حبر على ورقنوال مصطفى

أصدقاء لا يخذلوننا أبدًا

نوال مصطفى
نوال مصطفى

لاشك أن الإنسان كائن اجتماعى، هذا ليس كلامى بل هو قول معروف للفيلسوف اليونانى أرسطو، وهو ما أكده العلامة ابن خلدون فى مقدمته الشهيرة. لذلك يسعى الإنسان منذ طفولته المبكرة إلى تكوين صداقات تعطيه الإحساس أنه ليس وحده فى هذا الكون الواسع. بعض الصداقات تستمر ربما إلى نهاية العمر، وبعضها يضمر مع السنين، وتغير مقادير كل طرف من أطراف الصداقة سواء فى الزمان أو المكان. صديق يسافر أو يهاجر نهائيا فلا يبقى منه إلا ظل فى الذاكرة، وصديق يتغير قلبه تجاه صديقه القديم فيصبحان غريبين، أو عدوين أحياناً.

أنا شخصيَا محظوظة بأصدقائى سواء أصدقاء الطفولة والمدرسة، أو الأصدقاء الجدد الذين اكتسبتهم خلال رحلة العمر. وأرى أن الصداقة الحقيقية البعيدة عن لغة المصالح، علاقة جميلة، صادقة، تمنح الإنسان شحنة إنسانية وعاطفية تلطف جفاف الحياة أحياناً، وتساعد فى إزاحة أحمال القلب عندما يفضفض الإنسان إلى صديق، يتكلم، يبكى، يتعرى تماما فى بوح حميم، يثق أنه لن يخرج لأحد، ولن يستغل فيما بعد من قبل هذا الصديق المؤتمن.

أحيانا يمنحنا الله البركة فى أصدقائنا فيصبحون العون والسند النفسى والمعنوى فى كثير من الظروف الصعبة التى تواجه كلاً منا، وأحيانا يخذلنا الصديق، وينقلب عدوا، مفشيا للأسرار، مستغلا لنقاط الضعف، شامتا فى الخسائر التى تلحق بنا، حاقدا على الانتصارات والإنجازات التى نحققها. لذلك فالصديق المخلص رزق كبير يهبه الله لنا، أما الصديق الزائف فهو من نقم ربنا على عباده، اللهم باعد بيننا وبين تلك النوعية اللعينة من البشر.

هؤلاء الذين لا خوف منهم أبدا. يحرص الواحد منهم على أن يصبح الونيس، متاح فى الوقت الذى تطلبه، لا يتحجج بازدحام جدوله، وكثرة مشاغله ومسئولياته. هو دائما رهن إشارتك، يأتيك بكل حب حسب وقتك أنت ومزاجك، وحاجتك الحقيقية إلى لقائه، والتحاور معه. هو مفيد فى كل الأحوال، ليس له أية طلبات إلا أن تتعامل معه بالاحترام الذى يستحقه. سيكون مستعدا أن يرافقك فى سفرك سواء فى القطار، أو الطائرة. سيكون رفيقك أثناء جلوسك أمام البحر وحدك إذا استدعيته، وسوف يؤنس خلوتك فى حديقة تبحث فيها عن السكون والانفراد بنفسك.

كثيرون يتكلمون عن الوحدة والخوف منها، أتعجب فعلا حينما أسمعهم، وأود أن أقول لهم ليس هناك وحدة فى وجود الأصدقاء المخلصين المتاحين دومًا، تستطيع أن تجلس مع أحد هؤلاء الأصدقاء، أن تختاره فهو ليس نوعاً معيناً، أو لوناً محددًا، بل إنه  فضاء واسع من اختيارات لا عدد لها.

يمكنك أن تحاور «حرافيش» نجيب محفوظ فى روايته العبقرية، وتسألهم هل الفتوة بطل شعبى، يعمل من أجل أبناء الحارة، ويعيد إليهم حقوقهم المنهوبة من أصحاب السطوة والمال أم أنه شرير يستغل قوته ونفوذه للحصول على مكاسب شخصية ووضع مميز وسط منطقته. أو تناقش إبراهيم عبد المجيد وأنت تعيش مع ثلاثيته الروائية الممتعة «الهروب من الذاكرة» وتسأله: هل أنت حزين جدا إلى هذه الدرجة من تغير الزمن، دوران الدنيا بنا، وتبدل الأقدار؟ هل مزق قلبك رحيل الأصدقاء، وتدافعهم نحو بوابة السماء بسرعة فى الآونة الأخيرة؟ هل لهذا تهرب من الذاكرة؟

هل جربت أن تأخذ موعدا مع نفسك داخل مكتبة؟ ليست أية مكتبة، أقصد تلك النوعية الحديثة من المكتبات التى تخصص مكانا لمرتاديها، يستطيعون الجلوس فيه، والقراءة فى هدوء على خلفية موسيقى خفيفة، هامسة مع فنجان اسبرسو، أو كوب شاى؟ أنا فعلت هذا الأسبوع الماضى، ذهبت وحدى إلى مكتبة الديوان فى الزمالك، اشتريت نسخة جديدة من رواية الحرافيش، رغم وجود نسخة منها فى مكتبتى بالبيت، وجلست أحاور أبطال الرواية الجذابة، الممتعة. وكانت تجربة تستحق أن تروى.

اسمع نصيحتى.. خذ موعداً مع نفسك واذهب إلى مكتبة، اقرأ هناك، ولو لبعض الوقت، ستحس أنك محاط بجو عجيب يصعب وصفه من الألفة والجمال. آلاف العناوين تحتضن وجودك المادى بينهم، يطلقون من بين أغلفتهم أنفاس فرحتهم بوجودك، تتسلل إلى روحك كأشعة تبثك طاقة إيجابية غير عادية، تتحرك عيناك على رفوف الكتب فتلتقى بأسماء كتاب تحبهم، وعناوين وأغلفة تحرك الساكن داخلك، تتحول الكتب إلى كائنات جميلة جذابة تكلمك، تبتسم فى وجهك، تؤنس وحدتك، تحدثك عن المخاض الطويل الذى عاشته فى عقل وخيال كاتبها قبل أن تولد، وتصبح بين يديك رهن إشارتك وقتما تحب. شيء أشبه بالحب غير المشروط الذى نحلم جميعا به. مشاعر سرمدية، ساحرة للحظات خاصة جداً.