من مذكرات مقاتل ضد «الغطرسة» الإسرائيلية: أسرار انتصارات أكتوبر وحروب الاستنزاف

كتاب "في قلب المعركة"
كتاب "في قلب المعركة"

فيما يشبه السيرة الذاتية يروى اللواء أركان حرب عبد المنعم خليل سيرة حياته «العسكرية الحافلة» فى كتابه «فى قلب المعركة» بقدر ما تحمل كلمة حياة حافلة من معان تحمل سيرته، وسيرة قواتنا المسلحة بطولات خلدها التاريخ، ويبدأ سيرته بالحرب العالمية الثانية، ثم بفظائع الاحتلال البريطاني بمنطقة القناة، فحريق القاهرة، فالإضرابات والمظاهرات، فحرب فلسطين، فثورة ٥٢، فالعدوان الثلاثى عام 1956، فالوحدة مع سوريا، فثورة اليمن، فقارعة صيف 1967، فنصر أكتوبر ورمضان المجيد..

كما يعد كتابه هذا شاهد إثبات حيا على تميز العسكرية المصرية، بما سجلت من سطور المجد والفخار، ومؤلف الكتاب من أكبر قادة التاريخ العسكري المصري الحديث. لما شاهده من أحداث بالغة الأثر فى داخل المسرح العسكري أو خارجه.

وقد استطاع - ببراعة واقتدار وأمانة - أن يسجل تلك الأحداث التى وقعت خلال الجولات الثلاث (48، 56، 1967) وما حدث بأمانة فى حرب اليمن. كما ألقى المؤلف الضوء بتركيزبالغ، وتحليل ثاقب على تفاصيل وملامح حرب أكتوبر المجيدة (الجولة الرابعة)، وساعده فى ذلك أنه تولى قيادة أحد جيوشها على جبهة قناة السويس.

ومن أهم وأخطر ما جاء بالكتاب رد الاعتبار لحرب الاستنزاف «حرب الإرهاق» (يوليو 1967-أغسطس 1970) وهى بحق المقدمة الحقيقية لنصر أكتوبر المجيد، وقد تضاربت الآراء حولها، وتعد من أطول حروب العرب مع إسرائيل إذ استغرقت 38 شهرًا بدأتها مصر تعبيرًا عن رفض هزيمة صيف 67، وتأكيدًا لعزمها على مواصلة النضال إلى أن تزول آثار العدوان الإسرائيلى ، وقد تميزت حرب الاستنزاف التى استمرت أكثر من ألف يوم بأنها أول صراع يدور على مسرح الشرق الأوسط ، بين قوات شبه متكافئة فيما تملكه من أسلحة ومعدات، وتواجهه من فرص قتال، وذلك على خلاف ما حدث فى الجولات الثلاث السابقة ، كما تميزت حرب الاستنزاف أيضا بتعدد حلبات الصراع ، وتنوع أشكاله من مجرد مناوشات محدودة إلى اشتباكات عنيفة، فمعارك ضارية، فكانت المرة الأولى التى أجبر العرب فيها إسرائيل على أن تقاتل فى  ميدان حرب، وكانت أول صراع مسلح يضطر فيه الإسرائيليون إلى الاحتفاظ بنسبة تعبئة عالية ولمدة طويلة.

وكانت حرب الاستنزاف ضرورة لا غنى عنها لمصر والعرب، ظهرت جدواها عصر السادس من أكتوبر 1973، وما تلاه من أيام، بينت الفارق الكبير بين مقاتل صيف 1967 ،ومقاتل خريف 1973، وكذلك بين قيادتها وأجهزة أركانها، والذى يعود أغلب أسبابه إلى الخبرة المكتسبة والدروس المستفادة من حرب الاستنزاف التى مهدت لها طريق النصر العظيم ، وقد شهدت صراعا محتدما بين الطائرة والصاروخ ، ووضع حدا للتفوق الجوى الذى انفردت به إسرائيل فى الجولات السابقة، كما شهدت أيضا مولد الحرب الإلكترونية المصرية التى يعود الفضل فى نشأتها إلى الفريق أول عبد المنعم رياض..

