حواديت وأساطير الروح المصرية| تراثنا الشعبي.. مصدر إلهام الفنانين التشكيليين

لوحة للفنان راغب عياد
لوحة للفنان راغب عياد

■ كتب: رشيد غمري

التراث الشعبي المصري عالم ثري ممسوس بالسحر، ومعجون بالأساطير. يظهر سطحه احتفاليا بهيجا، ويموج باطنه العميق بمخزون من طبقات حضارية، تراكمت منذ القدم، مختزنة خلاصات الزمن. ورغم تلاقحه مع روافد عديدة للتراث الإنساني، لكنه حافظ على نكهة مصرية شديدة الخصوصية. ومن حسن الحظ أن سلسالا من التشكيليين المصريين قد تنبهوا لثرائه مبكرا، فكان نبعهم المختار لتقديم فن مصري الروح والطابع، عرف طريقه إلى صالات الفن العالمى، ويلقى كل التقدير والاهتمام.

■ حفل نوبي للفنان أحمد سليم

منذ إنشاء مدرسة الفنون الجميلة عام 1908، ولعقود تالية، اعتمد تدريس الفن على معلمين أجانب. وحتى خارج المدرسة، استعانت الطبقات الأرستقراطية بفنانين أوروبيين لتعليم أبنائهم. ورغم ذلك، كان من اللافت منذ عشرينيات القرن الماضى، تجاه العديد من الفنانين المصريين بعد انتهاء فترة تعليمهم وتدريبهم إلى البحث عن صيغ فنية مصرية. وكانت الحياة الشعبية وتراثها أحد أهم تلك المسارات.

وعندما ننظر اليوم إلى ما أنجزه الفن التشكيلي المصري من استلهام للتراث الشعبي، سنجد أننا أمام مدارس عديدة، ومقاربات متباينة، اهتم بعضها بالشكل، ونهل آخر من عوالم الحواديت، والخرافات، والأمثال، ووثق آخرون تفاصيل الحياة الشعبية بعاداتها وتقاليدها وطقوسها، وبأساليب عديدة تنوعت من الواقعية إلى السيريالية، ما يؤكد عمق التراث الشعبى، وقدرته على إلهام الفن المعاصر بمقومات جمالية وأبعاد روحية ورموز ثقافية، لا تنتهى.

◄ عياد أطاح بالقواعد الأكاديمية والجزار ساحر الروح

◄ عيّاد المتمرد
من بين خريجى الدفعة الأولى من مدرسة الفنون الجميلة، بدأ «راغب عياد» الذى درس على يد التأثيرى الإيطالى «فورتشيللا»، البحث عن طريقه الخاص، ووجده فى حياة الفلاحين، وأبناء البلد فى الأحياء الشعبية.

وطوّر أسلوبا وشكلا بخلاف ما تعلمه أكاديميا، ليلائم موضوعاته الشعبية. ووفق كتاب «راغب عياد رائد التعبيرية الاجتماعية» للناقد أحمد عبدالفتاح، فقد كان «عياد» صاحب السبق فى استلهام جماليات الموضوع الشعبى الجمعى، مازجا إياها بالمشهد البصرى فى القرى والمدن المصرية، وفى صيغة متصالحة مع اتجاهات الحداثة العالمية، دون التماهى الكامل، ولكن عبر رؤية موازية. وهو ما جعله ينتهج لونا من التعبيرية الاجتماعية التى تتبنى رؤية جمعية، بدلا من الرؤى الذاتية للتعبيرية فى الغرب. 

وهكذا كان «عياد» أول من حرر خطوطه، وقدم معالجات مستوحاة من بساطة الفن الشعبي، ملتقطا الروح، والحس الساخر للمصريين. وهو ما أشار له الناقد «إميه أزار» الذى وصفه بكاشف الستار عن الفوارق الاجتماعية، والفاتح لباب الكوميديا. وحول تجربته الشخصية ذكر «عياد» فى كتابه «أحاديث فى الفنون الجميلة» أنه لم يجد شغفه فى التدرب على رسم التماثيل المجردة من الحياة فى المدرسة، ما جعله طالبا غير نموذجى فى نظر أساتذته الأوروبيين.

