حديث الأسبوع

السيادة والحكامة .. حروب العالم الافتراضى بين الكبار

 عبدالله البقالي
عبدالله البقالي

تزاحمت أحداث كثيرة ومبادرات متعددة فى شأن إشكاليات كبرى مرتبطة بالإنترنت فى العالم خلال الأسابيع القليلة الماضية، وهو تزاحم يؤشر على وجود تسابق محموم بين القوى العالمية نحو السيطرة على الإنترنت الذى أضحى يمثل شرايين حقيقية للحياة فوق كوكب الأرض.

قبل أسابيع من اليوم احتضنت العاصمة اليابانية طوكيو النسخة 18 من (منتدى الحكامة فى الإنترنت) شاركت فيه أطراف حكومية وجامعية وتقنية ومن المجتمع المدنى. وبعدها بأسابيع قليلة جدا (بداية شهر نوفمبر الماضى) ردَّت عليها الصين بتنظيم ما أطلقت عليه (المؤتمر العالمى حول الإنترنت).

وموازاة مع ذلك، تواصل بعثات الأمم المتحدة فى مختلف بقاع العالم استشارتها الموسعة، التى أطلقتها فى شأن مشروع (مدونة السلوك حول سلامة المعلومات فى المنصات الرقمية) التى سبق للأمين العام للأمم المتحدة السيد غوتريش أن أعدها، والتى من المرتقب أن تنتهى الاستشارات فى شأنها قبل نهاية شهر يونيو من السنة المقبلة قبل عرضها قصد المصادقة النهائية عليها فى (قمة المستقبل) المزمع تنظيمها خلال الأسبوع الثالث من شهر سبتمبر المقبل بنيويورك.

لا يحدث هذا التزاحم فى الإعلان عن مبادرات فى شأن الإنترنت من قبيل الصدفة، ولا حتى أن هذه الأطراف تكشف عن حسن نية وإرادة طيبة فيما يتعلق باستعمالات الإنترنت، بل إن هذا التدافع يعكس فى عمقه صراعا لم يعد خافيا بين القوى العظمى لفرض سيطرتها المطلقة على الإنترنت، مما يعنى بسط هيمنتها ونفوذها على العلاقات الدولية، وضمان شروط تحقيق مصالحها الاستراتيجية، السياسية والاقتصادية منها على حد سواء.

وكان الرئيس الصينى واضحا فى معرض خطابه الافتتاحي، الذى ألقاه خلال حفل افتتاح المؤتمر العالمى حول الإنترنت الذى انعقد مؤخرا فى الصين حينما قال: «من الضرورى احترام السيادة فى الفضاء الافتراضى وكذلك نموذج الإنترنت فى كل بلد»، مع التذكير أن الصين التى تعتبر أكبر بلد من حيث عدد مستعملى الإنترنت بأكثر من مليار مستعمل تنصب نفسها قوة مضادة للقوى العالمية التى تبسط نفوذها على الفضاء الافتراضى.

وفى الواقع فإن تعدد المبادرات فى مجال السعى نحو الهيمنة على الإنترنت تحولت إلى حرب ضارية حول ما أصبح يصطلح عليه بحرب (شبكة الشبكات) والتى تدور حول التمكن من التحكم فى الإنترنت.

ذلك أن شبكة الإنترنت هى من حيث المبدأ، ملكية عالمية مشتركة تعمل بدون مالك واحد كمفرد أو كجماعة. ولكن الواقع كما هو سائد غير ذلك، حيث نصب تنظيم يسمى باسم (Internet corporation for Assigned Names and Numbers ) (شركة الإنترنت للأسماء والأرقام المخصصة) الذى خرج إلى الوجود قبل حوالى ربع قرن من اليوم، نفسه هيئة غير ربحية وتخدم المنفعة العامة، وهو التنظيم الذى يدبر لحد اليوم التوطين فى الإنترنت، وتتكلف شركة أمريكية تحمل اسم (Verisign) بضمان الحكامة فى الإنترنت. وتعقد هذه الهيئة ثلاثة اجتماعات لها فى السنة بهدف استشارة ما يسمى (مجموعة الإنترنت العالمية) التى تضم تقنيين وجامعيين ومنظمات وحكومات، قبل اتخاذ أى قرار حاسم فى شأن الإنترنت.

