حديث الأسبوع

البرلمان الأوروبى.. الزمن كشَّاف

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

عبدالله البقالى

 

لا جدال فى أن البرلمان الأوروبى يتمتع بقدر كبير جدا من التأثير المباشر وغير المباشر. فمن جهة اكتسبت المؤسسة البرلمانية الأوروبية شخصية قوية من خلال التطورات السياسية التى عاشتها الدول الأوروبية، و يمكن القول بأن مسار هذه المؤسسة يعكس مراحل تطور التشريع الديمقراطى فى القارة العجوز.

فقد انتقلت هذه المؤسسة التشريعية والرقابية، التى تعتبر ثانى أكبر مؤسسة برلمانية فى العالم بعد برلمان الهند، وأكبر مؤسسة نيابية من حيث التغطية الترابية الجغرافية وعدد الناخبين المؤهلين، من مجرد جمعية استشارية فرضت الأجواء الاستعمارية التى كانت سائدة لحظة خروجها إلى الوجود (10 يوليوز 1952)، والتى تورطت فيها العديد من الدول الأوروبية، كما هو عليه الحال بالنسبة لبريطانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا، فى جرائم تاريخية، أن يقتصر دور الجمعية على الاستئناس، إن لم يكن إضفاء الشرعية على السياسة الاستعمارية الأوروبية آنذاك، إلى ما يبدو شكلا، استقلالا عن حكومات الدول الأوروبية، أولا من خلال اعتماد الانتخاب العام المباشر لأول مرة سنة 1979، ثم امتلاك صلاحيات واسعة طبقا لمعاهدة برشلونة لسنة 2009. وبذلك أضحت السياسة الأوروبية المعتمدة والموازنات والمساعدات الخارجية والقروض وغيرها كثير يمر بالضرورة عبر هذه القناة البرلمانية، بما مكنها من نفوذ وتأثير داخل القارة العجوز، وامتد ذلك إلى خارجها ليطال مساحات شاسعة من العالم، حيث تفرض المصالح الاقتصادية والاستراتيجية الأوروبية ذلك.. ومن جهة ثانية، يستمد البرلمان الأوروبى قوته وتأثيراته الداخلية والخارجية من خلال آليات قانونية، تتجسد فى القرارات الملزمة وجلسات الاستماع داخل لجانه التى قد تطال مختلف المسؤولين الأوروبيين، وأيضا عبر الاهتمام الإعلامى الأوروبى والدولى الكبير الذى تحظى به أشغاله وقراراته، ولا أدل على ذلك من وجود مئات من ممثلى وسائل الإعلام من مختلف أرجاء المعمورة المستقرين بصفة دائمة بمقر البرلمان الأوروبى أو بالعاصمة الأوروبية، بروكسيل.


والواضح ، أن البرلمان الأوروبى عبّر غير مرة عن نفوذه وقوة تأثيره على القرارات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية والحقوقية فى أوروبا وفى خارجها، من خلال الاهتمام بقضايا إقليمية وقطرية فى العديد من الدول، خصوصا من شمال أفريقيا والشرق الأوسط. ولم يتردد فى إخضاع قضايا تهم هذه الأقطار إلى المساءلة، و كان سببا فى انتقال قضايا من هذه الحالات إلى القضاء الأوروبي. حدث هذا مرات متعددة مع المملكة المغربية ومع الجمهورية الجزائرية ومع الجمهورية المصرية ومع قطر وليبيا والسودان وتونس وغيرها من الدول العربية بالخصوص.


والحقيقة، أنه كان من الصعب مجادلة البرلمان الأوروبى فى اهتمامه حد المبالغة والإطناب بحالات حقوقية وسياسية تكاد تكون معزولة فى هذه الدول، لأن الحالات التى حظيت باهتمام انتقائى كانت فى غالبيتها تتعلق بحقوق الإنسان وبحريات الصحافة والتعبير وبالانتخابات وغيرها من أشكال ممارسة الحقوق والحريات، وإن كانت القناعة سائدة ولا تزال، أن دوافع هذا الاهتمام الانتقائى تبقى مرتبطة بحسابات سياسية وجيو استراتيجية واقتصادية.
كل هذه التأثيرات، وكل هذا النفوذ لإحدى أقوى المؤسسات التشريعية والرقابية فى العالم، والتى تقدم نفسها على أنها أقوى تعبير ديمقراطى فى العالم، وكل ذلك الحماس الذى أبداه النواب البرلمانيون فى هذه المؤسسة، لم يظهر له أثر فى ظروف عصيبة يجتازها العالم بسبب المجازر والمحارق وجرائم الإبادة التى يقترفها الاحتلال الإسرائيلى ضد مواطنين مدنيين فى غزة، بمن فى ذلك الأطفال وحتى الخدج منهم، وبسبب الدمار الشامل الذى طال الحياة فى هذه النقطة الصغيرة من العالم، وبسبب قتل أكثر من ثمانين صحافيا و العشرات من أفراد عائلاتهم.


لم نسمع بتحرك ما لأهم كتلتى هذا البرلمان (كتلة الحزب الشعبى الأوروبى وكتلة الاشتراكيين الديمقراطيين) ولا لثلاثين عضوا يقولون إنهم مستقلون ويسمون أنفسهم بـ(غير المرتبطين) ولا لأخضرهم ولا ليسارهم الراديكالي، للتعبير عن الانشغال والاهتمام بما يحدث ويجرى من تطورات تتخللها انتهاكات خطيرة وفظيعة تطال حقوق الإنسان وتدوس القوانين الدولية.


ومهم أن نسجل أن البرلمان الأوروبى أبدى توافقا مطلقا وانسجاما كاملا مع مواقف حكومات الدول الغربية إزاء ما يقترف ضد الإنسانية فى غزة، ولم يبد النواب البرلمانيون الأوروبيون أى حماس ولا اهتمام بما سخرته حكومات دولهم من أسلحة وذخيرة وجنود نخبة وأموال طائلة لتمكين الاحتلال الإسرائيلى من تنفيذ جرائمه الإرهابية بكل ثقة واطمئنان، واكتفوا فى غالبيتهم بدور المتفرجين المباركين والمساندين لما يجري.


هكذا يحق لنا اليوم، و فى ضوء هذه المعطيات والحقائق الصادمة، أن نستنتج أن البرلمان الأوروبى ليس بالصورة التى يقدم بها نفسه للرأى العام العالمي، وأن انشغاله الاستثنائى بحالات حقوق الإنسان والحريات العامة فى دول جنوب البحر الأبيض المتوسط وفى مناطق أخرى من العالم، لم يكن بالضرورة ترجمة فعلية بإيمان أعضائه بحقوق الإنسان فى بعدها الكونى و بعدالة وشرعية كل شخص على وجه البسيطة فى ممارسة حريته فى التعبير والرأى والصحافة والنشر، بل كانت فعلا لهواجس وبدوافع أخرى تستمد شرعيتها من حسابات المصالح الاقتصادية والاستراتيجية للدول الأوروبية، وأن كل الحماس الذى كان يبديه البرلمان الأوروبى لم يكن غير شكل من أشكال الابتزاز والمقايضة والضغط لإخضاع الدول المعنية للامتثال لما تقتضيه تلك الحسابات المعينة.


هكذا نجح شهداء غزة فى تقديم كثير من الأسماء والهيئات والمنظمات عراة أمام الرأى العام العالمى بعدما أذابت مآسيهم المساحيق ونزعت الأقنعة عن الوجوه القبيحة.