حبر على ورق

«عصفور» الذى حلق بعيدًا

نوال مصطفى
نوال مصطفى

اختار له القدر نهاية دراماتيكية تليق بحياة غنية، مشحونة بالفكر والثقافة والرغبة فى تغير الكون. رحل الدكتور جابر عصفور مع الساعات الأخيرة من عام 2021، وكأنه يغلق فصلًا مهمًا، وملهمًا فى تاريخ الثقافة والفكر العربى.

عرفت الدكتور جابر عصفور عن قرب، هذا الرجل الذى عاش حياته بإحساس الفنان الحالم بتغيير العالم. كنت أراه أحيانا هادئا، رائق المزاج، يتحدث بحب عن كتاب مهم، أو يتجول بحب وشغف فى أجنحة معرض القاهرة للكتاب. وأراه أحيانا أخرى غاضبا، منفعلا إذا ما اشتبك فى حوار مع أصحاب الأفكار الظلامية الذين يحاولون فرض آرائهم على خلق الله، وكأنها كلام مقدس يجب اتباعه دون تفكير أو مناقشة.

كان على المستوى الإنسانى جميلا، يحب أن يفيد الجميع بعلمه، وأستاذيته، وثقافته الرفيعة، لم يبخل أبدا على أحد بما يملك من هذا كله، بل كان أبا وأستاذا بكل ما تعنيه تلك الكلمات. لعب أدوارًا عديدة، كان فى كل منها مؤثرًا، منذ عين معيدًا بكلية الآداب جامعة القاهرة، مرورًا بكل المناصب الجامعية، أو الثقافية، أو السياسية التى تولاها على مدى حياته.. فى الجامعة لعب دور الأستاذ، كما يجب أن يكون، ليس المحاضر البارع الذى يبهر طلبته فحسب، بل الأستاذ الذى يريد أن يحفز حواس الفكر، ويشعل حماس المعرفة عند تلاميذه.

لذلك كان إسهامه مبدعا فى خلق أجيال من تلامذته نجحوا فى أن يتبوأوا مناصب مهمة فى مصر وغيرها من الدول العربية والأجنبية. وعندما تولى منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة حول المجلس من مجرد مؤسسة لا تفعل شيئا غير منح جوائز الدولة التقديرية التشجيعية إلى مؤسسة ثقافية بالمعنى الكامل للكلمة، واستقبل خلال تلك الفترة عددًا من كبار مثقفى العالم، ومعظم مثقفى العرب. وقدّم بمبادرة شخصية منه إلى رأس الدولة لتأسيس المشروع القومى للترجمة فتمت الموافقة على إنشائه وتولى رئاسته، وتحول بعد ذلك إلى المركز القومى للترجمة..

لعب الدكتور جابر عصفور دورًا مهمًا فى نقل أمهات الكتب الفرنسية والإنجليزية إلى اللغة العربية خلال ترأسه للمركز القومى للترجمة. ورصد تجربته هذه فى كتاب بعنوان: «قاطرة التقدم: الترجمة ومجتمع المعرفة».

وكان رئيسًا للجنة الثقافة بالمجلس القومى للمرأة، الذى شرفت بعضويتها فى عهده، وحظيت برؤى عميقة خلال تلك الفترة عام 2007 - 2010، كان دائم الحديث وقتها عن ضرورة وجود استراتيجية ثقافية لمصر، وكان شديد الإيمان بالمرأة وقدراتها على التغيير والنهوض بمصر..

عناوين مؤلفات عصفور تجسد ذلك بوضوح: «محنة التنوير» و»أنوار العقل» و»زمن الرواية» و»غواية التراث» و«النقد الأدبى والهوية الثقافية» و»نقد ثقافة التخلف» و»تحديات الناقد المعاصر» و»فى محبة الشعر» و«هوامش على دفتر التنوير» و»زمن جميل مضى» الذى تشرفت بنشره ضمن سلسلة «كتاب اليوم» أثناء رئاستى لتحريرها..

موقف «عصفور» الفكرى الذى تبناه صحبة رفاقه من المثقفين المستنيرين كان سبباً رئيسياً من أسباب فشل مشروع الإخوان فى مصر والمنطقة العربية، لأنه اتخذ موقفاً نقدياً واضحاً شجاعاً ضد هذا التيار.