وقد بحث عما يثير ذائقته فى الريف، ما جعل شخوصه يمرحون على طبيعتهم، بينما يؤدون أعمالهم. كما رأى فى الاحتفالات الشعبية صورا حية للمشاعر المجردة التى لم يصبها التعقيد والزيف، من بائع العرقسوس والسقا والأدباتى والشربتلي وصندوق الدنيا وخيال الظل والأراجوز ورسام الوشم وحلقات الذكر ورقصات الخيل والتحطيب والطبالين والمنشدين المرتجلين. وهو ما اعتبره  دور الفنان فى ترسيخ تقاليد قومه وتكريم شعبه بمختلف فئاته. ويمكن اعتبار «عياد»، الجلباب الذى خرج منه مستلهمو الروح الشعبية، كلٌ على طريقته. 

■ لوحة بنات بحري للفنان محمود سعيد

◄ ناجي وسعيد «أولاد ذوات» أسرهما الجمال الشعبي

◄ سعيد وناجي
محمود سعيد فنان صاحب بصمة فريدة، ولوحاته هى الأغلى عربيا فى صالات الفن العالمى. وأهمها اعتمد على تصوير الحياة الشعبية المصرية، كما جعل النساء الشعبيات بطلات لأعماله. فاستعان بالفتاة «هاجر» ومن بعدها «حميدة»، و«نبوية». وكان يرسم كلا منهن فى عدة لوحات، كما رسم حلقات الذكر، والمقرئ، والمؤذن، وزيارة القبور، والزار، وبنات بحرى ومناظر من الريف. كل ذلك وهو ابن طبقة أرستقراطية، ووالده رئيس للوزراء، ويعمل قاضيا، لكنه كفنان وجد شغفه الفنى فى الحياة الشعبية.

أما الفنان محمد ناجي فهو أيضا ابن عائلة أرستقراطية، ومثل سعيد تلقى تعليمه الفنى على أيدى مدرسين أجانب، بخلاف دراستهما للقانون فى الخارج. وقد جذبته الحياة الريفية بالذات، فصوّر العديد من مشاهدها. واهتم بالتفاصيل إلى حد التوثيق الشغوف، وأعاد رسمها مرارا دون كلل، مع الاهتمام بإظهار الطبيعة الريفية كخلفية للطقوس والاحتفالات والعادات الشعبية التى تعج بالحركة.

ووفقا لكتاب «الحياة الشعبية فى أعمال محمد ناجى» لمؤلفه الفنان سعد الخادم، زوج الفنانة عفت ناجى شقيقة الفنان، فقد تنوع أسلوبه على مدى مشواره الفنى، لكنه ظل يقوم بدور توثيق التراث المصرى فى إنتاجه الغزير. 

■ لوحة دنيا المحبة للفنان عبد الهادي الجزار

◄ الجزار وسحر الخرافة
ورغم تعدد التجارب التى استلهمت التراث الشعبي بعد راغب عياد، لكن بدت تجربة الفنان عبدالهادى الجزار كعلامة فارقة فى عمق استلهامه لذلك التراث، حيث التقط الروح السحرية التى أكسبت لوحاته حالة غرائبية، لامست الميتافيزيقية، والرمزية، وحتى السيريالية.

وهو ما ظهر مبكرا نهاية الأربعينيات، عندما كان يبحث عن تعبيرية مصرية. ويظهر ذلك السحر منذ أعماله الأولى مثل «ذات الخلخال»، و«الجوع»، و«مفتاح الزمن»، و«ودن من طين»، و«ست البنات»، و«طاسة الخضة» وغيرها. وهو مثل رفاقه فى جماعة الفن المعاصر، تتلمذوا على يد الفنان حسين يوسف أمين، بينما كانوا فى المرحلة الثانوية، وهو من وجههم صوب جماليات الموضوع الشعبى.

وهو ما تعلمه من أستاذه الفنان «حبيب جورجى»، صاحب المدرسة التى آمنت بأن التراث والخصوصية الثقافية تُحمل فى الجينات، وأنه يمكن اكتشافها حتى فى إبداعات الأطفال الفطرية.

واعتمد «الجزار» فى أسلوبه على الذاكرة التخيلية، والخطوط المرتجلة، والحرية فى التشكيل والتعبير، ما جعل أعماله قريبة من الحس الشعبى قبل أن يلتحق بكلية الفنون الجميلة، ويلتقى بأساتذة آخرين مثل راغب عياد، و«بيكار»، و«الحسين فوزى»، وكلهم كانوا يمسكون أطرافا من خيوط التراث الشعبي. 

