«كما يموت البعير» قصة قصيرة للكاتب محمود حمدون

الكاتب محمود حمدون
الكاتب محمود حمدون

 رافقته في لحظات احتضاره, وقفت عند رأسه, غالبت دموعي وأنا ألقّنه الشهادتين, فنطقها نطقًا سليمًا, ثم تنهّد وقال: أكره الموت, لا أخفيك أنا على عكس الناس أجمعين, لا أتحرج من قول ذلك.

فقلت أواسيه وأمسح رأسه بيميني: لست وحدك من يكرهه, لكنه نهاية سنصل إليها, طريق سنذهب فيه حتمًا.

فنظر إليّ ,قال: أتصدق أن أموت هكذا كما يموت البعير؟, ثم مط شفتيه .

فقلت مداعبًا: البعير؟ لم تنس مهنتك كمهندس زراعي.

فردّ عليّ مزحتي, قال: أترغب أن أموت كما تموت الكلاب مثلا؟

قلت: معذرة, لا أقصد, لكن الموت هو الحقيقة الوحيدة ؟

عاد إلى سكراته,  تحشرج صدره, غرغر, نازع بعض الوقت, ثم رفع عينيه إليّ, غمغم: لا أطيق حرارة الجو, حبذا لو جاءت نهايتي في فصل الخريف أو في الشتاء.

لم أجد بدًّا من ملاطفته من جديد, قلت: عزرائيل لديه حساباته, لا تقلق

سألني: ما شكله؟ ما هيئته؟

-      من تقصد؟

قال: ملك الموت.

قلت: ستعرف عندما تراه, لم يعد أحد من هناك بعد رؤيته وأخبر القوم من قبل.

تهلل وجهه, همس بصوت مسموع: لكني سأفعل, سآتيك في نومك وـأحلامك, سأقص عليك كل شيء أراه.

آمنت أنه يمر بتلك اللحظة التي تسبق الوفاة, حيث يذهب العقل إلى لا رجعة, تسيطر الخيالات والرؤى الضبابية على المحتضر,  ويرى الراحلين من الأهل والأحباب, فربّت برفق على رأسه, انحنيت وقبّلت ما بين عينيه, خرجت من الغرفة تسبقني دموعي.

لقد عرفت " محسن غريب", قبل خمسين عامًا, أكبر منّي بسنوات كثيرة, لم يفارقه المرح أبدًا, كما لم يترك غزوة إلّا وشارك فيها بجهد وافر. أن ميدانه النسائي قد اتسع حتى شمل كما سمعت عواصم المحافظات ومراكزها وكثير من قراها .

انحدرت شاردًا في شوارع المدينة , أستدعي ذكريات مع العزيز, خضت على رغم مني في الحي التجاري بحواريه وأزقته, فوجدت زحامًا رهيبًا, نسوة من مختلف الأعمار, يتصارعن على محلات بيع  الملابس الحريمي, وبخاصة فساتين الحداد السوداء, كن يتقاتلن بشراسة للفوز  بواحد أو أكثر, يتنافسن لرفع السعر لأقصى حد ممكن على عكس غريزة النساء في خنق البائع حتى يحصلن على البضاعة بسعر زهيد يرضين عنه.

 سمعت إحداهن تقول بجرأة تخاطب أخريات: الفقيد المنتظر غالي عليّ, ليس أقل من ملابس سوداء حريرية أرتديها على روحه في ليلته القادمة, ثم بغنج أكملت: لطالما عشقني في اللون الأسود.

تركتهن, انحرفت في طريق آخر, أضرب كفَّا بكف, أقول: سيموت " غريب", كما يموت البعير أو الكلاب, لا أهمية هنا إلّا لقيمة الفناء. ثم لوّحت للعتمة حولي, قلت: غير أنه وعدني أن يحكي لي ما يراه هناك, فهو يفي دومًا بوعده, لم يخلفه من قبل معي.