شطر «البرتقالة» الحزينة| «سميح».. شاعر المأساة الفلسطينية

الشاعر سميح القاسم
الشاعر سميح القاسم

بعد أن كتب لنا الناقد المتميز د.رضا عطية عن شاعر الألم الفلسطيني المبدع الكبير الراحل «محمود درويش»، يحدثنا اليوم عن رفيق دربه شاعر المعاناة الفلسطينية «سميح القاسم»، وقد اشتهرا معًا بأنهما توأمان فى الجرح الفلسطيني، وهما شطرا البرتقالة الحزينة.

ربما كان سميح القاسم ثانى أشهر صوت شعرى عرفه الأدب العربي فى العصر الحديث تعبيرًا عن القضية الفلسطينية بعد رفيق دربه وصديق عمره «محمود درويش»، كان يرى نفسه الشطر الثانى للبرتقالة الفلسطينية مع شطرها الأول «محمود درويش». غير أنَّ اللافت فى تجربة «سميح القاسم» إخلاصه البالغ لقضية الأرض المحتلة، والوطن الفلسطينى المسلوب إلى حدٍ جعل جل شعره مهمومًا بها، ومقتصرًا عليها، مَثَّلت تجربة «سميح القاسم» الشعرية ديوانًا لحال القضية الفلسطينية وكتابًا للمقاومة والثورة، حمل «سميح الهم» الفلسطينى فى وجدانه وتلحفت به روحه.

تبدو مسحة الحزن غالبة على أشعار «سميح القاسم» بحكم عنايته بتجسيد مكابداته وبث مواجده إثر معاناته بفقد الوطن واغتراب الذات، وهو ما بدا فى قصيدته الأشهر «أشد من الماء حزنًا»: (أشدُ من الماء حزنًا/ تغربت فى دهشة الموت عن هذه اليابسة/ أشدُ من الماء حزنًا/ وأعتى من الريح توقًا إلى لحظة ناعسة/ وحيدًا ومزدحمًا بالملايين،/ خلف شبابيكها الدامسة..).. كان الكثير مما أنجزه «سميح القاسم» من شعر يصلح رغم خصوصية التجربة لأن يكون غناءً أشمل للإنسان عمومًا فى غربته الكونية وحزنه الوجودي، فشعره يلامس جوهر الإنسان فى مآسيه الكبرى، وتبدو فرادة الصورة هنا فى الإتيان بالماء مشبهًا به دالًا على تفاقم الحزن، فالماء مادة الحياة، وكأن الشاعر قد رأى فى الماء- كما هو - سرا للحياة سرًا للحزن، ومشتملًا عليه، كذلك تكون جدة الصورة فى تشبيه الشوق الجامح للخلود إلى لحظة ناعسة بعتو الريح، فالريح تقترن بالحركة والشوق إلى اللقاء أو الاجتياح، غير أنها عبرت هنا عن شوق للنعاس والراحة، فقد استطاع شعر «سميح القاسم» أن يُولِّف بين المتناقضات فى قِران تصويرى دال كما يبدو فى تصويره الشعور بالوحدة رغم الإحاطة بالملايين، فى شعور تغريبى له أبعادٌ نفسية ووجودية كابدها شاعر وإنسان العصر الحديث، كما فى طلقة أحمد عبد المعطى حجازى الشعرية: (هذا الزحام لا أحد)، فى شعور بخواء العالم رغم ازدحامه بالناس.

وقد تميز المعجم الشعرى، والبنية التصويرية فى شعر «سميح القاسم» بخصوصية فارقة تعكس تمثيله للشخصية الفلسطينية فى معاناتها:
(أشد من الماء حزنًا/ وأوضح من شمس «تموز» لكن نضج السنابل/ يختار ميعاده بعد عقم الفصول/ إذن فالتمس فى وكالة غوثك شيئًا من الخبز/ وانس الإدام قليلًا.. تحر التقاويم: يومًا فيوم وشهرًا فشهر وعامًا فعام تحر المناخ المفاجئ/ قبل انفجار ندائك. أنت المنادى وأنت المنادي/ وأنت اشتعلت. انطفأت.. ابتدأت/ انكفأت.. وأنت اكتشفت البلاد.. وأنت/ فقدت البلادا !/ أشد من الماء حزنًا).

