سفير فلسطين بنيجيريا يكتب لـ«بوابة أخبار اليوم»: أسباب الكارثة أعمق بكثير من سبت 7 أكتوبر

عبد الله أبو شاويش
عبد الله أبو شاويش

كتب عبد الله أبو شاويش، سفير فلسطين لدى نيجيريا، مقالًا لـ"بوابة أخبار اليوم"، تحت عنوان "أسباب الكارثة اعمق بكثير من السبت الأول من أكتوبر".

وجاء نص المقال كالآتي:

في اليوم السادس بعد الثمانين للحرب المسعورة على قاطني معسكر الاعتقال المفتوح والأكبر في التاريخ منذ العام 2006، ومع صفر كبير في تحقيق أهداف إسرائيل من الحرب التي أعلنتها، والتي تتمثل في استعادة المختطفين وتدمير القدرات العسكرية لحماس؛ تبرز ظاهرة لابد من الوقوف عندها طويلا والتأني في تحليلها، وهي مخزون الكراهية والحقد لدى جيش الاحتلال والذي أدى إلى  مقتل ما يقارب من 25 الف مدني، جلهم من الاطفال والنساء، الآلاف منهم لا يزالون تحت الانقاض، ودمار لم يشهد العالم مثيل له حتى أثناء الحرب العالمية الثانية في برلين، جسدته عشرات آلاف الفيديوهات التي غزت مواقع التواصل الاجتماعي، فمن جثث تحللت في الشوارع، الى التدمير الممنهج والمُتعمد لكل ما له علاقة بالبنية التحتية من جامعات ومدارس وطرقات وحتى قبور الموتى لم تسلم من أسنان جرافاتهم، فهُدمت القبور وجُرِّفت وألقيت جثث الموتى خارجها، فيما سُرقت  الكثير من الجثث. هذا ما عرفناه رغم ضعف التغطية الاعلامية، وما لم نعرفه أو سنعرفه حتما في اليوم التالي لسكوت المدافع سيكون أكثر هولاً وكارثية. 

وتروج إسرائيل أن هذا كله نتيجة للسبت الثاني من أكتوبر، ويدعمها حلفاؤها بادعاء تصديق هذا التبرير، وعلى الرغم من معقولية هذا السبب في توجيه رد عسكري على فعل عسكري، نظرياً؛ إلا ان حجم الجريمة والكارثة التي حلت بالشعب الفلسطيني عملياً نتيجة عدم التناسب في القوة النارية، تستوجب التعمق أكثر في الاسباب الحقيقية والمخفية الكامنة وراء هذا. ونستطيع بكل أريحية القول أن هناك مجموعة من الاسباب في غالبيتها نفسية تتعلق بتركيبة الشخصية اليهودية، انزرعت منذ زمن بعيد عميقا في الانسان الصهيوني، ولا يتم التوقف عن تعزيزها من قبل المؤسسة الرسمية الاسرائيلية. 

بتاريخ 28 أكتوبر، عبر نتنياهو عن ذاكرتهم التاريخية والصدمة التي تعرض لها العبرانيون بقيادة يوشع بن نون عند خروجهم من مصر حين قال ( تقول لنا التوراة اذكر ما فعله بك عماليق ... نعم إننا نتذكر ونحارب). في هذا استدعاء تام للمخزون التاريخي الديني، بالنسبة لهم هذه حرب إبادة تامة مثلما تأمرهم التوراة  (فالآن إذهب وأضرب عماليق، وحرموا كل ما له ولا تعف عنهم، بل اقتل رجلا وامرأة، طفلا ورضيعا، بقرا وغنما، جملا وحمارا) صموئيل الأول.

