بعد الكشف عن بقايا سفينة بمنطقة العلمين| تاريخ مصر الغارق يبحث عن متحف‏ تحت الماء

صورة موضوعية
صورة موضوعية

■ كتب: عصام عطية

مؤخرًا تم الكشف عن بقايا سفينة غارقة منذ مئات السنوات فى العلمين، وقبلها منذ سنوات تم اكتشاف مدينة الإسكندر الأكبر غارقة تحت مياه البحر المتوسط في الإسكندرية، وأمام جميع هذه الآثار الغارقة أصبحت فكرة إقامة متحف للآثار الغارقة تحت الماء حلمًا يراود عشاق التاريخ، حيث يتحول هذا المتحف تحت مياه البحر المتوسط إلى رحلة استكشافية عبر الزمن يعيشها الزائر مبهورًا بمشاهدة المدن والآثار الغارقة، هذا المتحف يعد مشروعا قومياً يعيد السياحة الأثرية من خلال إحياء الآثار الغارقة وإنقاذها من الاندثار، خصوصا أن مدينة مثل العلمين لها تاريخ كبير ليس فقط مع الحرب العالمية، لكنها كانت تضم مدينة ليوكاسبيس فى العصر الروماني، التى غرقت فى زلزال كبير وتم اكتشاف أثرها فى 1986. 

مؤخراً وفى العلمين، اكتشفت البعثة الأثرية المصرية من الإدارة المركزية للآثار الغارقة بالمجلس الأعلى للآثار، أثناء أعمال الغوص والمسح الأثرى بأحد المواقع الغارقة بالبحر الأبيض المتوسط، الذى يبعد حوالى 650 مترا من شاطئ منطقة العلمين، بقايا سفينة غارقة وعدد من الجِرار (الأمفورات) من القرن الثالث قبل الميلاد، وأوضح الدكتور مصطفى وزيرى، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، الأهمية التجارية لمنطقة العلمين والساحل الشمالى فى القرن الثالث قبل الميلاد، التى كان يوجد بها العديد من الموانئ التجارية، بالإضافة إلى الأهمية العلمية حيث يقدم الكشف دليلا جديدا على مكانة مصر والمنطقة من الناحية التجارية والاقتصادية والسياحية.

وقال الدكتور أيمن عشماوي، رئيس قطاع الآثار المصرية بالمجلس الأعلى للآثار، إنه خلال أعمال المسح الأثرى بالمنطقة تم العثور على بقايا من أخشاب السفينة الغارقة، ومئات من اللقى الأثرية الفخارية من بينها عدد كبير من الجِرار (الأمفورات) المستوردة من جزيرة رودس باليونان، التى كانت تستخدم قديماً فى تخزين ونقل النبيذ، مُشيرًا إلى أن هذه الجرات وُجدت مُرتكزة على جزيرة غارقة بجوار السفينة مما يؤكد أنه من المرجح أن يكون سبب غرق السفينة أثناء رحلتها التجارية هو ارتطام قاعها بالجزيرة المتواجدة بقاع البحر.

◄ اقرأ أيضًا | «متحف تحت الماء».. إغراق معدات حربية مكهنة بالبحر الأحمر| صور

◄ فريق علمي
وأوضح إسلام سليم، رئيس الإدارة المركزية للآثار الغارقة، أنه تم التوصل إلى هذا الموقع الأثرى من خلال المهندس حسين مشرفة، مالك لإحدى شركات المسح البحرى، الذى شاهد بقايا السفينة الغارقة أثناء قيام شركته بأعمال المسح بهذه المنطقة، الذى قام بدوره بإخطار المجلس الأعلى للآثار، حيث قام على الفور، فريق علمى أثرى من الإدارة المركزية للآثار الغارقة بالتوجه إلى منطقة العلمين والبدء فى أعمال الغوص والمسح الأثرى لاستطلاع الموقع وتحديد الأهمية التاريخية والأثرية له، مضيفًا أن الدراسات التى أجراها فريق العمل، تشير إلى أن السفينة التى تم العثور عليها هى سفينة تجارية، يرجع تاريخها إلى القرن الثالث قبل الميلاد، الذى يوضح سير الحركة التجارية بين مصر ودول البحر الأبيض المتوسط فى ذلك الوقت، حيث إنه من المعروف أن الساحل الشمالى كان يضم 30 قرية ومدينة وميناء خلال العصرين اليونانى والرومانى من أهمها موانئ مرسى مطروح، والضبعة، ومارينا العلمين، وكانت تلك الموانئ عبارة عن محطات فى طريق السفن القادمة من شمال أفريقيا، وجنوب أوروبا إلى الإسكندرية، كما كان يتم تصدير المنتجات الغذائية من نبيذ، وزيتون، وحبوب من موانئ الساحل الشمالى إلى شمال أفريقيا وجنوب أوروبا وشرق البحر المتوسط، وقد أنهت البعثة أعمال التوثيق الأثرى للمكتشفات باستخدام تقنية التصوير ثلاثى الأبعاد (Photogrammetry)، وتقوم الإدارة المركزية للآثار الغارقة بدراسة سيناريوهات التعامل مع المكتشفات الأثرية والحفاظ عليها وانتشالها من الموقع، كما تقوم باستكمال أعمال الحفائر تحت الماء خلال الموسم للكشف عن المزيد من الدلائل والشواهد الأثرية، وما تخبئه السفينة من أسرار.