الجديد يكمن فى أن هذه الهيئة التى كانت وحيدة فى مجال اختصاصاتها، والتى كانت خاضعة لسيطرة جهة واحدة تتوفر على شركات عالمية عملاقة فى الفضاء الافتراضي، لم تعد على ذلك الحال ، بعدما دخلت الأمم المتحدة على الخط وشكلت قبل سنوات قليلة من اليوم مجموعة خبراء حكوميين داخل المنتظم الأممي. ومن هنا دخل العالم فى مرحلة جديدة يتصارع فيها نموذجان يتعلقان بالحكامة فى الإنترنت وبالسيادة الرقمية فى العالم. نموذج متعدد الأطراف الذى يتجسد فى هيئة (icann) الذى يضمن هيمنة أمريكية مريحة فى شكل يبدو متعددا، ولكنه فى كنهه يضمن السيطرة التكنولوجية الأمريكية، وهو النموذج الذى لم يعد مقبولا من طرف منظمة الأمم المتحدة، التى اقترحت ما سمته نموذجا ثلاثى الأطراف، يتكون من الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني، على أن يدرج الجامعيون ضمنه، فى إطار الأمم المتحدة بما يحقق ما أضحى يسمى ب (الحكامة الأممية الجديدة والموسعة). وفى صلب هذا الاختلاف الحاد بين النماذج المقترحة تناثرت المبادرات هنا وهناك التى يسعى من خلالها كل طرف إلى فرض النموذج الذى يضمن له تحقيق مصالحه.

وفى الحقيقة فإن جوهر هذا التجاذب فى قضية أضحت تمثل عصب الحياة الحديثة، يتمثل فى قضية السيادة الرقمية، من يسيطر على الإنترنت بما يضمن له التجسس على ما يروج من أخبار وأسرار، ومن توجيه الرأى العام العالمى ومن توظيف المضامين التى تروج لها المنصات الرقمية، بما فى ذلك المحادثات عبر مختلف التطبيقات، والصور وغيرها؟ وفى قضية صدقية هذه المضامين التى لم تعد تقتصر على سلامة وصحة الأخبار، بل أيضا تعدت ذلك إلى فتح الحسابات الوهمية وتوظيف الروبوتات للتأثير على قرارات الجماهير فى مختلف مناحى الحياة، خصوصا فى صناديق الاقتراع وفى المواقف من المؤسسات الوطنية، وفى أزمنة الأزمات والحروب كما حدث خلال جائحة كورونا وحرب الإبادة التى شنها الاحتلال الإسرائيلى ضد غزة.

فالواقع الحالى الذى يبدو شكليا، متعددا ومتنوعا، هو فى حقيقته أحادى الهيمنة، لأن كل ما يتعلق بالتكنولوجيا فى هذا المجال مملوك للشركات الأمريكية وبعدها الصينية والروسية (يعنى تتقاسمه القوى الكبرى) من حيث الخوارزميات والتوطين والمراقبة على المحتويات، وهو الواقع الذى لم يعد العالم يقبله ولا يستسيغه، لذلك تعددت مبادرات التمرد عليه، ويجب ان ننتظر (قمة المستقبل) التى يرتقب تنظيمها بعد أقل من عشرة أشهر من اليوم، لنرى ما إذا كانت مدونة السلوك التى اقترحها الأمين العام للأمم المتحدة قادرة على تحريك مياه هذه القضية بالغة الأهمية.

نقيب الصحفيين المغاربة