حديث الأسبوع

حينما يتفق الأعداء على أن يتفقوا

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

باعدت السياسة بينهم لمسافات طويلة، وفرقت بينهم المصالح الاقتصادية، واحتدم بينهم الصراع حول النفوذ فى العديد من مناطق العالم. وكاد الرأى العام يستسلم لقناعة ثابتة، فحواها أنه لم يعد هناك ما يجمع بين الكبار الأقوياء فى العالم، بعدما وصل مستوى الخلافات والتباينات إلى مواجهات مسلحة تخوضها بعض الأطراف نيابة عن القوى الكبرى الحقيقية، التى تتحاشى لحد الآن المواجهة المباشرة، ربما لأنها تدرك أنها ستكون النهاية التى لا يرغب فيها أحد من هذه الأطراف، وأنه لن يكون هناك منتصر، ولكن المؤكد أنه سيكون هناك منهزمون.

لكن وبصفة مفاجئة شد مسئولو أكثر من 28 دولة، وعشرات من ممثلى الشركات التكنولوجية العملاقة الرحال إلى مدينة بليتشى فى بريطانيا بدعوة من رئيس وزرائها للاجتماع فى قمة، قيل إنها بحثت السلامة فى استعمالات الذكاء الاصطناعى.

ويبدو أنه تم اختيار مكان انعقاد هذه القمة بدقة متناهية، لأن مدينة بيلتشى البريطانية كانت تحتضن مركز فك الشفرات خلال الحرب العالمية الثانية، وهم جاءوها هذه المرة فى محاولة لفك شفرات الذكاء الاصطناعى المتطور.

ومن حيث المبدأ، لم يكن طبيعياً ولا مستساغاً أن تجالس جمهورية الصين الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبى، للتوقيع على تفاهم ما، بسبب التطاحن العنيف الذى يجرى بين هؤلاء فى السياسة كما فى الاقتصاد كما على مد النفوذ فى العالم، ولكنهم هذه المرة جلسوا وأنصتوا إلى بعضهم البعض، وخلصوا فى زمن قياسى إلى اتفاق.

ربما لإدراكهم أن التهديد الكبير الذى يحدق بهم لن يفرق بين الجنسيات ولا الملل ولا الديانات ولا الألوان، وهكذا وقعوا فى سابقة خلال العقود الماضية بنفس الحبر، وعلى نفس الوثيقة، على ما سموه بـ«إعلان بليتشى، من أجل تطوير آمن للذكاء الاصطناعى» وقيل إن الهدف منه يكمن «فى وضع ناظم عالمى للذكاء الاصطناعى وإيجاد إطار عمل لتقييم الأخطار بصفة جماعية» فى أفق صياغة اتفاقية دولية وإنشاء جهاز عالمى يتكفل بالتقييم والمتابعة.

ما الذى أقنع الكبار المختلفين والمتصارعين على أن يضعوا كل خلافاتهم وأسلحتهم جانباً ويجلسون على طاولة واحدة فى هذه الظروف الدقيقة والصعبة التى يجتازها العالم؟ 

الجواب فى غاية البساطة، ويكمن فى أنهم استشعروا حقيقة الأخطار المحدقة بالتطور المهول فى برمجيات الذكاء الاصطناعى، والذى سيقود بالضرورة إلى حالة انفلات تهدد مصير الكون برمته، خصوصاً وأن المجتمع الدولى يفتقد إلى تشريعات وطنية أو عالمية، وأن الأمر متروك لتقديرات الحكومات القطرية وللفاعلين المتخصصين الذين قد يقودهم هوس مراكمة الأرباح المالية إلى ما من شأنه أن يسرع بنهاية محتملة للعالم المعاصر. 