◄ حلم المتحف
وبقى حلم إنشاء متحف للآثار الغارقة، يراود كل عُشاق الآثار منذ  2007 عندما أعلن المجلس الأعلى للآثار، وكان يرأسه فى ذلك الوقت الدكتور زاهى حواس، عن صور ماكيت المتحف، التى أبهرت العالم وقتها، لتمر السنوات ويصبح حلم إنشاء المتحف فى طى النسيان، ورغم الاكتشافات الأثرية الكبيرة لمدن غارقة تحت مياه البحرين المتوسط والأحمر، ورغم كم الآثار الموجودة تحت المياه، تاه حلم إقامة متحف للآثار الغارقة، وهنا يقول إسلام سليم، إن معوقات إنشاء المتحف ليست مادية، لأن الجانب المادى يُمكن التغلب عليه حتى لو بحق الانتفاع، لكن الأسباب الجوهرية هى عوائق بيئية، فالتلوث الموجود فى الميناء الشرقى يحول دون إقامة متحف للآثار الغارقة، وهناك دراسة تمت على هذا المشروع، وكان مطروحا مع مفاوضات من الجانب الصينى لإنشاء المتحف، مُضيفًا أنه الآن يُمكن أن تشاركنا دولة مثل الصين إنشاءه، ونحن لسنا مُلزمين بالماكيت القديم.

وقال: «حاليًا ليس لدينا متاحف للآثار الغارقة، لكن لدنيا موقع مفتوح لزيارة الآثار الغارقة تحت الماء، وتحت إشراف مركز غوص حائز على موافقة وزارة السياحة والآثار، بمنطقة فنار الإسكندرية»، وعن أسباب التلوث فى الميناء الشرقى، قال إنه مُغلق حاليًا وسيُفتتح قريبًا، والتلوث الموجود بسبب الصيادين فهم موجودون حتى الآن، ونحن لدينا مُقترح بأكثر من مكان بديل لإقامة المتحف.

وأشار إسلام، إلى أن هناك أماكن عديدة يتم عمل حفائر بها منها جنوب أبو قير، ومنطقة أسطول نابليون، والميناء الشرقى، ونحن نعمل حفائر منذ 1997، ومصر لا تنضب من الاكتشافات الأثرية فكل عام هناك اكتشافات أثرية تحت المتوسط وكلها اكتشافات مهمة للغاية.

◄ سنوات الانتظار
الدكتور محمد مصطفى عبد المجيد، كبير الأثريين بالآثار الغارقة، كان يحلم بإقامة متحف للآثار الغارقة، منذ عام 1995، فيقول: «وقتها أعلنا عن اكتشاف فنار الإسكندرية، وفى 1996 اكتشفنا الحى الملكى لمدينة الإسكندرية القديمة، وفى نفس العام اقترحنا عمل حديقة تحت الماء، تنزل لها لتُشاهد الآثار الغارقة بمكانها، وفى 1997 كان هناك مؤتمر فاركوم التابع لليونسكو، وكان هدفه حماية الآثار المُكتشفة تحت الماء، وكان ضمن توصياته عمل منطقة بإنشاءات أو بحديقة متحفية، ومشروع آخر لحماية قلعة قايتباى».

