نبيل سليمان: عاجل وهام.. إلى خالد خليفة

خالد خليفة
خالد خليفة

خالد.. صديقى العزيز.. دعك من هذا المزاح بالله عليك لا تمزح هذه المزحة.

فى يوم الأحد 6 فبراير سنة 2000 مزح هانى الراهب مثل مزحتك، ورحل.. غاب.. مات. كتبت يومها ألومه على قسوة مزحته. وفيما كتبت هددتُ بوعلى ياسين الذى كان يغالب سرطان الرئة بعقاب أكبر إن كرر مزحة هاني. لكن بوعلى فعلها هو الآخر يوم الثلاثاء 18 نيسان/ ابريل سنة 2000 ورحل.. غاب.. مات. وها أنت تفعلها فى ثلاثاء آخر، فى 30 أيلول/ سبتمبر، وبدلاً من أن تكون معنا فى السهرة أسرعت إلى دمشق. وقبل أن يهدأ غضبنا من نقضك للميعاد، باغتنا منذر مصري. بما لا أزال لا أصدقه: رحل خالد.. غاب خالد.. مات خالد.. أية مزحة سمجة وغليظة هذه؟

هذه هى المرة الأولى التى أكتب فيها لك رسالة ورقية. منذ سنوات أصابنا وبأ المراسلات الالكترونية الذى بدأ يغزو الروايات (نكاية بي)، كما كنت تسبقنى إلى القول، وأسبقك إلى القول.

اقرأ ايضاً | خالد خليفة :حارس الحقيقة

عزيزي: أفردنا فى السهرة لك كرسياً، وانتصب أمامها كأسك المترع بياضاً حليبياً. حاولت أن أتأكد من كذبة منذر مصرى الذى كان يجأر، وهاتفت خليل صويلح: لا خبر، وهاتفت يعرب عيسى: خالد رمانا بمزحته. أصابنا الخروس إلى أن نشج أحمد راعى يتحدث عن مخطوطة روايتك الجديدة التى لن تراها مطبوعة، لم يفاجئنى أنك طلبت رأى صديقك وجارك فى شاليهات جمعية الدراسات، وهو المهندس، وليس بالقارئ الدؤوب للأدب. تلك كانت واحدة من كثير يجمعنا: أن نقدم مخطوطة الرواية لصديق أو صديقة من خارج دائرة الأدب والنقد والصحافة، بل والكتابة بعامة. تذكرت فى بحران الخروس لقاءنا الأول فى اللاذقية، عندما قدمت لى مخطوطة روايتك (دفاتر القرباط)، متذرعاً بقراءات من قرأها من قبل، من خارج تلك الدائرة التى وصفتها يومئذٍ مرةً بالمصمتة ومرةً بالحديدية.

لم أقل لأحمد راعى ولا لغيره: قرأت المخطوطة، كما لم أقل لأحد إننى قرأت المخطوطة الأولى لرواية (لا سكاكين فى مطابخ هذه المدينة). هل تذكر كم أغاظنى ما كانت تعجّ به من أخطاء إملائية ونحوية؟ لم تكن (دفاتر القرباط) كذلك، لأنها لم تكن المخطوطة الأولى.

ونشج أحمد: خالد قرر وهو يدرس الحقوق فى جامعة حلب أن يكون كاتباً. وكلما كان يتقدم على هذه الطريق كانت والدته ترجو أن يتدبر عملاً يطعمه: شو يعنى كاتب؟ لكن الفنان السورى الكبير سليم صبرى هاتف خالد مرة، فردّت والدته، وأنّى لها أن تصدق أن هذا الذى يملأ شاشة التليفزيون يهاتف ابنها (الأستاذ) خالد!

ولما دعا الكاتبُ الممثل / المخرج إلى بيته عاجلت الأم الضيف راجية أن يٌقنع ابنها بالبحث عن عمل يطعمه: شو يعنى كاتب؟ لكن الضيف فاجأ الوالدة: نحن نرجو ابنك أن يكتب، والكتابة للتليفزيون تدرّ الملايين.

خالد: بينما كان صديقك وجارك ينشج، امتلأت عيناى بصورة لك مع الوالدة، كنت قد صادفتها فى موقع (حكاية ما انحكت) فى يوم من شباط /فبراير 2021، والصورة مؤرخة بعام 1979، عندما كان هذا الذى شاب شعره وشابت لحيته شاباً غريراً. وقبل أن أغفو عدت إلى الموقع، وإلى الصورة، وقرأت فى عدد 2/9/2023 لديمة معراوى عن (الهجرة القسرية الداخلية فى سوريا قبل وبعد الزلزال).

لكى أنسى مزحتك قادنى التخبط بين المواقع إلى (العربى الجديد) فى 13/2/2023 وقرأت لأنس أزرق تحت عنوان (الزلزلة الكبرى) أن أسماء الثورة السورية تعددت، من الحرب الأهلية والمحنة والأزمة والثورة المغدورة، وأن قلة قليلة نادت بالزلزال السوري. وقرأت: «لم يكن ليدور بخلد أكثر المتشائمين أن ما أعتقد أنه سينتهى بسبع سنوات عجاف أو عشرية سوداء، سيمتد أكثر من ذلك، وسيتوج بزلزال جغرافى يكمل الزلزال السياسى الاجتماعى الكارثى الذى أصاب جسد سورية وروحها، حتى وصل بعضهم بالاستنتاج بأن سورية جثة تنتظر من يدفنها». ويختم أنس أزرق ما كتبه بقوله: «بعد الزلزلة دائماً تأتى القيامة، وعسى أن تكون قيامة سورية من زلزلتها قريبة».

