التأمين والتنمية.. الحدود الشرقية المصرية والتحديات المتزايدة

جهود القوات المسلحة فى تطهير سيناء من الإرهاب
جهود القوات المسلحة فى تطهير سيناء من الإرهاب

كتب: محمد منصور

شكلت الحدود الشرقية لمصر دومًا مسارًا تاريخيًا لمحاولات غزو الأراضي المصرية فى مختلف العصور، لذا فاقت أهمية هذه الحدود على المستوى الاستراتيجى الاتجاهات الرئيسة الأخرى للدولة المصرية، سواء جنوبًا أو غربًا أو شمالًا.

الجانب النوعى فى طبيعة هذه الحدود لا يكمن فقط فى أنها كانت مسرحًا لجولات عديدة من المواجهات العسكرية التقليدية، كان آخرها حرب أكتوبر عام 1973، التى كان من أبرز نتائجها انسحاب الجيش الإسرائيلى بشكل كامل إلى خط الحدود الدولية بين مصر وفلسطين المحتلة، بل يكمن أيضًا فى أنها مثلت - حتى وقت قريب - مسارات للتهريب، استخدمتها التنظيمات التكفيرية لمحاولة فرض أمر واقع فى مدن شمال سيناء.

وجود العناصر التكفيرية فى نطاق الحدود بين قطاع غزة ومصر ووجود ارتباطات وثيقة لهم ببعض الأطراف ذات نفس التوجه داخل القطاع كان بمثابة التحدى الأمنى الأكبر الذى واجه الدولة المصرية منذ بداية الألفية الحالية، وهو ما ظهرت نتائجه خلال السنوات السابقة لأحداث 25 يناير، عبر عدة عمليات إرهابية شهدتها مدن سيناء، مثل تفجيرات طابا عام 2004، وهو تحدٍ اُضيف له فى يونيو عام 2007 تحدٍ آخر يتمثل بسيطرة حركة حماس على قطاع غزة وما تبعها من عملية اقتحام آلاف الفلسطينيين للحدود المصرية فى يناير 2008، وهو ما مثل فى مجمله تهديدًا للأمن القومى المصرى من جهة، ومن جهة أخرى كان بمثابة طرح جديد لاحتمالية «توطين» الفلسطينيين فى دول أخرى، وهو ما يعنى بالضرورة إلغاء أحد أهم الثوابت العربية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، ألا وهو «حق العودة».

 التحدى الأمنى والميداني 

اتخذ هذا التحدى شكلًا أكثر خطورة فى يناير 2011، حين اتضح أن مجموعة من الأطراف الداخلية والخارجية تتقدمها جماعة الإخوان الإرهابية وتنظيمات تكفيرية عاملة فى فلسطين أو لها وجود فى شمال سيناء قد شرعت فى تنفيذ ما يعرف بـ «خطة اقتحام الحدود الشرقية»، الذى تضمن تنفيذ عدد من العمليات التخريبية انطلاقًا من الحدود المصرية مع قطاع غزة، حيث دخلت أعداد من المسلحين تقدر بأكثر من 800 فرد إلى الأراضى المصرية فى شكل مجموعات تستقل سيارات دفع رباعى.

انقسمت هذه المجموعات إلى مجموعتين: المجموعة الأولى اتجهت إلى الطريق الأوسط بسيناء بهدف الانتقال إلى محافظة الإسماعيلية ثم القاهرة لتنفيذ عمليات اقتحام السجون، فى حين قامت المجموعة الثانية بالهجوم على جميع الأكمنة الأمنية المصرية، بداية من رفح وحتى العريش، وضربت كل تجمعات الأمن المركزى فى رفح وقسم شرطة الشيخ زويد، فضلًا عن مهاجمة معسكر الأحراش الذى تعرض لهجوم متواصل كونه آخر موقع أمنى مصرى يرفع العلم المصرى فى رفح، بالإضافة إلى تفجير محطة ضخ الغاز وخط الغاز المتجه إلى الأردن، ومهاجمة كل المرافق الأمنية والحكومية فى نطاق شمالى سيناء.