وفى  2007 جاء فاروق حسنى، وزير الثقافة الأسبق، ليقيم ورشة عمل لتحديد الطريقة الأفضل لإنشاء متحف تحت الماء، وبالفعل تم عمل مسودة مشروع بالشكل الذى سيكون عليه المتحف تحت المياه، بدراسة أثرية واقتصادية واجتماعية للموقع، وقالوا إن المشروع يحتاج أموالا طائلة، وفعلًا قام الدكتور زاهى حواس، الأمين العام للآثار وقتها، بالضغط على رئيس البعثة التى تقوم بعمل حفائر فى هذا المكان، وتم وضع مليون و200 ألف يورو ميزانية للمشروع.

وواصل، فى 2011 لم تُتخذ أى إجراءات جديدة، بينما فى 2012 و2013 تم عمل ورشة فى وجود الدكتور محمد إبراهيم، وزير الآثار الأسبق مع اليونسكو بخصوص المتحف، لأن اليونسكو كانت تُريد حماية قلعة قايتباى واستغلال الآثار الموجودة تحت الماء، وتحويل القلعة لمركز ثقافى للنشاط البحرى، وتحويل الموقع بجوار القلعة لحديقة متحفية للغوص ومُشاهدة الآثار الغارقة، وإنشاء متحف فى الميناء الشرقى تحت الماء، وخلال تولى الدكتور خالد العنانى، وزارة السياحة والآثار، فكر فى إنشاء المتحف بتمويل مُشترك، وكانت تكلفة المشروع 200 مليون دولار، وحتى الآن الفكرة لا تزال حبيسة الأدراج.

◄ توثيق التراث
منذ 7 سنوات حاول مركز التوثيق الحضارى من خلال ندوة هامة، الوصول لتفاصيل المحاولات السابقة لإنشاء أول متحف تحت الماء بمصر، والمعوقات التى تقف حائلًا دون إنشائه، وسبل حلها وكيفية التنسيق بين الجهات الوطنية المعنية للسعى نحو إنشاء المتحف الذى يعد رحلة عبر الزمن لاكتشاف أسرار المدينة، ووقتها أكد المهندس محمد فاروق، القائم بأعمال مدير مركز توثيق التراث الحضارى والطبيعى، أهمية آثار مصر الغارقة أسفل مياه البحر بالإسكندرية، التى لا تقل فى أهميتها وروعتها عن آثار مصر الخالد التى تروى وقائع المصريين وتزهو بأمجادهم، مُشيرًا إلى أن تاريخ مصر الغارق منذ مئات السنين لا يزال حيًا‏، ليحكى تاريخ الإسكندرية القديمة،‏‏ وطالب فاروق بمشروع سياحى لاستغلال ما تم اكتشافه من كنوز خالدة تحت المياه مما يجعل الأنظار تتجه إلى الإسكندرية‏، ويعمل على تنشيط حركة السياحة الوافدة إلى الإسكندرية مما يزيد من الليالى السياحية التى يقضيها السائحون فى مصر.

◄ أفضل استغلال
الدكتور محمد مصطفى، المشرف على الإدارة المركزية للآثار الغارقة، قال وقتها إنه لم تجر دراسة سواء هندسية أو دراسة جدوى حقيقية عن كيفية الاستغلال الأمثل للآثار الغارقة، مُشيرًا إلى أن جوانب استغلال الآثار الغارقة مُتعددة، وفى مقدمتها إقامة متحف تحت مياه البحر يُمكِّن السائحين من مشاهدة الآثار فى مواقعها الأصلية، كما يُمكن  نقل صورة كاملة لما يمكن مشاهدته تحت الماء من خلال كاميرات متصلة بمركز للزوار يتم إنشاؤه وتزويده بشاشات عرض تنقل صورة حية من تحت الماء، أو إقامة معارض للمنتشلات الأثرية من قاع البحر، ودعا مصطفى إلى إعلان فرض نظام المحميات الطبيعية على أماكن الآثار الغارقة، ووضعها على قائمة التراث العالمى كتراث متفرد لا يوجد له مثيل فى العالم أجمع، موضحا إمكانية إنشاء مراكز غوص تنظم زيارة السائحين لأماكن الآثار الغارقة لمشاهدتهاعلى الطبيعة بعد اتخاذ كافة الإجراءات القانونية والأمنية لحماية تلك الآثار.

