى أصف حديقتى.

تنهدت مندهشة، كم أتمنى أن أدفن وسط زهورى تلك، لن أشعر بالغربة، سأكون قريبة من ياسين، فهو سيعيش هنا بعد زواجه، سأكتب البيت باسمه، سيسهل عليه ذلك زيارتى، بل سأكون دوما بجانبه، وياسين لن يمانع.. لكن هل سترضى زوجته، لا يهم..

سأخصص طرف الحديقة كمدفن لى ولذريتى فقط، بدون حاتم، سأكون طلقت منه قبل موتى.. على ما أظن.

فكرت فى رد فعل حاتم عندما أخبره، فهو لم يطلقنى بعد، لم يعرف حتى برغبتى فى الطلاق، وقرار المدفن أهم من قرار الطلاق بالنسبة إلىَّ الآن.

لكننى أعرف كيف سأقنعه، بالمدفن أولا، ثم بالطلاق لاحقا، ربما سيعترض على الأخير، لكن لن يضيره أمر المدفن فى شىء، فالبيت ملكى، والحديقة شاسعة وأقرب للمزرعة، وسأجعل مدفنى عند طرفها، ما المشكلة؟

سمعت أن أفراد بعض العائلات العريقة يفعلون ذلك، يجعلون مقابرهم عند أطراف منازلهم..

 وحتى أهل السودان اعتادوا على ذلك كما أخبرنى أبى فى طفولتى، فى مجمل حديثه عن الطرائف التى قابلته فى سنوات عمله هناك..

الآن يقفز صوت أبى إلى ذهنى فجأة:

-"ولو احتاجوا يبيعوا البيت، يجيب سعر قليل لو اتباع بالميت، فيضطروا قبل ما يبيعوه، يطلعوا ميتينهم منه".

ابتسمت، وشكرت شبح والدى، الذى أعتقد أنه زارنى الآن ليذكرنى بما قاله لى قبل أعوام طوال.

لقد وجدت ضالتى.. الفكرة مريحة وليست مزعجة كما تبدو لأول وهلة، طالما يجمع الحب بين أفراد البيت.. طالما الحى والميت متوافقين.

 وأنا متوافقة مع ياسين، فأنا صديقته، ولن يشعر بتنغيص بوجودى جواره، بالعكس، سيستأنس بوجودى.

ابتسمت، لقد توصلت للفكرة المثالية، أظن أننى حتى ولو لم أعش مرتاحة، على الأقل سأموت مرتاحة، بالقرب من ابنى، نصف مشاكل العالم قد حُلت الآن.. بل كلها. أنا الآن سعيدة.

نمت لأول مرة منذ شهور بدون أن يعترينى القلق، واستيقظت بوجه مشدود خالٍ من التجاعيد.. 

انشغلت بتنفيذ فكرتى لأيام وأيام، أصبح المدفن مشروعى الأعظم، لم يعترض حاتم، فهو لا يبالى، أو ربما اعترض وأنا لم أكترث.

أحضرت العمال لتمييز المكان الذى اخترته من الحديقة، وأخبرت شقيقى، هاتفيا، بما فعلته، وبوصيتى..

 سمعنى مستسلما ورد ببضع كلمات لا معنى لها، تماما كعلاقتنا، لكنه شقيقى الوحيد، ويجب أن أخبره.

صرت كل يوم استيقظ وأشرب قهوتى الصباحية وأنا انظر لمرقدى الأخير، لن أشعر بوحشة القبر طالما أنا فى مكان مشرق كهذا.

ربما الموت ليس مخيفا، إذا رتب الإنسان له جيدا كما فعلت.

عشت بعدها متصالحة مع نفسى، أحببت الحياة أكثر، وظننت أننى نسيت كل أحزانى، حتى جاءنى خبر وفاتها، هاتفيا.

>>>

بكيت لساعات، كنت أحبها، رغم كل شىء، ربما كنت مقصرة معها بأفكارى السيئة عنها، أشعر بالذنب الآن.

وبينما جثمانها يرقد فى غرفة نومها، جلست فى صالة منزلها أتلقى العزاء من صديقاتى المتأنقات، وعز علىَّ البكاء على عكس عادتى فى مناسبات كتلك.

ظلت خادمتها تتجول بيننا وتتحدث بلهجتها الغريبة، وتحكى كيف ماتت أمى بلا سبب، وبلا مقدمات، حتى أنها كانت تأكل بسكويتها المفضل فى شرفتها بابتهاج، وابتلعت آخر قطعة ثم ابتسمت وأغمضت عينيها مودعة الحياة..

ابتسمت صديقاتى، واعتبرن أن موتها فى منزلها معززة مكرمة شبعانة، علامة رضا وستر إلهى.

يقترب شقيقى مقتحما الجالسات، يهمس فى أذنى أن الأوراق الرسمية جاهزة، وأن الغُسل بعد قليل، أشعر بالامتنان لأول مرة بأن لى شقيقا أكبر، 

ربما تلك هى المرة الأولى التى يسندنى فيها.. كل شىء بأوان..

لكنه يقطع أفكارى بكلمة يهمسها فى أذنى: 

-إيه البديل؟ ما مدفن بابا مش هينفع.. مفيش حل تانى..

قبل أن أرد يعاجلنى قائلا إن حاتم نفسه قد وافق..

-"كتر خيره.. ابن حلال.. حل لنا المشكلة"..

تبرعت نهلة صديقتى بالكلام، والإطراء على الفكرة..

أما باقى النساء، فقد حركن أفواههن، تعجبا، وتسبيحا، أو ادعاءً، ولسان حالهن يقول:

- "يا سلام، كأنك كنتِ حاسة! سبحان اللـه".

أشعر أنى أفقد قدرتى على السمع وعلى الكلام.

.....

فى الصباح، أجلس فى غرفتى أشرب كاكاو دافئاً على غير عادتى، ولا أبكى، فقط أمد بصرى من النافذة..

 هنا يرقد جثمانها.. وسيرقد إلى الأبد، هنا أمامى، وفى منزلى.. 

ستكون تحت بصرى وسيكون علىَّ أن أتذكرها كل يوم.

أحسد أبى على السكون الذى يتمتع به بمرقده الأخير.. ربما تلك دعابة أخيرة من دعاباته الثقيلة.

هل كان يقصد بابا أن يفعل ذلك بى حقًا لينعم هو بالسكون فى مرقده بعيدًا عنها؟

أترك كوب الكاكو الدافئ، وأقف متطلعة إلى هناك، إلى طرف حديقتى، أحاول البكاء كما نصحنى طبيبى، لكن بدلا من أن تنزل دموعى، تخرج صرخة مخيفة منى، أبعثها لجثمانها، فترج صمت المكان.

إقرأ أيضاً : منى‭ ‬فتحى‭ ‬حامد تكتب .. عيناه فى عينى