كان التفكير المصرى فى البداية منصبًا على حل معضلة أنفاق التهريب الموجودة على حدودها الشرقية، وهى المعضلة التى تفاقمت بشكل أكبر فى خضم الفوضى الأمنية التى شهدتها سيناء بعد 25 يناير 2011، مع ظهور تنظيمات «السلفية الجهادية» فى سيناء واتصالها مع نظيراتها على الجانب الفلسطينى. 

إجمالًا يمكن القول إن هناك ثلاثة عوامل أساسية دفعت مصر إلى التفكير بمنظور مختلف مع معضلة الحدود وهى، أولًا: أنه كان هناك مشروع استراتيجى فى مصر بعد 30 يونيو يقوم على إعادة الاعتبار لـ «الدولة» التى تعرضت لهزة عنيفة ولا يمكن ترك الحدود على النحو الذى يشكل أحد روافد هذه التهديدات. وثانيًا: أن التهديد الذى تحملت الدولة أعباءه من قبل لاعتبارات تتعلق بمواقفها المبدئية من القضية الفلسطينية بحاجة إلى إعادة النظر فيه، لاسيما العبء الأمنى. وثالثًا: وربما هو الأهم تحول التهديد إلى خطر فى ظل مشاهد غير تقليدية فى الإقليم عندما اجتاح تنظيم داعش الإرهابى الحدود السورية ـ العراقية؛ إذ لا يمكن القبول بتكرار هذا المشهد فى مصر حتى وإن بدا بصورة مختلفة. ورابعًا: أن تداعيات الإشكالية المزمنة فى الحدود الشرقية بدأت تتحول إلى منظومة من التهديدات فى ظل انهيار الأوضاع فى ليبيا وتنامى عمليات التهريب (الأسلحة ـ العناصر الإرهابية) إلى جريمة منظمة مع وصول تنظيم داعش إلى ليبيا.

خطورة ما حدث عام 2011 فى شمال سيناء والتداعيات الأمنية الكبيرة التى شهدتها مصر خلال السنوات التالية نتيجة لها دفعت القاهرة إلى التفكير فى خطة لتنفيذ «منطقة عازلة»، فى نطاق شرقى مدينة رفح بشمال شرق سيناء؛ بهدف إنهاء خطر «أنفاق التهريب» الذى تفاقم بشكل كبير خلال مرحلة ما قبل عام 2011، وكان وسيلة أساسية فى تنفيذ عملية اقتحام الحدود المصرية. المحرك الأساسى الذى دفع مصر إلى تفعيل هذه الخطة كان الهجوم الإرهابى المزدوج المعروف إعلاميًا باسم «هجوم كرم القواديس»، الذى شنته جماعة أنصار بيت المقدس الموالية لتنظيم داعش فى أكتوبر 2014، على تمركزات أمنية وعسكرية مصرية فى مدينتى الشيخ زويد والعريش.

لذا كان التعامل مع ملف المنطقة الحدودية الشرقية أساسيًا فى إيجاد حل جذرى للأنشطة الإرهابية الموجودة فى نطاق شمال سيناء، وقد أوجدت الدولة المصرية لهذا الملف حلًا جذريًا يرتبط بإخلاء الشريط الحدودى بشكل منظم من أى وجود سكنى يمكن أن يستغل لحفر أنفاق جديدة، وكان الحرص هنا أن تكون هذه المنطقة هى منطقة «تأمين» لا تسمح بإعادة إنتاج التهديدات التى كانت قائمة مرة أخرى، فلم يتم إخلاء النطاق الإدارى لمدينة رفح الحدودية، بل أعيد بناء مدينة رفح الجديدة داخل نفس النطاق الإدارى على بعد بضعة كيلومترات من الحدود.