◄ كنوز أثرية
أضاف، أن شواطئ الإسكندرية وخصوصا منطقة خليج أبى قير ومنطقة الميناء الشرقى تمتلئ بكنوز من الآثار الغارقة التى غرقت بسبب الظواهر الطبيعية على مدى 15 قرنا، وعلى وجه الخصوص الزلازل التى ألقت بكثير من مبانى وقصور وقلاع الإسكندرية فى مياه البحر، ومن أشهر هذه المبانى التى أطاحت بها الزلازل منارة الإسكندرية القديمة إحدى عجائب الدنيا السبع، مُشيرًا إلى أن الزائرين للمتحف «تحت الماء» المقترح سيكتشفون المدينة الغارقة ومعبد آمون والميناء القديم وقصر الأحلام الذى بناه مارك أنطونيو للملكة كليوباترا، إضافة لمدينة مينوتيس التى تبعد عن الساحل 2 كم، واستمرت أعمال الكشف عنها عامين تم خلالهما إزالة طبقة الرمال التى تغطى الموقع، والمدينة تمتد بمساحة 500 لـ700 متر، وتحوى أطلالاً تمتد بمحور من الشرق للغرب تتكون من مئات الأعمدة والكتل الحجرية مختلفة الأشكال والأحجام وكذلك تماثيل لأبى الهول ورؤوس ملكية، وتماثيل لبعض المعبودات مثل إيزيس وسيرابيس، إضافة لبعض الكتل الحجرية التى تحمل نقوشًا هيروغليفية يرجع بعضها للأسرة 26 وبعضها للأسرة 30 الفرعونيتين، ولعل أهمها أجزاء من ناووس يصور الأبراج والفلك فى مصر القديمة، فضلاً عن العديد من العملات الذهبية يرجع بعضها للعصر البيزنطى وبعضها للعصر الإسلامى (العهد الأموى)، إضافة للعديد من المبانى الضخمة والتماثيل التى تصور الملوك بالطراز الفرعونى، ويصل حجمها إلى 4 أمتار فى الارتفاع.

وإذا عدنا للوراء قليلًا وتحديدًا فى 2006 سنجد أنه تم الإعلان عن إنشاء متحف تحت الماء بالإسكندرية، وكان المتحف المقترح تحت الماء لن يتم بناؤه فقط للقيمة الجمالية ولكنه أيضا للالتزام باتفاقية اليونسكو 2001 لصون التراث المغمور بالمياه، وقد قررت الاتفاقية أن القطع الأثرية المغمورة مثالية ينبغى أن تظل فى قاع البحر احتراما لسياقها التاريخى، ولأنه أيضًا فى بعض الحالات، وُجد أن الماء يحافظ على القطع الأثرية، لكن البناء على القطع الأثرية المغمورة مباشرة يمكن أن يلحق الضرر بها، وهذه واحدة من عدد كبير من القضايا اللوجستية التى تم اختيار فريق من علماء الآثار والمهندسين المعماريين والمهندسين الإنشائيين والاقتصاديين، والجهات الحكومية لبحثها فى العامين المُقبلين.

◄ التصميم الفرنسي
وفى 2007، اشترك أربعة من أعظم مصممي ومهندسي العصر فى هذه المسابقة العالمية, وفاز تصميم المهندس الفرنسى العالمى جاك روجيريهو، الذى حدد تكاليف إجمالية لإنشائه بـ120 مليون دولار, وأن يتم تنفيذه خلال عامين فقط، وكانت تفاصيل المتحف، كما يشرح مصمم المشروع، أن تكون الزيارة عبارة عن رحلة استكشافية عبر الزمن يعيشها الزائر مبهورًا بمشاهدة المدينة الغارقة, وعلى أن يتكون المتحف من جزءين, المبنى الرئيسى، الذى يمتد كنافذة مفتوحة على الميناء الشرقى, الذى يوصل إلى المبنى الثانى المغمور كليا تحت الماء بعمق10 أمتار, وللانتقال من المبنى الأول إلى المبنى الثانى يسير الزائر فى ممرات تحت الماء بطول 60 مترًا حتى يصل لصالات العرض الرئيسية, وهى أكثر صالات المتحف تشويقا، حيث تمكن الزائر من خلال حوائطها الزجاجية من رؤية القطع الغارقة، وفى كل هذا تلعب الإضاءة دورا ساحرا.