ملاحظات عن بلد بلا جدوى

جورج حنين
جورج حنين

كيف كان لى أن أعرف أن هؤلاء الناس ترف جفونهم حين يحلمون؟ ورغم هذا، حين فُسِّر ذلك لى، فهمتُ السبب فى أنهم، بعد استيقاظهم، يبدون مشتتى الذهن جدًّا، وبدون نظرة شاملة للأشياء. إنهم يحلمون، هكذا أكَّد لى البعض، ب «بلاد حقيقية» حيث رجال لا يعرفونهم يعيشون حياة خاملة. لا يتحدثون أبدًا عن الأمر فيما بينهم، لكن فى النهاية تستطيع أن تخمِّن ذلك من الطريقة التى يعتذرون بها طوال الوقت عن عدم بلوغهم مرتبة «بلد حقيقى».

«نحن حادثة،» يقولون بنبرة يحاولون أن يجعلوها متباعدة. «عليك ألَّا تغضب منا. هل تُماحِك بشأن جزيرة مرجانية تعلو بارتفاع سِّنٍّ فوق خط الأفق؟»

بلد بإيماءات سرعان ما تتلاشى. كل شىء، بشأننا، يُباشَر من جديد يظل غير مكتمل على نحو منهجى. ليس من غير المعتاد، فى الصباح، حين تفتح صحيفة، أن تكتشف أن الافتتاحية تتوقف فى منتصف جملة، ربما على عتبة فكرة، لا لسبب وجيه بخلاف الإجهاد الشديد لدى المحرر.

اقرأ أيضاً| الإنسان حامل إشارة عفا عليه الزمن

على الشاشة، الأمر أفضل كثيرًا. تُقدَّم الخطوط العريضة لأى قصة فى فلاشات متتالية. فى مدار كل وجه – مثل قبعة حجاب من كلمات – تُعرض التيمات، والأعاصير، والحُمَّى، التى عليه أن يُقدِّم بيانًا عنها، إن كان للصور المتحركة الحق فى أن تعيش حياتها.

ذات يوم، تلقيتُ صدمة مر وقت طويل قبل أن أتعافى منها. بالقرب من ناصية شارع له ملامح صارمة، صادفت واجهة متجر حيث كُتِب الوعد التالى بخط قوطي: كل شيء من أجل الحب. بفضل هذه الكلمات كان الموضع كأنه مغمورٌ فى الغموض. دخلتُ، ممتلئًا بخطط غير منطقية، لكنَّ صمتًا شيطانيًّا تمدَّد من حولى، ألقى أصفادًا عليَّ، أحاطنى على طريقة البروتوبلازما التى تأخذ شكل أجسام أجنبية وتلتصق بها إلى الأبد. كل ما استطعت أن أراه، مرتبًا فى نصف دائرة حول راهبة لها ملامح نهشها الجذام، هى عائلة من الأنابيق تتقطَّر فيها مرارة الزمن.

بالقرب من الحدود، تفقد الأرض اتساقها. هناك، تمتص ضفافٌ من الرمال الناعمة، بشفاه شرهة، عشرات من اليائسين كل يوم. تلك الرمال الناعمة هى مؤسسة رسمية من نوع ما؛ سيبدو حظر استخدامها، أو تعديله، تدنيسًا لمقدسات.

تتاخمها دروب مطروقة جيدًا حيث يتمركز سُيَّاح، على وجوههم نظرات تأملية، مجهزين بمقاعد قابلة للطى وإمدادات طعام. من وقت إلى آخر، يُبدِى هؤلاء المتفرجون ملاحظات بصوت منخفض، باحترام، عن ملامح انتحار مثيرة للشفة على نحوٍ خاص.

فى تلك الأصقاع المقلقة، تمكَّنت أرواحٌ خيِّرة من تنصيب عنادل تلطِّف أغانيها الرخيمة اللحظات الأخيرة لمن يُجذبون إلى أسفل. تعيش هذه الطيور فى عالم منفصل. تعيش بين مناظر وهمية تغطى جدران أقفاصها. ترف متكاسلة فوق الدراما ويحسدها الجميع على حالها.  

بلد بلا جدوى، بلا جدوى، البلد هذا، حيث النساء أكثر هشاشة من أن يُحببن عن قرب.

عن الترجمة الإنجليزية المنشورة فى كتاب «مصلحة جمارك الرغبة: نصف قرن من القصص السريالية» (1975) The Custom-House of Desire: A Half-Century of Surrealist Stories، تحرير وترجمة: ج. ه. ماثيوز. سينُشر نص حنين بعدها بعامين ضمن كتابه الذى يحمل العنوان نفسه: Notes sur un pays inutile.