يوميات الأخبار

٦ رسائل لأحفادى فى «ذهبية» ٦ أكتوبر

علاء عبد الوهاب
علاء عبد الوهاب

اقرأوا التاريخ بعقول واعية، وبصيرة ثاقبة، حتى يكون عوناً فى مواجهة الخيارات المصيرية، تماماً كما كان نهج أجدادكم الذين صنعوا النصر.

لأنها ذكرى عظيمة، بل هى دون مبالغة تحتل المكانة الأعظم فى تاريخنا المعاصر، فإن ذكريات يوم السادس من أكتوبر ٧٣ لا تُنسى ولا تنضب، بل تحيا فى خلايانا، فى القلوب والعقول والضمائر، من ثم يجب أن تتوارث دروسها وعبرها الأجيال، شأن كل الانتصارات العظيمة التى حفرها المصريون فى سجلات التاريخ ورووها بدمائهم على مر العصور.

فى العيد الذهبى، أو الذكرى الخمسين لانتصار أكتوبر، خطر لى أن أوجه رسائل لأحفادى وجيلهم، ففى يوم ٦ أكتوبر كان عمرى يقترب من عمر أكبر أحفادى، مما يعنى أنه وُلد بعد نحو خمسة عقود تفصله عن هذا اليوم، وأعتقد أن على جيل الأجداد ألا يكتفى بالحكى، لكن أن يسجل ما يستطيع من ذكريات ودروس مستفادة، ليحتفظ بها الأحفاد، ويمكنهم أن يعودوا إليها كلما أرادوا.

فى هذه السطور أُقدِّم لأحفادى ٦ رسائل أتمنى أن تظل بين أوراقهم، يعودوا لقراءتها حينما يتعمد أحد أن يقلل من شأن عظمة أكتوبر، أو حين يسألهم أبناؤهم يوماً عن هذا الحدث المجيد.

الرسالة الأولى: التحدى والاستجابة

كانت نكسة ٦٧ بمثابة تحدٍ عنيف للمصريين شعباً وجيشاً وقيادة، ولكن رغم عنفه، لم يحطم روح مصر، بل استثار إرادتها وطاقاتها المبدعة.

من ثم كانت الاستجابة على قدر التحدى، بل اشتبكت معه، وحفزت روح الثأر والقصاص، ورفض الانكسار اللحظى، أو الارتداد للماضى، وكان الخيار واضحاً لا لبس فيه: الوعى بطبيعة التحدى وأبعاده، والسعى دون هوادة بعد امتصاص الصدمة، لمواجهة إيجابية مع الواقع، ثم القبض بقوة على آليات تجاوزه، والتقدم نحو المستقبل بامتلاك مفاتيحه وأساليب التعامل الصحيح معه.

رفضنا الاستسلام للنكسة وتوابعها من يأس وحزن، وبدأت رحلة إعادة البناء للذات، وبناء جيش قادر على المواجهة الحاسمة، وفق أساس صحيح وسليم، فتلك وحدها الاستجابة الناجحة التى تستنسل سلسلة من الاستجابات أشبه بالمتوالية فى التفاعل النووى.!

من هنا كانت البداية المبكرة.

الرسالة الثانية: حرب الألف يوم

لم تتأخر تجليات الاستجابة للتحدى، فبعد ثلاثة أسابيع من يوم النكسة اندلعت حرب الألف يوم، صموداً، وردعاً، واستنزافاً، لتعيد الثقة للجيش فى قدراته، وللشعب فى جيشه وقيادته.

كانت البداية فى أول يوليو ٦٧ فى رأس العش، تتقدم قوة مدرعة إسرائيلية نحو موقع يضم ٣٠ مقاتلاً من الصاعقة المصرية، فيتصدون لها فى معركة شرسة، وفى اليوم التالى يكرر العدو المحاولة لتبوء أيضاً بفشل ذريع، ليفيق الصهاينة على صدمة هائلة، إذ إن أداء المقاتل المصرى ترجم معدنه الحقيقى.

ولم تكن رأس العش سوى البداية لمرحلة الصمود التى أعقبتها مرحلة الردع أو الدفاع النشط، ثم مرحلة الاستنزاف، وعبر ألف يوم تم تلقين العدو دروساً وخسائر ضخمة، إلى الحد الذى اعتبرها الجولة الرابعة فى الصراع العربى الصهيونى، بل هى الجولة الأطول على مدى تاريخه.

ما يؤكد روعة الاستجابة ونجاعتها اعتراف إسرائيل بخسارتها نحو ٢٧٥٧ جندياً بين قتيل وجريح، بخلاف الأسرى الذين عادت بهم القوات الخاصة والطيارين الذين تم أسرهم عقب سقوط طائراتهم المغيرة على العمق المصرى.

هكذا بدأت زلزلة أسس نظرية الأمن الصهيونى، وسلبت حرب الاستنزاف الإحساس الإسرائيلى بالغرور، والمغالاة فى تقدير نتيجة حرب ٦٧.