ويَعتبر الإسرائيليون أنفسهم الضحية الأزلية، حتى ونحن واقعون تحت احتلالهم، فلا زالوا ينظرون الى انفسهم بأنهم ضحية لنا، ولا ينفكوا يتذكروا التاريخ المشار إليه، وبما أنهم كذلك، "فإنهم مهما فعلوا، يجب ألا يتم محاسبتهم". في هذا السياق يكفي التذكير بما قالته يوماً رئيسة وزراء اسرائيل السابقة جولدا مائير "انهم لن يتسامحوا مع العرب الذين دفعوهم لقتل أطفالهم". هذه قناعات راسخة داخلهم، بأنهم ومهما ارتكبوا من فظائع وجرائم فهم الضحية لنا، ولا ينفكوا يتذكرون دافيد اي داود الولد الذي لم يبلغ الحلم والذي هزم جالوت الفلسطيني العملاق الجبار، إنهم لا يزالو وبالرغم من قوتهم النووية يلعبون دور داوود، وعلى الرغم من ضعفنا وقله حيلتنا، فان علينا أن نلعب مرغمين دور جالوت Goliath بكل ما صورته التوراة فيه من قوة وبطش.

عقب النكبة التي حلت بالفلسطينيين عام 1948، وحتى النكسة التي حلت بالعرب جميعا في العام 1967، ظل النقاش القائم حول أحقية دولة إسرائيل بالوجود أصلاً، وكان دفاعهم ومناصريهم يقولون دوماً نعم أن اسرائيل ولدت بالخطيئة ولكن هل من الواجب قتل طفل الخطيئة لتعديل الخطيئة نفسها. انتهى منذ زمن طويل هذا النقاش، وانقلبت المعادلة وحلت مكانه نقاشات أخرى يتصدرها عنوان واحد حول أحقية الفلسطينيين أصلاً في التواجد بين النهر والبحر من وجهة نظر الاسرائيليين. كل هذا لم ولن يمنعنا أن نتذكر جميعنا ما حصل خلال العقود الثمانية الماضية، أي النكبة والنكسة وتبعاتهما، وهذا أيضا لا يزال يؤرق مضاجع الإسرائيليين، وبدلا من البحث عن معادلة يتحقق بموجبها القليل من العدل، يصرون على فرض المعادلة الصفرية، وهذا لا يستوى الا بالمزيد من استخدام القوة والتحريض ضد الفلسطيني في محاولة لمحو ذاكرتهم التي لا تمحى.  هذا هو الحل الوحيد من وجهة النظر الإسرائيلية، مزيد من القوة والحياة على حد السيف كما قال رئيس الوزارة الحالي "سيبقى مكتوب علينا ان نعيش على حد السيف"، يؤمنون تماماً بلغة البارود والنار لغة وحيدة للحوار.

صباح السبت الأول من أكتوبر الماضي، شكل صدمة عميقة للوعي الإسرائيلي القائم على التفوق اللامحدود بالقوة النارية مقابل مجموعات صغيرة محاصرة منذ عقد ونصف، وعلى القدرات الهائلة للجيش الذي لا يهزم كما تشكل في الوعي العالمي؛ لنصحو على غير ما بتنا عليه. إنه جيش بالإمكان - وتم ذلك - هزيمته وكسر هيبته وبإمكانيات محدودة أيضا. الأسطورة هذه ضمنت ردعاً طويلاً  للإقليم، أضف لهذا دعما غربيا لا محدودا؛ ضمن لهم اتفاقيات سلام ساعدتهم على الاسترخاء والتركيز في مواضيع تنموية ضمنت لهم مكانة متقدمة في العالم. أسطورة التفوق الحصري شطب لهم فجأة بشكل لا يمكن أبدا ترميمه،  ولولا التدخل الغربي في اليوم التالي لكانت الأمور تغيرت تماماً. ان التاريخ أعاد نفسه فعلا، فبعد ظهر العاشر من رمضان 1973 عندما انهى الجيش المصري العظيم اسطورة خط بارليف، ولولا الجسر الجوي الذي لم يتوقف من قبل أمريكا، وعلى الأغلب الكثير من بلدان الغرب، لكانت المعادلة تغيرت تماما مرة وإلى الأبد. تشير بعض المصادر نقلا عن صحيفة هآرتس أنه وحتى يومين من كتابة هذا السطور، فإن مجموع ما وفرته الإدارة الامريكية لإسرائيل بلغ 230 طائرة نقل و30 سفينة شحن محملة بالعتاد الحربي ومختلف أنواع المقذوفات الحربية. 

