حبر على ورق

أن تكون إنسانًا

نوال مصطفى
نوال مصطفى

كنا صغارًا عندما قرأنا «أن الأديب يكتب ليغير العالم». واستوقفتنا جملة مأثورة قالها الأديب الروسى مكسيم جوركى «جئت إلى هذا العالم لاختلف معه».

كثيرًا ما تأملت هذه الجمل بدهشة وفضول، وتساءلت: كيف يمكن للروايات، القصص، والقصائد أن تغير العالم؟ وعندما كبرت أدركت معنى الجملة، فالأديب والفنان يملك إحساسًا عميقًا بالبشر، يجعله غاضبًا، ثائرًا، متمردًا إذا ما رأى ظلمًا، أو صادف قهرًا يمارس على أى كائن من مخلوقات الله، سواء كان إنسانًا، حيوانًا، أو نباتًا. 

لذلك جسدت الكثير من الروايات العالمية الشهيرة تلك المعانى الإنسانية بصور أدبية موجعة، تنقل إلينا مشاعر البشر الذين يتعرضون للأذى البدنى والنفسى، التمييز بمختلف أنواعه، الفقر، الجهل، المرض، ذلك الثالوث الرهيب، البطش والظلم وغيرها من القضايا الإنسانية تناولتها الدراما بأنواعها المختلفة من أدب، سينما، موسيقى، مسرح، فن تشكيلى.

 لا أعرف تحديدا هل كانت مشاعرى كأديبة أم كإنسانة هى التى حركتنى، وجعلت مأساة السجينات وأطفالهن قضية حياتى، هل كان إيمانى الأصيل بقيمة الحرية باعتبارها أهم النعم التى منحها الخالق لعباده.

أم إحساسى بنبل الأمومة واقتناعى بأن سجن أم يساوى تشريد أسرة هو الذى شحننى  للدفاع عن حق هؤلاء فى حياة جديدة يطوون فيها فصلا مظلما فى حياتهم وينظرون إلى الدنيا بتفاؤل وأمل من جديد؟. الإجابة عن تلك الأسئلة لا يمكن تحديدها، أستطيع أن أقول إن الإنسانية تعلو فوق كل ذلك.  

 وجدت نفسى مستغرقة تمامًا فى محاولة تغيير الواقع المرير الذى اصطدمت به بالصدفة لأول مرة منذ ثلاثين عامًا، كنت صحفية صغيرة أجرى تحقيقًا صحفيًا فى سجن القناطر للنساء. اصطدمت بأطفال يفتحون عيونهم البريئة داخل زنازين سجن، ونساء سحقهن الفقر والقهر ليلقى بهن فى دهاليز السجون.

تحولت بقدرة قادر من صحفية مشتعلة بالحماس للفوز بقصص صحفية مثيرة وقوية، يهتم بها الناس ويتابعونها بشغف، إلى إنسانة مهمومة بقضية إنسانية، مسكونة بالتفكير فى حلول للتخفيف من قسوتها. 

خطف قلبى مشهد أطفال أبرياء لم يتعدوا العامين من أعمارهم، يركضون فى ساحة سجن، تتحرك عيونهم بين وجوه نساء لا يعرفونهن، بعضهن سجينات، وبعضهن سجانات. خرجت من السجن فى ذلك اليوم أحمل وجوه هؤلاء الأطفال فى قلبى. رحلتى مع أطفال السجينات، وأمهاتهم بدأت منذ ثلاثين عامًا، وما تزال مستمرة.

كان لابد أن تخرج تلك  المأساة من خلف القضبان ليعرفها الناس وتلك كانت مهمتى التى عكفت عليها كصحفية، أطلقت حملة صحفية عنوانها «أبرياء فى سجن النساء» كشفت خلالها النقاب عن قصص هؤلاء النساء اللاتى ألقى بهن القدر إلى هذا المصير تحت وطأة الفقر، الجهل، عدم الوعى، واستغلال المستضعفين فى الأرض. 

وبفضل توفيق من الله وإخلاص شديد للقضية تحقق الكثير من الخطوات والإنجازات. أوضاع الأطفال فى السجون المصرية فى تحسن مستمر بفضل التعاون المستمر بين جمعية أطفال السجينات وغيرها من مؤسسات المجتمع المدنى وبين مصلحة السجون المصرية. تسليط الضوء على قضية الغارمات «سجينات الفقر».

الإفراج عن أعداد كبيرة منهن، وضع القضية على أولويات أجندة الدولة، والرئيس عبد الفتاح السيسى شخصيًا. تكليف رئاسى بتشكيل لجنة لبحث قضية الغرم هى «اللجنة الوطنية للغارمين والغارمات» للوصول إلى حلول واقعية للحد من ظاهرة الغرم فى مصر لتأثيرها الخطير على المجتمع المصرى. 

والآن استعد للإعلان عن الرؤية الشاملة للحل التى خرج بها التحالف الوطنى لحماية المرأة بالقانون، هذا التحالف الذى خرج من عباءة جمعية أطفال السجينات، كأحد أهم إنجازاتها فى القضية التى نذرت لها حياتى وعمرى. 

أليس جميلًا فعلًا أن يجيء الإنسان إلى العالم ليختلف معه.. ويغيره؟