■ لوحة للفنان حلمي التوني

◄ التوني استلهم الحواديت والرزاز حولها لأساطير

◄ حواديت وأساطير
ويعتبر الفنان حلمي التوني من أشهر التشكيليين على الساحة ارتباطا باستلهام التراث الشعبي. ويمارس الأمر كلعبة طفولية، مغرقا فى البساطة، على مستوى الخطوط، والألوان ومعالجة الأسطح، محاكيا الفنان الشعبي، حتى أن موضوعاته تذكرنا بعالم الحواديت. والكثير من لوحاته تعيد تقديم «ست الحسن والجمال» التى تتناسخ فى أعماله بتجليات مختلفة. كما يظهر الولد الفارس الشاطر على حصانه أو مترجلا، معيدا سيرة «الهلالي» و«ابن شداد»، وهو يسمح لنفسه بإضافة مفردات جديدة للتراث، مما عاينه، ومما عرفته الحياة الشعبية فى العقود الأخيرة.  

■ من أعمال الفنان مصطفى الرزاز

أما الفنان مصطفى الرزاز فينهل من التراث الشعبي عبر أبعاد أسطورية، باحثا عن أعماق دلالية ورمزية، ويعيد اكتشاف جماليات الخطوط والموضوعات الشعبية، وقدرتها على التمدد خارج أطرها التقليدية. وهو الآخر لديه مفردات مختارة مثل الحصان والفارس، والطيور. كذلك تظهر المرأة فى أعماله، بملامح شعبية جميلة وبريئة.

وتتنوع الخطوط من عمل إلى آخر، وتخرج من سياقها المتعارف عليه، إلى المساهمة فى تشكيل مفردات أخرى. وهو تعميق للفن الشعبى، أفاد من حريته ومرونته فى صياغة جديدة عبر تحوير الأشكال، وتحريرها. وأفاد من معالجات الفن الشعبى كما فى دمج جسد الإنسان والحصان، ما يذكرنا بأحصنة المولد النبوى المصنوعة من السكر.

وتتسم بعض معالجاته بنوع من الحس الصوفى، ووحدة الوجود، حيث يمكن لذيل طائر أن يكون فى الوقت نفسه زهرة لوتس. ولذلك تبدو العناصر المتوارثة فى لوحاته جديدة، على مستوى الشكل، وما تثيره من أسئلة واكتشافات.

◄ إلهام بلا حدود
التشكيليون المصريون الذين ألهمهم التراث الشعبى بالعشرات، لكننا نتوقف هنا عند بعض التجارب المعاصرة كأمثلة، ومنها تجربة الفنان أحمد سليم، ابن الصعيد الذى تظهر عوالم الجنوب فى أعماله، مفعمة بطاقة الحياة الشعبية. وهو يرسم احتفالات وبيوت النوبيين، وطقوسهم الاجتماعية. وتتسم بعض أعماله بحس فكاهى، يمسك بتعبيرات عفوية ومواقف تلقائية. 

ومن جيل تالٍ تبدو تجربة الفنان عمر عبد الظاهر شديدة الخصوصية والعمق، رغم بساطتها الظاهرة. وأعماله تخلو من الادعاء، والإقحام، أو التوسلات، فتنساب الروح الشعبية عميقة وهادئة، وصادقة، لذلك تبدو مألوفة، بل كأنها تخرج من مخيلتنا طازجة ومدهشة، ودون تنظير خطابى. كما تنضح لوحاته بطبقات من التراث المصرى القديم متحدة بالروح الشعبية.  

وفى تجربة لجاليرى «تام» مؤخرا، أقام معرضًا للوحات 25 فنانا عبّرت عن الأمثال الشعبية المصرية تحت عنوان «بصلة المحب خروف». وبعض التجارب كانت مثيرة للدهشة، وهى تتناول موضوعا شعبيا بأساليب، ما بعد حداثية.

ومنها ما قدمه الفنان «جوزيف الدويرى» الذى كسر الحواجز بين الشعبى المحلى والشعبى العالمى. كذلك قدمت تجارب لمعارض جماعية حول التراث الشعبى، ومنها معرض «جاليرى جوجان» عام 2008، لفنانين ينتمون إلى أربعة أجيال، قدموا لوحات مثل «عازف الربابة»، و«الأراجوز» لعاصم عبد الفتاح و«الفرح الصعيدى» لأحمد سليم، و«رقصة التنورة» لهند الغلاف و«مائدة الرحمن» لعمر عبدالظاهر، وكلها تجارب تؤكد أن وعى الفنانين بثراء التراث الشعبى لم يتوقف.