تساؤلات

٣٦٥ فرصة وربع

أحمد عباس
أحمد عباس

تنغلق أنوار الشارع تباعا لكنها تبدو فى لحظة انها عتمت دفعة واحدة، ينزل الندى فى هذه الأثناء بلا نذير ويتكثف على زجاج السيارات الراكنة، أصحابها ناموا هلكوا طوال النهار، مارسوا يوما أخيرا من العام بكل جسارة، واجهوا الحياة برمتها دون نقير أو نعير او نفير. المحال تجر أبوابها الصاج دفعة واحدة ثم تسمع المزلاج يجرى ليغلق حكاوى الليلة، بينما الهسهسات فى الشرفة المجاورة من اليمين أنيسة تعلو وعلى اليسار شباك آخر يشاطرها الهمس كأنها تنبئ عن حلم أو تقص أملا أو تروى الحكاية، يجرى ذلك فى كل ليلة ومع كل مساء لكن أنسه يزداد دائما بين عامين.


إليك عزيزى القارئ أمل جديد، لا أحد يمنحه ولا آخر يمنعه عنك، ذلك انه لا حيلة لمخلوق به، هذه فرصة طبيعية كما التضاريس بالضبط، كما الحدود الجغرافية بين البلدان كالجبال والهضاب والسهول والبحار يجريها من أوجدها، هذه أيضًا فرصة طبيعية تأتيك فى كل صباح هدية من يمنح الحياة والعمر، ها أنت تشهد بداية عام جديد وتحضر نزوح سنة ماضية مع الذين نزحوا، آاه كانت كبيسة بكل ما فيها ومن فيها.


لدينا الآن ٣٦٥ يوما جديدا تساوى أضعافها من عدد الفرص، أعرف شخصا فاتته ٣٦٤ ليلة، ثم زارته الفرصة فى ربع الليلة المتبقية من العام، والله ليست مزحة ثقيلة او مبالغة فالرجل أدركها وأدركته فى الساعات الأخيرة للعام، بينما كان نائما بعد أن ظن فشل مساعيه المتكررة وسقوطه المتلاحق، غفا الرجل ليصحو على حلمه وقد تحقق، لا يهم أى حلم تحقق فلكل واحد بيننا أمل يسعى لرؤيته واقعًا.


٣٦٥ يوما جديدا يمنحنا فى كل نهار مائة فرصة ومحاولة وحلم وأمل، لا أرانا فى حاجة جديدة لتكالب ما أو شراهة، فلا شىء يتحقق بالخطف او الاغتصاب او تحت التهديد، ولا رزق يكتسب بالشدة او العنف او قبول الدنية، هذا عام يتوجب فيه التعلم والمراجعة وربما المحاسبة، النفوس مرهقة! أعرف ذلك لكن.. لايزال فى العمر بقية، فأيهما أحسن، أن أعيشه بلا حياة، أم أحياه كله كما وصلنى؟
قديمًا كنت أحسب ان الغد بالضرورة يتوجب عليه اسعادى وتحقيق حلم واحد على الأقل أو أكثر ذلك اذا كان سخيًا معى، ثم كبرت وعرفت انه لا ينتظر منه ذلك وحده ولا هو يلتزم ناحيتى بشىء ولا بجهد، أنا وحدى من يتوجب عليه تحقيق آمالى، سعيى فقط هو الذى يدفعها للتحقق أو يجبرنى على الاستغناء عنها وهكذا، أما الأحلام فتتغير على طول الطريق، فيتحقق منها ما يتحقق خلال المسعى ويتنحى منها ما لا يجسر على مقاومة رياح العمر والرحلة.


أعتقد أننا نحتاج لمزيد من التغاضى والتغافل عن أشياء ساءتنا لما بدت لنا، ونحن نعرف بامتياز كيف نفعلها -أن نتغاضى- فعلناها قبل ثلاث سنوات كانت عجافًا ولا رائحة لها سوى الموت لما كان يتخطفنا الوباء واحدا تلو الآخر وأسرة من بعد عائلة، كنا نتغاضى عن كل شىء ولا نطمئن سوى على الأرواح والأحباب، لا الرزق أو الغد فلم يكن مهمًَا غير اللحظة التى نمسكها، أظن أننا لا نزال فى حاجة الى أن نضع أنفسنا فى موقع بعضنا ونتبادل الأمكنة ليرى كل منا ماذا كان سيفعل اذا صادف مكانا آخر، اعتقادى ان كل روح ستعاود فورا لموقعها بالضبط ولن تطلب اكثر منه او ترضى بغيره، وقتها كان الأمل هو مجرد البقاء فقط.
هذه ليست خطبة جمعة أو موعظة يوم أحد، إنما هذه خلاصة ما يتوجب علينا تدبره قبل أن نفقد ٣٦٥ فرصة وربعًا.