وقد تضمنت هذه الخطة عددًا من الأبعاد منها، الإعلان بشكل واضح وعلنى عن الدوافع والأسباب الداعية لاتخاذ هذه الخطوة، لاعتبارات تتعلق بعملية مكافحة الإرهاب وأنشطة التهريب والفوضى والعشوائية الشاملة، وصعوبة إعادة تأهيل المنطقة وفق وضعها الذى كانت عليه. وكذا تم الإعلان عن ضوابط عملية الإخلاء والدور الذى ستقدمه سلطات الإدارة المحلية فى هذا الصدد للسكان، والقيام بعمليات حصر المباني والسكان الذين سيتم إجلاؤهم من المنطقة.

 كانت عملية إغلاق الأنفاق تقتضى تدمير ما يقارب 4 آلاف منزل لهدم شبكات الأنفاق، وفى ظل حالة العشوائية التى سيطرت على عملية بناء هذه المنازل كان من الصعوبة بمكان أن تعيد الدولة بناء هذه المنازل على وضعها السابق من العشوائية والفوضى، وكان الأصعب أن تمدد عمليات التطوير لتشمل البنية التحتية المتطورة من شبكات المياه والصرف وشبكات الكهرباء والمدارس والمستشفيات والملاعب الرياضية والنوادى الاجتماعية، وبالتالى تطلب الأمر عملية تخطيط نموذجى جديد بالكامل، يراعى أبعاد التنمية الشاملة ويوفر حياة كريمة للمواطنين.. وبشكل منظم، وُضعت ضوابط أيضًا لعملية التعويض لمن يتم نقلهم وتخييرهم بين العودة إلى المدينة الجديدة أو البقاء فى مناطق أخرى، ووضعت طرق عديدة لإثبات ذلك عبر ممثلين للمجتمع المدنى السيناوى وسلطات الإدارة المحلية تشمل جميع قاطنى رفح القديمة من ملاك تلك المنازل.

الحل الناجع لملف المنطقة الحدودية أسهم بشكل أساسى فى إيجاد حيز كاف للقوات العسكرية والأمنية كى تبدأ منذ عام 2014 فى سلسلة من العمليات العسكرية الرامية لتطهير شمالى سيناء من أية أنشطة إرهابية، بداية من عملية «حق الشهيد»، التى نفذتها القوات المسلحة فى سبتمبر 2015، للقضاء على العناصر الإرهابية فى مجموعة مناطق بمحافظة شمال سيناء، واستمرت حتى عام 2017، مرورًا بالعملية الشاملة «سيناء 2018»، التى تمت على عدة مراحل انطلاقًا من المقاربة المصرية الشاملة لمكافحة الإرهاب على كافة المحاور والمستويات، وسجلت خلالها منظومة الأمن المصرى من القوات المسلحة والشرطة المصرية نجاحات أمنية يومية ضد الإرهاب.

 الجانب التنموي 

المحور الثانى فى المقاربة المصرية لأمن حدودها الشمالية كان التنمية؛ فبانتهاء الخطر الإرهابى فى شمالى سيناء، باتت التنمية والإعمار هما خط الدفاع الأول عن هذه المنطقة.
وقد كانت نقطة انطلاق الخطة الشاملة لتنمية سيناء عبر القرار الجمهورى رقم 107، الصادر فى 25 فبراير 2018، الذى رصد موازنة تاريخية تقدر بـ 600 مليار جنيه، لتنفيذ 994 مشروعًا تنمويًا فى سيناء، تم إنجاز القدر الأكبر منها على أرض الواقع، وأغلبها يعد مشروعات قومية لاسيما ما يتعلق منها بمشروعات البنية التحتية والمشروعات الاقتصادية والخدمية التى تشمل الصحة والتعليم فى المقام الأول، بالإضافة إلى المشروعات الاقتصادية. وقد راعت هذه المشروعات الأبعاد الاجتماعية فى التوازن بين خصوصية المكون السيناوى، وفى إطار التركيبة الوطنية بشكل عام؛ بحيث تصبح سيناء قابلة لاستيعاب جميع المصريين، بعد أن كانت طاردة حتى لأبنائها.