يعيش الإسرائيليون بشكل عميق نظرية تفوقهم العرقي على باقي الاجناس، فإلى جانب إيمانهم الراسخ بأنهم شعب الله المختار، فإنهم يؤمنون ايضاً بأن الله خلق نوعين من البشر، اليهود والأغيار Gentiles، والنوع الأخير خلق لخدمة اليهود والسهر على راحتهم.  اذاً وبالإضافة إلى أننا عماليق، يجب أن نذبح بحسب التوراة، فنحن أيضا أغيار موجودون لخدمة السيد الإسرائيلي. اعتاد أبناء الله على صفع الأغيار، وهذا هو الشيء الطبيعي جدا بالنسبة لهم ولا يحاسَبون عليه، وعلينا أن نتذكر الآلاف من الأمثلة التي تعرض فيها الفلسطيني للقتل والتعذيب والإهانة والتي تم إثباتها، ومع ذلك لم يتم محاسبة أي من القتلة بتاتاً، باستثناء حالات نادرة جداً، ولأنها فقط كانت حالات فاضحة.  ليس هذا فحسب بل انهم يكوّنون جمعيات ويقدمون مساعدات للقتلة باعتبار أن ما فعلوه هو الشيء العادي والطبيعي والحسن أيضاً، وفي هذا الاطار علينا النظر إلى كلمات التقديس المكتوبة على قبر باروخ جولدشتاين الذي سفك دماء 29 مصلي فلسطيني في الحرم الابراهيمي عام ١٩٩٤، أنه قدوة للكثير منهم اليوم، حتى أن الوزير المتطرف بن غفير كان يضع صورته في صالون بيته حتى وقت قريب جدا. صباح السبت الأول من اكتوبر كانت الطامة الكبرى بالنسبة لهم هو أنه كيف للعبيد الأغيار أن يتجرأوا ويصفعوا ابناء الله.

نسبة كبيرة من الدخل القومي الإسرائيلي قائم على تصدير تكنولوجيا الحرب، سيما تكنولوجيا التجسسس وتوجيه الصواريخ الحربية، وكذلك تكنولوجيا الانذار المبكر وما إلى ذلك مما نعرفه، والكثير جدا مما لا يتم الحديث عنه باعتباره أسرار عسكرية، وهذا بالطبع نتيجة لثقة المستهلك إذا صح التعبير، وهم الجيوش في الكثير من أنحاء العالم بالمنتج الإسرائيلي. السبت الأول من أكتوبر وجه صفعة لا يمكن إصلاحها لصناعاتهم الحربية.  نتذكر بدايات الانتفاضة الثانية عندما تم تفجير أول دبابة ميركابا في غزة وقتل جميع الجنود فيها والتي اعتبرت حتى حينه أقوى تدريع والدبابة التي لا تقهر، وما آل إليه هذا التفجير من إلغاء صفقات بالملايين اضرت بالصناعات العسكرية الإسرائيلية.  قدرة المقاتلين الفلسطينيين على اختراق التحصينات الإسرائيلية والتي تعتبر فخر صناعتهم الامنية، وقدرتهم على هزيمة أجهزة الإنذار المبكر؛ والى جانب تَذكيرهم بعبور خط بارليف في حينه، وما لهذا من أثر نفسي عميق وممتد لديهم،  فقد دقت  ايضا جرس إنذار ونبهت مستوردي التكنولوجيا الإسرائيلية إلى وجود خلل كبير في بضاعتهم وهذا أضر ليس فقط بدخلهم القومي؛ بل بسمعتهم القائمة على تصدير تكنولوجيا الحرب والتجسس، والتي من خلالها فتحوا علاقات واسعة مع الكثير من بلدان العالم.

