«بائع البليلة».. قصة قصيرة للكاتب محمد كمال سالم

«بائع البليلة» قصة قصيرة للكاتب محمد كمال سالم
«بائع البليلة» قصة قصيرة للكاتب محمد كمال سالم

تأخرت عن اللحاق بالركب المهاجر من المدينة، هناك متعلقات بمسكني، لا أستطيع تركها خلفي، ساعة جيب أبي القديمة ذات الكاتينة الفضية، مصحف أحضرته أمي لي من الحجاز وخاتمها الذهبي، تركته لعروسي التي غادرت مع الركب منذ قليل، وقميص جديد أحببته، ادخرت ثمنه الباهظ من أجرة عملي اليومية. القصف يشتد ساعة بعد ساعة، وميض القنابل والطلقات النارية يشق عتمة الليل كبرق الشتاء في ليلة راعدة، أواجه صعوبة في تخطي ركام البيوت التي كانت عامرة بأهلها منذ قليل، أشياؤهم الثمينة متناثرة بين أشلاء ذكرياتهم، لا يستطيع أحد الالتفات لإنقاذها.

شعاع النهار الوليد يحاول أن يتنفس بين الغبار وبين دخان المتفجرات، هواء الصباح الرطب ورائحة البارود يختلطان في صدري، ها هو مفترق الطريق، لا أحد هنا سوى (عم حُسين) بائع البليلة، ذلك الشيخ الذي لم يغادر تلك الناصية منذ أن شببت عن الطوق، كان أبي يقول عنه: عم حسين ينطق بكل اللكنات العربية، يغني مواويلهم الجبلية القديمة، أغان شامية وأخرى أندلسية، لا نعرف من أين يأتي، أو أين يبيت، لا نعرف إلا أنه عربي طيب.

أشعر بالفزع، أراه شاردا حزينا، يراقب منتهى الطريق تارة، وتارة ينظر لعربته التي انقلبت والبليلة التي تناثرت فوق الأرض والطوار، حتى قروشه التي تناثرت، لا يحاول التقاطها وكأنه في غنى عنها.

توقف القصف، هُدمت كل الجدران، تمنيت لو أسأل الرجل:

ماذا نفعل الآن؟

 هناك ما يشق السكون آت من بعيد.. شبح سيارة ثقيلة تخض الأرض في اتجاهنا، أستطيع أن أميزها الآن، أنها ناقلة جنود قديمة، كان عندنا يوما جيش، ولكنها فارغة ترتج بشدة وهي تحاول اختراق الطريق مسرعة، عم حسين يقبض على يدي، يجذبني نحو الطريق، تشتد قبضته كلما دنت السيارة، يجري بي نحوها، تخطتنا، إنه مُصر على اللحاق بها، طار نعلاه من قدميه، يدفعني، يساعدني في التشبث ببابها الخلفي، يلحق بي، يا له من شيخ قوي عنيد.. يدرك أنها فرصتنا الأخيرة للنجاة.

السيارة مرتفعة جدا، لا نستطيع الارتقاء فوقها، أصبحنا عالقين بأذرعنا على بابها الأملس المتحرك الخلفي، أحاول جاهدا إلصاق حذائي الرياضي أسفله، عم حسين يتشبث بأظافر قدميه، تنزلق أقدامنا كلما ارتجت العربة في مطبات الشوارع، نرتطم بجسم السيارة، نحاول التشبث من جديد.

 

 لن أتكلم، سأحتفظ بطاقتي كاملة حتى لا أسقط، بينما راح عم حسين يغني بشجن، يتحدث بصوت عال دون توقف، يغالب صوت موتور السيارة المرتفع، رغم الهواء الذي يعُب فمه ويقاومه، كأنه يريد أن يُسمع أحد لا أراه

 _سأعود لساحة مسجدي الأموي من جديد، وأروح للغوطة وبستاني الذي أهوى، لينابيعك الرقراقة وروابيك الخضراء، سأعود إليك من باب كيسان، لسوق الحامدية الحبيب. آه يا مسجدي الأسير طال اشتياقي إليك، وستغسل يا نهر الأردن قدسي بمياه قدسية، وستشرق الشمس يوما فوق قبتك الذهبية.

 

تكاد راحتانا أن تدميا، نكاد أن نخر صرعى والسيارة لا تدري ولا سائقها، ليته يتوقف، امتلأت مقلتانا بالدموع من أثر امتلائها بالهواء واندفاع السيارة، وعم حسين مازال يصيح: _الفنار مضيء يا بورسعيد، شيلّاه يا سيدي الغريب، لي حبيبة عندك يا قاهرة اسمها زينب، كم أتيتها ماشيا من كل فج من مجرى العيون باكيا.

أتمنى لو أن هذه السيارة تتوقف، ولو أمام فوهة مدفع، لم أعد أحتمل، أو أن يصمت هذا الشيخ.

 _دجلة أنتِ تجري مني مجرى الدم في الوريد، هل مررنا بالمسجد الحُسين يا ولدي، أم ببرج بغداد؟ أخبرني بُنيِّ لو شاهدت منارة جامع الخلفاء الشاهقة.

 

 سَكَتْ، سكت عم حسين هنيهة، أجاهد كي أطمئن عليه، الهواء يضرب وجهه بعنف، يفض بنطاله الشامي الفضفاض وصديريته، طاقيته الصوفية مازالت فوق رأسه، أرخى بدنه على طول ذراعيه:

أنت بخير عمي؟

 يحاول الانتصاب من جديد، أضم يدي قدر استطاعتي، أحشر وجهي بينهما، أحاول التشبث بما تبقى فيِّ من عزم، الحمد لله، مازال بخير، عاد بصوت أكثر قوة:

_لو سمعت هناك جارة القمر فوق كل عمود للإنارة، على الروابي الخضر، خلف شجيرات الأرز، فاعلم أني من أخبرتهم أن يفعلوا ذلك، إنها حبي الأول، إنها بيروت.

 

 يبدو أن السيارة الهاربة توقفت، يداي الميتتان على بابها قد تيبستا، الصورة ساكنة، لا شيء هناك غير أعمدة للإنارة عليها لافتات ثائرة، أسقط على الأرض، لا تستطيع قدماي أن تحملاني، ولكن.. أين عمي حُسين؟!