هممت بإعداد هذه السطور لأرسلها لك بالواتس لكننى توقفت، ليس لأن منذر مصرى جأر ولا لأن أحمد راعى نشج، ليس لأنك مزحت وغبت أو رحلت أو.. بل لأننى رأيتك تبتسم وتقول: لا تتلهّ بالصغائر. لا تنشغل بشتائم فلان وتخرصات علّان. تلك كانت عبارتك عندما قرأت مقالتى (رسالة فى الثورة والزلزال). لكن جعير الكاتب (العفلط العفلق) عاد يا صديقي، مرةً وهو يلغو بالحروب فى الروايات، ومرة وهو يلغو بانتفاضة السويداء. لذلك سأرميه يوماً بالروايات العربية التى استخدمت كلمة الزلزال كما استخدمتُها وسأنتظر بشوق أن تعيد نصيحتك التى كانت غالباً جداً شعاراً لى من قبل أن نلتقى منذ المعارك الثقافية فى سبعينات القرن الماضي: هل قلتُ لك ذلك؟

 يلحّ عليّ يا صديقى أن أحدثك عن هذه الأيام المعدودة التى تغللت بصمتك. ففى الخميس 5/10/2023، أى بعد مزحتك بخمسة أيام، ضربت طائرة مسيّرة الكلية الحربية فى حمص أثناء الاحتفال بتخريج دفعة جديدة من الضباط، فقتل أكثر من مائة من الخريجين ومن حضر من ذويّهم الاحتفال بهم. وكما تعلم، هى الكلية التى خرّجت أغلب الضباط الذين حكموا سورية منذ الانقلاب العسكرى الأول، انقلاب حسنى الزعيم فى 31/3/1949، حتى اليوم. حركة جديدة، لحظة جديدة، من حركات ولحظات خرابنا العميم. أما الأهم يا خالد فهو الزلزال الأكبر الذى ضرب إسرائيل بعد سبعة أيام بلياليها من رحيلك أو غيابك أو مزاحك.

ما لا يصدق فعلته حماس والجهاد، وها هو توماس فريدمان، وما أدراك من وما هو توماس فريدمان يكتب فى اليوم الذى تلا الزلزال، وفى نيويورك تايمز، تحت عنوان (أسوأ يوم حرب فى تاريخ إسرائيل)، وعلى ذمة المترجم يقول فريدمان: «أراقب كيف سيهزّ زلزال حماس إسرائيل ومنطقة أخرى». وقد جاء فى ترجمة المقال القول مرة: الغزو الحمساوى، ومرة: الهجوم الحمساوي، ومرة: زلزال حماس، وهذا درس آخر للكاتب العفلق العفلط فى المجاز والبيان واللغة. لكنّه ممّن أعماهم الحقد المجبول بالنرجسية والنفاق والكذب، فهم قوم لا يفقهون ولا يعقلون.

 بعد حرب 6 تشرين الأول / أكتوبر 1973 المنسية، هى ذى حرب 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وإذا كانت تلك الحرب التى زلزلت إسرائيل أيضاً قبل أن يُجْهض انتصارها، قد بهتت ذكراها بعد خمسين سنة، فماذا سيبقى من حرب اليوم بعد خمسين سنة؟

للتو يا صديقى كتبت أن الأغلب الغالب من الروايات التى كُتبت عن الحرب 1973 قد صارت نسيا منسياً. كما جددت السؤال عما جعل كبار الكتّاب فى مصر يعزفون عن كتابة رواية عن حرب 1973، من نجيب محفوظ ويحيى حقى إلى توفيق الحكيم ويوسف إدريس، ومن أيضاً؟ الآن الانتصار أجهض أم ماذا؟ وما يبدو اليوم فى زلزال حماس انتصار، هل سيُجهض؟ ومن سيكتب عنه، وماذا؟

يا خالد: دعك من كل هذا، وخلّنا فى الأهم: ها نحن معاً فى مؤتمر للرواية فى جامعة دمشق قبل ربع قرن، بل نحن معاً فى إستوريل فى القاهرة وهذا سيّد محمود وهذه فاطمة البودي، ومن كان أيضاً؟ ها نحن يا خالد معاً فى قرية البودي، وأنتَ تقود جحفلاً/فريقاً تليفزيونياً، وهذه هى شاليهات جمعية الدراسات، وهذا هو الشاليه الذى اشتريته بملايين أى مسلسل تليفزيوني؟ قل لى حتى أطمئن سيدتنا الوالدة بأن الكتابة عمل شاق، كما هى مزحتك عمل شاق، وكما هو الموت عملٌ شاق، مثلما نشج أحمد راعى وهو يروى أنك حدّثته عن شرارة رواية (الموت عمل شاق) كيف قدحت.

قال إنك عندما داهمتك الأزمة القلبية الأولى فكرت فى أنك إذا ما عاجلك الموت، فسوف يحملك ذووك فى سيارة لتنقلك إلى حيث ترغب أن يكون مثواك، بعيداً فى الشمال. نجوت من الأزمة وأنعمت علينا بالرواية. استمعتُ إلى أحمد كأنك لم تحدّثنى عن تلك الشرارة.

وددت أن أقول له إنك حدثت كثيرين وكثيرات سواه وسواي. لكنى لم أبرأ من داء الخروس تلك الليلة، ولم يزل يعاودنى كلما سمعت ضحكتك أو نداءك، وكلما هلّ هلالك.