محمود الوردانى يكتب: كلمات قليلة حول شاعر كبير (2-2 )

محمود الوردانى
محمود الوردانى

أواصل هنا ماسبق أن بدأته الأسبوع الماضى عن تجربة الشاعر عزت عامر ورحلته مع قصيدة النثر.

كانت السنوات الثلاث بين 1973 و1976 مرحلة جديدة فى شعره من ناحية، وارتباطه بالأجيال الغاضبة من الكتاب والفنانين الذين كانوا يخوضون معاركهم الطاحنة من أجل انتزاع استقلالهم من ناحية أخرى. أما عام 1976 فقد شهد دخوله معركة انتخابات مجلس الشعب فى حى مصر القديمة.

قدّم عزت تجربة نموذجية دون أن يكون فى حوزته تمويلات من أى نوع، وتحولت المقاهى والميادين والساحات إلى أماكن للخطابة والمؤتمرات والنقاشات، كما احتشدت الشوارع والحوارى بالمظاهرات والمسيرات التى رفعت الشعارات الجذرية ضد أى حلول منفردة مع العدو الإسرائيلي، إلى جانب المطالب الاجتماعية والاقتصادية الأخرى التى  التف حولها الآلاف من أبناء الحى. لهذا السبب تحديدا فيما أظن، أى بسبب ماجرى فى المعركة الانتخابية، وفور اندلاع مظاهرات ١٩١٨ يناير 1977 سارعت أجهزة الأمن بتقديمه باعتباره المتهم الأول فى القضية 100 حصر أمن دولة عليا.

وعندما خرج من السجن وجد نفسه مفصولا من عمله، وأمضى عدة أشهر يبحث عن عمل، واضطر للعمل فى استقبال مركز خدمة سيارات من الثامنة صباحا وحتى السادسة مساء. وعلى مدى عشر سنوات عاش فى هذه الطاحونة، التى لم يخفف منها إلا صيد السمك فى أيام الأجازات، وكان الصيد بالنسبة له محاولة للنجاة من الاكتئاب.

وفى ثمانينيات القرن الماضى عاد إلى الشعر وأصدر ديوان «الحجر الصغير» الذى كتبه فى أعقاب انتفاضة الحجارة الفلسطينية، أما الأهم فى رأيى فهو إصداره لواحدة من أجمل المجموعات القصصية وأكثرها إيلاما وتجريبا وهى«الجانب الآخر من النهر» عن هيئة الكتاب. وصل عزت فى هذه المجموعة إلى ذرى غير مسبوقة فى تحويل الكوابيس إلى قصائد قصصية موجعة شفافة.

المرحلة التالية هى تحوله للصحافة العلمية والترجمة، وبالمصادفة أتيحت له فرصة العمل فى جريدة الاقتصادية السعودية، وأمضى عشر سنوات فى الرياض مسئولا عن عدة أبواب فى الجريدة، وأتيح له أن يسافر إلى عدد من العواصم الأوربية، واستعاد علاقته باللغة الفرنسية..

فى تلك الفترة تحديدا قرأ للمرة الأولى«المثنوى» لجلال الدين الرومى فعكف عليه. استلبه الكتاب وانتهى به الأمر إلى التصوف لعدة سنوات أخرى، كتب ونشر خلالها كتابه «شاهد ومشهود» عن دار العين عام 2011.

وأخيرا أنهى عمله فى الرياض وعاد إلى القاهرة. لم يجد ملاذه فيما يبدو فى الطريقة الصوفية التى كان قد انتمى إليها، فانفض عنها وعن التصوف، وطفق يبحث عن مرفأ جديد. وبعد ثورة يناير انضم إلى حزب يسارى كان قد تأسس فى أعقاب الثورة، وإن كان قد لفظ أنفاسه بعد وقت قصير، وهو حزب العمال والفلاحين.

محطة عزت عامر الأخيرة هى الترجمة، وخلال عدة سنوات كان قد ترجم نحو 20 كتابا علميا نشرت جميعها فى عدة دور نشر، وفى الوقت نفسه ترأس تحرير المجلة الفصلية «العلم والحياة» التى تصدرها هيئة الكتاب.

تلك هى الخطوط العريضة والمحطات الرئيسية للرحلة الشاقة والمدهشة لعزت عامر من رؤيا يوحنا المعمدان فى ديوانه الأول "مدخل إلى الحدائق الطاغورية" وانتهاءً بتفرغه للترجمة العلمية..

أليست رحلة مدهشة حقا!!