الرسالة الثالثة: بعد أن صمتت المدافع

اعترف الكيان الصهيونى بأن حرب الاستنزاف خلقت موقفاً مغايراً تماماً، فكان وقف إطلاق النار بمبادرة أمريكية، ولم يكن صمت المدافع سوى البداية للإعداد والاستعداد للمعركة الكبرى، فما أُخذ بالقوة، لا يُسترد بغير القوة، ولم يكن ذلك مجرد شعار يتردد، وإنما أفعال وحقائق، ولم تكن حرب الألف يوم إلا بروڤة طويلة، لتجهيز القوات المسلحة، وتدريب الجندى المصرى على الواجبات القتالية حين تأتى لحظة العبور والاقتحام.

ألف يوم أخرى من التدريبات الشاقة، والمناورات القاسية.

لم يهدأ الرجال «السُمر الشداد» ساعة، تجهيزاً لمسرح العمليات المرتقبة، وقهراً للكم الهائل من المشاكل والصعوبات والعقبات التى كانت تحف بتنفيذ قرار الحرب، الذى لم يكن ينتظر سوى الظرف المواتى ليس إلا، ولن يتأتى إلا بالتخطيط العلمى، فلا مجال للرهان على ضربة حظ، أو فرصة عابرة، أو مقامرة على مصير الوطن.

لم تدخر القيادة جهداً فى التوعية المتواصلة بمشروعية القتال من أجل تحرير الأرض المحتلة، وترسيخ ثقة المقاتل فى سلاحه، ومواصلة الليل بالنهار فى عمليات التدريب القتالى الواقعى على مهام «طبق الأصل» من المهام القتالية، عندما تحين ساعة الصفر.

بالتوازى مع ذلك، كانت ثمة معركة تتم بهدوء وأعصاب باردة؛ وفق خطة محكمة ودقيقة، كانت تتوالى إجراءات الخداع الاستراتيچى الذى حقق المفاجأة المدوية.

الرسالة الرابعة: اقتحام الأسود

الساعة ١٤٠٥، أو الثانية وخمس دقائق بعد ظهر السادس من أكتوبر.

لحظة فارقة فى عمر الوطن، وكل مصرى وعربى، لن ينساها من شهدها، ولا يجب أن تغيب عن ذاكرة جميع الأجيال التى ولدت بعدها.

«الله أكبر.. الله أكبر» صيحة نافست صوت الطائرات المحلقة نحو سيناء، ودوى القصف المدفعى لألفى مدفع بطول الجبهة، لقد كان زئير الرجال أشد وأقوى.

قُل: «طوفان»، قُل: «زلزال»، قُل: «اقتحام»، قُل: «ملحمة»، قُل: «معجزة»......

اختر ما شئت من أوصاف، أو ادمجها إن أردت.

أخيراً دارت عجلة التاريخ فى الاتجاه الصحيح، حين اقتحم الأسود المستحيل: أكبر مانع مائى فى التاريخ، أعلى ساتر ترابى، أكثر الخطوط الدفاعية تحصيناً وتسليحاً.

صعاب ومشاق ومخاطر اقتحمها المقاتل المصرى البطل كماً وكيفاً، براً وجواً وبحراً.

اقتحام أسطورى أسقط القناع الزائف لصلف العدو وغروره دون رجعة.

لا أروع من مشاهد الأسرى بالمئات، وأنباء توغل جنودنا بعرض سيناء، ليفقدوا العدو توازنه تماماً.

مشاهد تظل محفورة فى الذاكرة، وتتوارثها الأجيال، وتفخر بها إلى يوم تقوم الساعة.

شهدت أرض سيناء المُحررة بطولات بلا حصر، بعد اقتحام كل الموانع بالنار والدم، و«مدافع المياه» التى أثبتت أن العقل المصرى خلاق، وأن من ظنوا أنهم يحاولون تعجيزنا بأننا لا نمتلك القنبلة الذرية القادرة وحدها على قهر الموانع، لا يعرفون ما يمتلك المصرى من قدرة وإرادة على الإبداع والفعل.
لقد اقتحمنا المستحيلات.

الرسالة الخامسة: اقتناص أسير!

١٤ أكتوبر يحتل مكانة خاصة فى النفس والذاكرة.

فى هذا اليوم اقتسمت والكثيرون فى مثل عمرى، ومن هم أكبر منى، وربما أصغر، أمنية اقتناص طيار إسرائيلى، سرت أقوال إنه حين أصيبت طائرته، فر بها من سماء المنصورة، واقترب من الحقول المتاخمة لمدينتى ميت غمر.

