«تلاتة بعشرين» قصة قصيرة للكاتب أحمد فؤاد الهادي

 الكاتب أحمد فؤاد الهادي
الكاتب أحمد فؤاد الهادي

رغم أنني أقطن في واحدة من تلك الكتل الخرسانية القبيحة التي تشوه جمال الكون، وفي الطابق الثاني عشر، إلا أن صوته القبيح يشق الفضاء ويخترق كل الحواجز والعوائق، ويجذبني من أذناي وهو يزمجر كالأسد الذي استبد به الجوع: تلاتة بعشرين يا موز، وكأنه يشك في وصول رسالته إلى الأموات فيعيد صياغة عبارته ويقذفها في ربوع الكون: يا موز تلاته بعشرين.

 حسبته إرهابيا ممسكا بعصا غليظة يهش بها على بضاعته من المتفجرات، ويقرع بها المارة وهو يؤنبهم ويصرخ فيهم: تلاته بعشرين يا موز.

وجدتني أترحم على الخالة "أم فتحي" تلك الفلاحة طيبة الملامح التي لم تكتف بمساعدة زوجها في أعمال حقلهم الصغير والعناية بأولادهم وبقرتهم، بل تحمل مشنتها العامرة بالجوافة أحيانا وأحيانا بالمانجو، تجوب شوارع قريتنا وتطربنا بصوتها الجميل: جوافة حلوان يا قشطة، حلاوة وريحة يا منجه، فيترك الأطفال ألعابهم البسيطة التي صنعوها لأنفسهم بأنفسهم من العلب الفارغة وأغطية زجاجات المياه الغازية والجوارب والملابس القديمة، يتمسحون بأمهاتهم لعلهن يشترين لهم بقرش أو قرشين فاكهة لذيذة من مشنة أم فتحي.

ومازالت صورة أم فتحي تقترب مني حتى كدت أمد يدي لأتلمس جلبابها الأسود النظيف ورائحتا المانجو والجوافة تداعبان أنفي إلى أن زجرني هذا الإرهابي زجرات متتالية: يا موز تلاته بعشرين، تلاته بعشرين يا موز حتى وجدتني أندفع نحو الشرفة لأراه كيف يبدو وأتعرف على ما يحمله من أسلحة، ولكن لا وجود له في الشارع على مرمى البصر في كل الاتجاهات! هو يزمجر في أحد الشوارع المجاورة، فلأنتظر مزيدا من المعاناة عندما يحل بشارعنا.

وهل أترك كل شيء وأسلم نفسي لهذا الإرهابي؟ فقد ذهبت أم فتحي، وجوافة حلوان لم تعد قشطة، بل لم تعد جوافة، فقد بدلوها بمصانع للأسمنت تضخ الأمراض على البشر، قالوا: حتى يستطيع الفقراء شراء الأسمنت وبناء بيوتهم، ثم باعوها للمستغلين.

ذهبت أم فتحي بفواكهها وبقي التلوث في كل شيء، حتى الباعة الجائلين الذين تعلم منهم عبد الوهاب الغناء، ذهبوا إلى غير رجعة ولم يتبق سوى أمثال هذا المزعج.

وجدتني أنادي كل من في البيت وأنبه عليهم جميعا وبشدة أن يتذكروا دائما أن الموز تلاته بعشرين، وتلاته بعشرين يا موز.