شهيد حرب الاستنزاف الغالي، والتى لم  تتم العام السادس من عمرها حتى شبت عن الطوق.. وإذ عبر خروج الإسرائيليين إلى الطرقات يوم 8 أغسطس 1970 لإظهار فرحتهم بوقف نيران الاستنزاف، وانتهاء «كابوس» خسائره التى ضاعفت من أعداد الجنازات اليومية التى تخترق شوارع المدن والقرى، فقد جاء خطاب الفريق «حاييم بارليف» لمرؤوسيه الذى ألقاه بمناسبة إحالته  إلى التقاعد تعبيرًا عن هذا الواقع بقوله:» إذا ما استؤنف إطلاق النيران مرة أخرى، فعليكم أن تختاروا مجالات عمل وأساليب قتال أكثر تطورا، وابتكارا عما اتخذناه نحن فى حرب الاستنزاف التى خضنا خلالها قتالا مريرا طويل الأمد ملطخا بالدماء، وذلك لأن ظروفا كثيرة قد طرأت على المسرح، نتيجة ما أكتسبه المقاتل المصرى من خبرات قتالية واسعة».

وفى التمهيد لحرب أكتوبر يشير المؤلف لذهنية القيادة الإسرائيلية  قائلا: فلم يمل صقور إسرائيل على امتداد السنين الست التى أعقبت جولة صيف 1967 من التأكيد بأن مجرد تفكير العرب فى خوض حرب جديدة يعتبر ضربًا من الخبل والحمق ،فمصادر المعلومات الإسرائيلية لا تخفى عليها خافية ،وقناة السويس تقف بين جنود مصر ،ورمال سيناء كمانع عريض وعميق ليس له نظير، والحائط الشاهق الذى إقامته القيادة الجنوبية الإسرائيلية على حافة القناة الشرقية، والذى يتجاوز عرضه عشرة أمتار، ويعلو فوق صفحة القناة ضعف ذلك ، وطائرات «الفانتوم» و «السكاى هوك» التى تسيدت سماء المسرح ،والدبابات التى أتقنت الحرب الخاطفة ، والمساندة الغربية المضمونة ، والتى أعلنت مرارا وتكرارا أنها لن تسمح لسلاحها أن يهزم فى المعركة ، تعتبر كلها محاذير ينبغى أن تدرك أخطارها أجهزة التخطيط العربية ، وهى ترسم شكل المعركة المقبلة ،إذا ما زين لها الحمق التورط  فيها..  ويؤكد المؤلف على سطحية تفكير وتدبير القيادة الإسرائيلية وموانعها المصطنعة فيذكر: إن هذا الحمق المزعوم تحول إلى عبقرية، تجلت فى خطة الهجوم عصر السادس من أكتوبر 1973، ثم فيما حققته جيوش العرب من انتصارات ثمانية، تعاقب الواحد منها تلو الآخر على امتداد الأيام الثمانية الأولى من الجولة الرابعة، وقبل أن ينجح جيش إسرائيل بمعاونة «البنتاجون» و«البيت الأبيض» الأمريكى فى انتزاع المبادأة.

ويذكر المؤلف قائلا :إن العالم لم يصدق نبأ أن العرب قد بدأوا القتال عصر ذلك اليوم ،بل ظل يتشكك فيما تدفق عليه من أخبار الانتصارات المذهلة حتى أن الجنرال الفرنسى «بوفر» صرح بأن: « نجاح العرب فى تحقيق المفاجأة فى مستهل الجولة الرابعة يعتبر أمرا مخالفا للمنطق «..وقال «هنرى كيسنجر» مستشار الأمن القومى الأمريكى لمعاونيه :» ان إسرائيل قد تلقت هزيمة استراتيجية ضخمة ، ولكن الولايات المتحدة لن تسمح لتلك الهزيمة أن تبلغ مداها «، وكان الحال فى إسرائيل أشد وأنكى حسبما دفع «جولدا مائير» رئيسة الوزراء إلى أن تشكو بالدموع بأن الأيام الأولى للحرب كانت أتعس ما مر بها من أوقات، ثم أعقبها الجنرال «موشيه ديان» وزير دفاعها باعترافه لها «إن كل شيء قد ضاع»، ثم محاولته الذهاب إلى محطة «التلفاز» ليطلع الشعب على  الموقف العصيب.

تبقى كلمة أخيرة عن حرب أكتوبر على الاقتصاد العالمى الذى هدده العرب بحروب البترول فى أزهى خططهم، التى جعلت منه سلاحًا اقتصاديًا عظيم الأثر فى محافل الغرب، كما أن ارتفاع أسعار البترول أحدث تغييرات عميقة فى البنيات الأساسية الاقتصادية بدول «الأوبك» بصفة خاصة، وفى الدول المنتجة للبترول على وجه العموم..

« ولأهمية هذا الكتاب وهذه المذكرات فقد صدرت منه العديد من الطبعات أولها عن المكتبة الأكاديمية ثم تبعتها طبعات عن دار الكرمة للنشر.