تخيفهم الأخطار والتهديدات التى يلقى بها التطور فى مجال الذكاء الاصطناعى، لأنهم يدركون ويقتنعون أن له نماذج جديدة ومتجددة توفر فرصاً كبيرة وسانحة للمجموعات الإرهابية، للإعداد لهجمات كيماوية وتنفيذها فى المواقع التى ينتقونها بدقة، وجعل الهجمات السيبرانية ممكنة على نطاق واسع وبفعالية لا حدود لها، وأنها تمكن المجموعات الصغيرة والكبيرة من فرص لا حدود لها للتلاعب بالرأى العام وشحنه بالمحتويات التى تخدم مصالح معينة.

قد يكون كثير منها سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، ولكن قد يكون بعضها الآخر أيضًا قيميًا واجتماعيًا، وأيضًا تتيح الانفلات مما رسموه بدقة وخططوا له بإتقان فيما يتعلق بالسيطرة البشرية، ناهيك عن تداعيات أخرى مترتبة بصفة تلقائية عن تطور هذه النماذج، تتعلق بارتفاع معدلات البطالة والفقر والهشاشة الاجتماعية.

وإجمالًا، فإنهم تنازلوا عن أنانياتهم المفرطة التى تصرفوا بها فى باقى مختلف القضايا التى تهم البشرية، لأنهم يعون جيدًا حجم التهديدات والأخطار التوليدية والمتجددة المتقدمة جدًا والتى لا يمكن لأى أحد أو جهة اليوم، معرفة طبيعتها ولا أعدادها ولا حدود تأثيراتها. لذلك شدوا حقائبهم على وجه السرعة إلى مدينة تتوافق أبعادها الجغرافية مع ما هم بصدده للاتفاق على فك شفرات ما قد يكون قادرًا على مواجهة التحديات المنتظرة والمتوقعة.

والواضح، أنهم رغم توقيعهم على وثيقة مرجعية كخطورة أولى فى مسار هذه المواجهة المنتظرة و التى ستمتد فى الزمان، فإنهم لا يزالون فى حالة ارتباك، فمنهم من يسارع الوقت لإنشاء معهد متخصص لدراسة ورصد وتقييم ما يتولد عن الذكاء الاصطناعى، كما هو عليه الحال بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، بينما يطالب الآخرون.

خصوصاً من دول القارة العجوز بأهمية تشكيل مجموعة خبراء عالمية تشرع فى العمل بإنجاز تقرير مفصل حول أخطار الذكاء الاصطناعى كعملية تشريح ضرورية قبل الانتقال إلى مرحلة العلاج من خلال حلول فعالة، بيد أن فريقاً ثالثاً يقترح البداية بتجميع وحصر نماذج الذكاء الاصطناعى فى سجل واحد فى محاولة لضبطها والتحكم فى إمكانيات تطورها.

ومع ذلك، فإن هذا الاتفاق بين الكبار يخفى فى طياته تنافساً مستتراً بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين اللتين تستحوذان على الجزء الكبير من التكنولوجيات الحديثة، وهى الحاضنة الرئيسية للأخطار التى يجرى الحديث عنها، ويقع التخطيط لمواجهتها. وفى هذا الصدد، هناك من ينبه إلى الخطورة البالغة التى يكتسبها تمكن هاتين القوتين الكبيرتين من تركيز وتجميع الصلاحيات والسلط والبرامج المتعلقة بالذكاء الاصطناعى والأخرى التى تهم ترشيد هذا الذكاء وجعله آمناً فى أياديها، ويطالبون بحتمية التعدد والتنوع.

هكذا حينما تقتضى مصالحهم الاقتصادية والاستراتيجية الجلوس على طاولة البحث عن حلول، لا يترددون ولا يتأخرون، لكن حينما يتعلق الأمر بالأوضاع الإنسانية فى العالم، وبإيقاف الحروب الفتاكة التى تمارس فيها إبادة البشرية، فإنهم يتضرعون بالخلافات وتباين التقديرات، وإن اقتضى الأمر تعطيل الشرعية الدولية إلى حين انتهاء المجرمين من تنفيذ جرائمهم ضد الإنسانية. 
> نقيب الصحفيين المغاربة