المحاور الرئيسية لهذه الخطة، تتعلق بتحسين الربط البرى والبحرى والجوى بين سيناء والعمق المصرى، وتحسين الخدمات الأساسية والبنية التحتية فى مدن سيناء المختلفة، وتطوير القطاعات الاقتصادية واستغلال الموارد الموجودة فى سيناء، بما فى ذلك المقومات السياحية، بجانب التوسع فى تأسيس المدن والمجتمعات العمرانية الجديدة؛ لتوسيع رقعة الوجود السكانى فى سيناء.

وقد انتهت مصر من حفر سلسلة أنفاق قناة السويس أو التى تُعرف أيضًا بأنفاق سيناء الجديدة والبالغ عددها خمس أنفاق على مرحلتين، بلغت تكلفتها الإجمالية نحو 35 مليار جنيه. علاوة على ذلك، تم إنشاء سبع كبارى عائمة للعبور أعلى الممر الملاحى للقناة، بتكلفة 990 مليون جنيه، وزيادة حجم الطرق التى تربط أراضى سيناء بعضها البعض وتربطها مع كل أنحاء الجمهورية.

لم تقتصر محاور التنمية وربط سيناء على الربط الداخلى فقط، إنما شملت أيضًا الربط الدولى لسيناء لتسهيل حركة التجارة الدولية، وتعزيز سلاسل الإمداد والتوريد من وإلى مصر، وذلك من خلال ازدواج الممر الملاحى لقناة السويس الذى أسهم فى زيادة إيرادات القناة. هذا بخلاف تنمية 5 موانئ بحرية وجافة (شرق بورسعيد البحرى، العريش البحرى، نويبع البحرى، القنطرة شرق البرى، طابا البرى) بتكلفة 44 مليار جنيه، وتطوير وبناء 6 مطارات، بتكلفة 11 مليار جنيه، أخرها كان مطار سانت كاترين الذى تتكلف عمليات تطويره نحو 3.1 مليار جنيه.

وبطبيعة الحال كانت المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، من أهم الروافد التى توفر التنمية الاستثمارية والصناعية لشبه جزيرة سيناء، حيث تمتد هذه المنطقة داخل 5 محافظات (بورسعيد ـ الإسماعيلية ـ السويس ـ شمال سيناء ـ جنوب سيناء)، وتشمل 6 موانئ بحرية (ميناء شرق بورسعيد، ميناء غرب بورسعيد، ميناء العريش، ميناء العين السخنة، ميناء الطور، ميناء الأدبية)، كما تضم 4 مناطق صناعية (منطقة شرق بورسعيد ـ منطقة شرق الإسماعيلية ـ منطقة القنطرة غرب ـ منطقة العين السخنة)، وقد وصل إجمالى حجم الاستثمارات داخل هذه المنطقة لنحو 18 مليار دولار، وفرت 80 ألف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة، وقد بدأت العديد من المصانع الموجودة فى المناطق الصناعية السالف ذكرها، بالعمل والإنتاج؛ سواء بغرض خدمة السوق المحلى أو التصدير.

خلاصة القول، إن النطاق الشمالي الشرقي فى الحدود المصرية كان دومًا مسرحًا لأحداث وتحديات أمنية مهمة، وربما تفرض الظروف الحالية فى فلسطين المحتلة مزيدًا من التحديات فى هذا الصدد، لكن الأكيد أن تأمين مصر الكامل لنطاق الحدود فى هذا الاتجاه، لا يمكنها فقط من التعامل بشكل فعال مع هذه التحديات، بل أيضًا يسمح لها بلعب دور ايجابى حيال هذا التصعيد الخطير، سواء عبر جهود الوساطة أو عبر دعم الأشقاء فى غزة إغاثيًا، ولعل أبرز مثال على ذلك إعلان الهلال الأحمر المصري، حالة الطوارئ على مدار اليوم، استعدادًا لاستقبال الجرحى الفلسطينيين جراء الغارات الجوية الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة، فى حين بدأت قوافل المساعدات الطبية المصرية، فى التدفق على القطاع عبر معبر رفح، فى انتظار نجاح الجهود المصرية كما حدث فى مناسبات عدة سابقة، فى إيقاف القتال، وإنهاء حالة التصعيد الحالية على حدودها الشرقية.