أطول معركة جوية فى التاريخ، مدتها ٥٣ دقيقة، شهدتها سماء الدلتا، وكانت حصيلة خسائر العدو ١٧ طائرة، بعد أن انقضت الطائرات المصرية على طائرت العدو، ففر من فر، بينما سقط البعض بطائرته، أو قفز بالمظلة، وكان مصيره الأسر.

المهم أن انتشار خبر «الأسير المحتمل» عبر الهواتف الأرضية حينئذ، أو بالتواصل المباشر بين الجيران والأصدقاء، دفع العديد منا للسير فى كل اتجاه ليظفر باقتناص هذا الطيار.

ورغم كل الغيظ والغضب المكبوت لسنوات، كان الجميع لا يفكر فى إيذاء الطيار الإسرائيلى إن تمكن منه، كانت النوايا تتجه إلى الالتزام بما جاء فى بيان للداخلية بتسليم من يقع تحت يده طيار إسرائيلى لأقرب منشأة شرطية أو عسكرية.

المهم أن ننال شرف الإمساك به، لأن فى ذلك أداء لخدمة جليلة للوطن، وتحقيق مصلحة عُليا فى هذه المرحلة الدقيقة.

العديد منا تذكر أسيراً عزيزاً على قلبه، يقبع فى زنازين العدو منذ النكسة، وآن وقت تحريره وعودته لحضن الوطن، بعد مبادلته بمن بين أيدينا من أسرى.
ثم إن أخلاقنا وقيمنا تمنعنا من الإساءة لمن لا حول له ولا قوة، وعندما استمعنا من أسرانا إلى معاناتهم خلال سنوات ارتهانهم هناك، لم يداخلنا أى شعور بالندم على ما فكرنا فيه من استبعاد أى نزوع انتقامى إن ظفرنا بأسير، لأن هذا ما حضَّنا عليه ديننا.

ولعل أروع ما تمخضت عنه هذه المعركة الجوية، بالطبع بخلاف نتائجها المبهرة، أن اليوم الذى وقعت فيه أصبح عيداً للقوات الجوية.

كان لسماء محافظتى شرف ميلاد عيد الطيران، بالمقابل سقطت أسطورة الذراع الطويلة لسلاح الجو الصهيونى.

الرسالة السادسة: النموذج والبوصلة

الأمم الحية لا تتعرف على تاريخها إلا إذا قرأته ثم استخلصت دروسه وَعِبَرهُ.

قراءة التاريخ لا تكون بهدف الاستمتاع بحكاياته، وإنما لإدراك كيف يُصنع.

ثم إن قراءة التاريخ ـ كذلك ـ قد تستدعى الفخر دون شك، لكن الأهم أن تكون مصدراً للإلهام، عبر الوعى بتجاربه، واستيعاب القوانين التى تحركه.
هكذا يكون ترسيخ الانتماء والشعور الوطنى، والاحتفاء على نحو مثمر بأكثر اللحظات المضيئة فى تاريخنا المعاصر.

فى كل كتب التاريخ التى يدرسها الاحفاد لابد من تقديم ما حدث فى أكتوبر ٧٣ بتوسع وعمق، وفق رؤية علمية، تحصن الأجيال القادمة من أى افتراءات أو أكاذيب أو مزايدات، إنه حقكم.

هذا أهم السُّبُل التى تضمن للأحفاد، والأجيال التى تنتج من أصلابهم تطبيق نتائج نصر أكتوبر، واستثمار دروسه فى حفز الطاقات والهمم، فى بناء المستقبل، لأن تاريخ الأمم حلقات متداخلة متتابعة.

فى مواجهة موجات العدمية والسلبية واللامبالاة التى يتم تصديرها، فإن الكشف عن المعدن الحضارى الأصيل للمصريين، يكون بتسليط الضوء على ما يُنقى الوجدان، ويوقظ العقول، وأكتوبر ٧٣ له دور حاسم فى هذا السياق، من ثم لابد من تذكره والتذكير به للتعلم، لا للمباهاة.

«نكون أو لا نكون».. هكذا تمت صياغة الاستجابة التى تناسلت منها استجابات عديدة، فى مواجهة التحدى، وعليكم تبنى هذه المقولة كإطار للحركة، ورسم ملامح المستقبل، ومن أكتوبر ٧٣ نستقى النموذج، ونتبع البوصلة.

حين نستدعى اللحظة الأعظم فى تاريخنا المعاصر، فإنه بالتبعية لابد أن نتذكر العديد من القيم التى ساهمت فى صياغة تلك اللحظة؛ إنها منظومة متكاملة من القيم: العلم، العمل، الأمل، التفكير، النظام، الوقت،....، ....، كان الالتزام بها وتفعيلها، وصهرها فى بوتقة واحدة، شرط وضمان للإنجاز فى الحرب، كما فى السلم.

اقرأوا التاريخ بعقول واعية، وبصيرة ثاقبة، حتى يكون عوناً فى مواجهة الخيارات المصيرية، تماماً كما كان نهج أجدادكم الذين صنعوا النصر.