فائض القوة لدى المنتصر يعطيه دوما زهواً داخليا يجعله يتمادى أكثر وأكثر في استعراض قوته، ومع أن فائض القوة هذا تمت خلخلته بعنف في السبت الأول من أكتوبر، إلا أنه وبالمساعدات الغربية وعلى الأخص الأمريكية سرعان ما استعاد ميزته النسبية فقرر أن يخوض حرب استرداد الردع وإشاعة الرعب في المنطقة برمتها لا ليرمم صورته الخارقة فقط، وإنما لقناعته الخالصة وركونه إلى نظريته غير المتغيرة بأنه بالحرب فقط يستطيع البقاء.
ليلة الجمعة 6 أكتوبر، كانت ليلة أخرى حافلة بالمظاهرات المطالبة باستقالة الحكومة الحالية والتوقف على العبث بالقوانين التي يتفاخرون بها، هذا العبث الذي يؤسس، كما أسموه لدولة قمعية تتسلط على رقابهم هم وتحولهم إلى دولة اثنية ميسانية تحكمها قوانين لا تتوافق مع مبادى العلمانية والديمقراطيات الغربية. مظاهرات ممتدة من اليوم الأول لتشكيل حكومة اليمين الحالية ومدعومة كما يدعي اليمينيون من دول خارجية، كادت إلى حد قريب جدا أن تسقط الحكومة، تلك المظاهرات التي تؤرق مضاجع نتنياهو وعائلته، وعليه، ومع إطالة أمد الحرب، فإن فكرة فتح صناديق الانتخابات وعودة المتظاهرين للشوارع تظل فكرة بعيدة وان كانت ليست مستحيلة؛ الأمر الذي يصب مباشرة لصالحه شخصيا ولذا تراه ليس بمتعجل أمره لإنهاء الحرب بتاتا، فإنهاء الحرب يعني عودته لقفص الاتهام وهذه المرة ليس على القضايا الثلاث القديمة، الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة فقط؛ فأسرار السبت الأول من أكتوبر كثيرة وخفاياه اكثر، وما رشح في الإعلام عن أن المستوى السياسي أدار ظهره للمعلومات التي وردت تباعا من أن أمر جلل دُبر لهم بليل في غزة يحتاج إلى لجنة تحقيق، على الأغلب ستكون نتائجها كارثية على نتنياهو وسينقل تقريرها للمحاكم بالتأكيد.

وحسب إحصاءاتهم أنفسهم، وبموجبه قانون العودة فإنه يحق لمن يثبت أن له أصول يهودية من طرف أحد أجداده الحصول على الجنسية الإسرائيلية باعتباره يهودي، وقد استفاد من هذه الثغرة ما مجموعه اليوم أربعمائة ألف إسرائيلي هم بالأصل ليسوا يهود، هذا وغيره الكثير من الخلافات العميقة والجذرية، تختفي مع صوت المدافع وطبول الحرب ويتوحد الخزري والإفريقي وباقي مُدعي سلالة يعقوب تحت راية واحدة ولغة واحدة ومصير مشترك أكثر تجذرا مما نادت به شعارات الوحدة العربية.

سحابة الكراهية المركزة والاستعلاء وفائض القوة الإسرائيلية، التي أمطرت الفلسطينيين موتًا وخرابًا وفقدانًا لا يعوض وجرحًا لا يندمل، هي نتاج كل ما سبق وغيره ويبقى الشيء المهم أن هذه الجولة وإن انتهت قريبًا فإنها لن تُنهي حرب الاقتلاع للفلسطيني وللعربي من بعده من الأرض الموعودة، ولن توقف نكبة الفلسطيني الممتدة من العام 1948، ولكنها ستكون ستؤسس لنكبة لكل القاطنين ما بين نهر النيل إلى نهر الفرات، إنها نكبة العرب القادمة "العرب المُحتلين لأرض إسرائيل التوراتية".