يبدو الحزن هنا مسيجًا لهذا المقطع الشعرى الذى يتسم ببنية دائرية؛ فمختتمه كمستهله بنفس الجملة (أشد من الماء حزنًا)، وكأن الحزن يُطوِّق كل انفعالات الصوت الشعرى ويسوِّر كل مساعيها، وتعد تلك الصورة (أشد من الماء حزنًا) من أشد التعبيرات انزياحًا وجدة، فلئن كانت جدة التصوير تقوم فى الأساس على جدة إسناد المشبه به إلى المشبه، فالجديد هنا هو جدة المشبه به فى مرجعيته، فكيف يُحال إلى الماء ليكون مرجعًا دالًا على شدة الحزن؟ هل لأن الماء رمز الحياة وكأنه يكثِّف كل حزنها؟

وإذا كان سميح مازال- كما فى معظم شعره إن لم يكن كله- على عهده بالغنائية، غير أنه قد تحَوَّل فى مرحلة نضجه الشعرى ونموه الإبداعى عن «الغيرية» لينصرف أكثر إلى الذات، انسحب اهتمامه- بعض الشيء- بالخارج، وانصرف- لحدٍ ما- عن مخاطبته الغير، ليتجه أكثر نحو الداخل، إنها نوع من المناجاة، حوار الذات للذات؛ فالذات هى المُنَادِى وهى أيضًا المُنادَى؛ فهل يكون هذا انعكاسًا- واعيًا أو غيرَ واعٍ- لشعور بفقدان ثقة فى الغير وخيبة أمل فى الآخر؟.. ورغم شدة الحزن ووضوح الذات الذى يفوق شمس «تموز» حدة، فإن العالم لا يواتى الذات بما تشتهى فى ميعاده، وكفلسطينى يغلب عليه التعلق بالأرض، يبدو حقل «سميح القاسم» المعجمى مزروعًا بمفردات الزرع والحصاد؛ كالسنابل والفصول والخبز، فى صراع النماء مع العقم، والحياة مع الموت، صراع إرادة الوجود مع الزمن، فتبدو الذات أنها تملك كينونة جامعة للأضداد، وهوية تضم المتناقضات؛ فما إن تشتعل حتى تنطفئ، وما إن تبتدىء حتى تنكفئ، وما إن تكتشف البلاد حتى تفقدها، إنه صراع التحقق والفقد؛ فكل ما تحوزه الذات إلى زوال، فربما كان هذا سبب الحزن ومبعث شدته.

وبرغم الحزن الذى يساكن شعر «سميح القاسم»، تتبدىء أمارات الإباء، وعلامات الاعتزاز بالذات رغم ما يحدق بها من أخطار وما يتربص بها من مهالك:
(منتصبَ القامةِ أمشي/ مرفوع الهامة أمشى/ فى كفى قصفة زيتونٍ/ وعلى كتفى نعشى/ وأنا أمشى وأنا أمشى..).. يتسم هذا المقطع كشعر «القاسم» ببذخ موسيقى، وثراء إيقاعى ناجم عن التماثل التركيبى الذى يخطو بكلمات القصيد على «سيمتريا» إيقاعية تناسب حالة من الشعور الجذلان بالعزة، والإحساس النشوان بالشموخ، أما من حيث توزيع كلمات النص فقد استحال فضاء القصيدة ملعبًا لرؤية الشاعر المولع بالتقديم والتأخير فى لهو «شطرنجى»؛ فتقديم الاسم (منتصب/ مرفوع) على الفعل المكرور (أمشي) ليس فقط من قبيل الاهتمام بالحال المشحون بطاقة الفعلية المستمرة، ولكن ليمنح مزيدًا من الأهمية لفعلى الانتصاب والرفع باعتبارهما مظهرين للشموخ والاعتزاز بالنفس، وما بين الكف والكتف تبدو جدلية الحياة المتمثلة فى (قصفة الزيتون) رمز السلام الرامى لاستمرار الحياة، والموت المتمثل فى (النعش)، كما يبدو أن إطلاق الشاعر لقصفة الزيتون دون تقييد بضمير كـ(ياء المتكلم) فى (نعشى)، تعبير عن أن قصفة الزيتون متاحة، ومعروضة للغير، فى حين أن النعش (نعشي) المعبر عن خيار الموت فهو خيار ذاتي، غير أن اختيار الشاعر للنعش، وليس الكفن، وإن كان من قبيل ضرورات الموسيقى للتقفية، غير أنه يحدث بعض الخلل فى منطق الصورة؛ فانشغال الكف بالإمساك بقصفة زيتون يجعل من العسير حمل النعش على الكتف دون معاونة كلتا اليدين على ذلك الفعل.