تساؤلات

هاروح المشترى

أحمد عباس
أحمد عباس

القعدة كانت ساخنة سخونة كوب شاى مغلى فى عز البرد، الجميع يتحدث بكل شيء دائر يشرحون الحالة بتفاصيلها ومعطياتها، وكل يرى المسائل بعين قناعاته ونشأته وتطوره وتمنياته.
تبدأ القعدة بهمهمات جانبية وسلامات وتحيات ثم أحاديث ثنائية ثم يتسع الحوار فيشترك الكل ويشتبك من يريد وهكذا، آآه كانت معجنة افتتتحت الجلسة بالاطمئنان على الأهل والعائلة ثم المدارس والمجالس والمسائل والحاجات، وتطورت واحدة بواحدة وتطرقت للأحوال والأهوال والأموال ثم باءت الأمور إلى الحديث عن عتريس والمحابيس والمتاريس والصواريخ والبوارج والحوائج والحاجات.


والحال نفسه يتكرر بين الصحاب الجالسين إلى الموائد المجاورة، نفس الكلام يتكرر ربما بنفس التسلسل وأنا لا أنفك أُلمع أُكر وأتجسس على أحاديث المحيطين، الأصدقاء منزعجون جدا من أداء «فيسبوك» ويشتكون من حجب صفحاتهم عمدًا وعدم نشرمحتواهم.


قهقهات بعيدة آتية من شلة أصدقاء هناك، يتبادلون هاتفًا واحدًا منهم، يتفرجون على نفس الفيديو يعيدونه مرات، تسحبت من خلفهم لأشاهد ما المضحك فى هذه الأيام، اللقطة لمذيعة مريعة قررت تواجه الطغاة بلغتهم فصنعت فيديو تزعق فيه للمحتل وتقول بنبرة منفعلة «شلاخيم عكشخاف» وبرغم كل الحزق والمزق الناس ضحكت.
القعدة طالت والشباب جائع والموتوسيكل وصل أخيرًا بالأكل، طيار الديلڤرى ولد فى العشرين على الأكثر يلف رقبته بشال له ألفته ورمزيته لقضية لم يعد يتبقى منها سوى الشال والمفتاح الصدئ المعلق فى الرقاب يغلق الصدور على أحلام العودة والنضال ومزارع البرتقال، سأل أحد القاعدين الشاب عن ماهية التلفيحة فقال: أنتم مش عايشين فى الدنيا قعدة القهوة أكلت دماغكم الكوفية اللى مش عجباك دى أكتر حاجة بتدفى على الموتوسيكل»، ثم عدلها ورحل.
«هاعمل شاى» قالها صديقى اللى جانبى لما انتبهت فجأة لنقاش دائر بين أصحاب الطفولة، كان ذلك رده لما سمع خطبة عصماء من أحد الجالسين تفلسف وتفذلك خلالها عن أن كم هذا العالم ظالم ولا يعترف بنا بل ويقهرنا ولايريد أن يدمجنا فى المرحلة القادمة منه المعجونة بالاختراعات والافتراءات ومخازن السلاح، ثم سأله صديقنا: قل لى ماذا ستفعل أنت فى هذا العالم!، فقال «هعمل شاى».


البوارج وحاملات الطائرات تسير عكس التيار فتشق البحور وتخرق البحر المسجور والناس تعتقد أنها زيارة سريعة وخاطفة لإنجاز مهمة ونصرة الباطل على الحق، أما أنا فأراها إعادة تمترس من جديد فى المنطقة وتموضع آخر سيبقى لعقود قادمة والناس يموتون فى كل ثانية ونحن لا نعرف كيف تعبر عليهم لحظة القصف ودوى الانفجار وكيف يشعر من تكتب له الحياة بعدها ويعيش مبتورا أو مقهورا أو يتيما أو سقيما، والحق أننا مهما تعاطفنا لن نشعر مثله.


فيسبوك يتعمد إخفاء الحقائق ويمحو من يكتبها محوًا وأنا أحتمى بمطبوعتى هذه التى يلوموننى فيها وأنا أصمم أكثر أنها الباقية، حتى وإن كانت صعوبتها فى أن تكتب عن شيئا ولا تكتبه لئلا ينزعج هؤلاء الذين يهلعون إذا ما دقت الأجراس، المهم وبعد هذه الدوشة المفرطة صرخ صوت بجانبى بعدما أسود الحديث تماما وعتمت الدنيا وقال: لا يا عم حتى المريخ بقى زحمة أنا هاروح المشترى.