المسيح فى الصعيد:«الأخبار» فى آخر محطة برحلة العائلة المقدسة بجنوب مصر

المسيح فى الصعيد :«الأخبار» فى آخر محطة برحلة العائلة المقدسة فى جنوب مصر
المسيح فى الصعيد :«الأخبار» فى آخر محطة برحلة العائلة المقدسة فى جنوب مصر

رحلتى هذه المرة مختلفة، ربما قد يكون السبب هو الانبهار بالشكل الجمالى للمكان أو اختلافه عن الأديرة والقرى التى زرتها فى الحلقات السابقة لتتبع خط سير العائلة المقدسة فى صعيد مصر.. الأمر أشبه برحلة استكشافية تزداد غموضا مع اقتراب الدير خاصة أن الطريق المؤدى إليه يقودك إلى أعلى وكأنك فى رحلة الى سانت كاترين.. بين أحضان مدينة أسيوط التى تعرف فى اللغة القبطية ب «إبسيديا» وتعنى مدينة الذئب لأن أهلها كانوا قديماً يعبدون ابن آوى الذى يشبهه الروم بالذئب، كانت دقات القلب تتسارع مع وتيرة الاقتراب من باب الدير الذى يقع على سفح الجبل وكان الجبل يحتضنه كابن صغير يشعر بالدفء بداخله ويشع نوره إلى العالم.. أخيرا وصلنا إلى سفح الجبل الغربى.. هنا عجز اللسان عن الكلام والجسد عن الحركة وتسمرت الأقدام فى لحظة تأملية للمشهد الذى ربما لن يتكرر مرة أخرى.

لا تستغرب عزيزى القارئ فأنت هنا فى دير العذراء جبل أسيوط دير درنكة الذى يقع على ارتفاع 100 متر من سطح الأرض ويبعد عن مدينة اسيوط حوالى 8 كيلو مترات ويوجد فى قرية درنكة وهو المحطة الأخيرة التى استقرت فيها العائلة المقدسة فى مصر قبل انطلاقها فى رحلة العودة الى أورشليم.

اقرأ ايضاً| السيسى: الأمم تُبنى بالإصلاح لا بالتشكيك وتتقدَّم بالعمـل والتضحيـة وليس بالكلام

يعتبر دير جبل درنكة من المعالم السياحية المهمة فى البلاد، يقصده الآلاف من الزائرين أجانب ومصريين مسلمين ومسيحيين على مدار العام ليتعرفوا على المكان الذى انتهت إليه مسيرة العائلة المقدسة ومنه بدأت رحلة العودة، بعد أن جاء الأمر ليوسف النجار فى حلم بعودته إلى فلسطين مرة أخرى، ويقول الأب بيشوى الراهب بالدير أن هذا المكان شهد تجلى السيدة العذراء مريم بصورة نورانية أكثر من مرة.

يقال إن مجىء العائلة المقدسة إلى جبل أسيوط كان فى شهر أغسطس وقت وقوع فيضانات مصر قديما وهو الشهر الذى يحل فيه صوم العذراء، ولهذا يقيم الدير احتفالاته الدينية سنويا ابتداء من يوم 7 أغسطس حتى 21 من كل عام.

ثمة استراحات تشاهدها على جانبى الطريق المؤدى إليه، حيث يقيم بها المتطوعون لمدة ١٥ يوما بهدف خدمة الزائرين فى فترة صوم العذراء، ويتوسط مدخل الدير أكبر تمثال برونزى للسيدة العذراء فى مصر، حيث يصل طوله إلى 9.15 أمتار، ووزنه إلى 11 طنا، وعرضه أربعة أمتار، وأطلق عليه الأهالى لقب «الملكة».

كشف الأب بيشوى الراهب بدير العذراء جبل اسيوط دير درنكة أن صاحب فكرة التمثال هو الأنبا يؤانس أسقف أسيوط، ولذلك قرر انشاء قاعدة خرسانية بارتفاع ٢٩ مترا تحمل على سطحها تمثالا ضخما للسيدة العذراء، وجاء تصميمها على شكل «الشورية»، وتعنى (المبخرة) وهى الأداة التى تستخدم فى البخور أثناء القداس الإلهى، وتضم القاعدة ٣ كنائس مساحة الأولى ٤٠٠ متر تعلوها كنيسة أخرى بمساحة ٢٠٥ أمتار ثم كنيسة ثالثة التى ترتكز فوقها قاعدة التمثال الأكبر فى مصر، وشارك فى تشييد التمثال أسرة مسلمة فى مسابك القاهرة.

دخلنا الدير وقت إقامة القداس على صوت الأجراس مع تزايد حشود الزائرين، استقبلنا الأب الراهب بيشوى بوجهه المبتسم ورحب بنا، استرحنا قليلا ثم تحركنا إلى مغارة العذراء التى مكثت فيها العذراء مريم وطفلها ويوسف النجار لمدة 3 اسابيع أو أكثر.

لحظات الإثارة والمتعة تزداد كلما اقتربنا من مغارة العذراء التى يقصدها كل الزائرين للدير، وعمرها يسبق ميلاد المسيح بنحو 2500 سنة. لا حديث يعلو عن هذه المغارة، لما تحمله من أسرار وكواليس تعج بها عن رحلة السيد المسيح.. اقتربنا أكثر منها هبطنا عدة درجات سلم، صادفنا زحاما من قبل الزائرين، ورغم ان المغارة من الحجر الجيرى إلا إنها مغطاة بالكامل باللون الأسود. سألت عن تفسير ذلك فأوضح الأب بيشوى أن المغارة تم حفرها بواسطة المصريين القدماء «الفراعنة» كمحجر فرعونى ، وظلت هكذا حتى مجئ العائلة المقدسة ، أما اللون الأسود فقد تكون من استخدام الرهبان للقناديل والشموع قديما ، وأضاف أنها منحوتة فى الجبل ويصل طولها إلى 160 مترا وعمقها 60 مترا، ويوجد بالدير 12 كنيسة لتستوعب أعداد الزائرين سنويا، ومن أقدمها كنيسة المغارة وهى من القرن الأول المسيحى، كما توجد كنائس العذراء، المعمودية، الميلاد ،الصليب والقيامة وغيرها.

وأضاف الأب بيشوى أن المغارة تحتوى على العديد من الغرف وبداخل كل غرفة يوجد نماذج ومجسمات تحاكى حياة أفراد العائلة المقدسة بداخلها، كما تضم كنيسة المغارة عددا من المخطوطات الأثرية التى تحكى تفاصيل قصة الرحلة.

شهد تطوير المغارة حالة من الجدل بين مؤيدى ورافضى تجديدها وهو الأمر الذى يحسمه الاب بيشوى مؤكدا أنها مازالت تحتفظ بطابعها الأثرى وان التطوير شمل فقط تركيب «البورسلين» للارضيات واضافة عدد من التكييفات لأننا كنا نعانى من شدة الحرارة بسبب زحام الزائرين والذى يصل عددهم الى 2 مليون مواطن خلال احتفالات ذكرى مكوث العائلة المقدسة بالمغارة، وقد كان الأنبا يؤانس أسقف أسيوط وتوابعها ورئيس الدير حريصا على احتفاظ المكان بطابعه الأثرى لهذا استعان بمستشارين فى عملية التطوير.

فى وسط المغارة يوجد مذبح للسيدة العذراء محاط بسور من الخشب المشغول، يلتف حوله مجموعة من الشباب والفتيات يرتلون الصلوات والتسابيح والترانيم التى تدوى من على سفح الجبل حيث تعانق هناك الأمنيات التى يتمناها الأقباط عنان السماء عبر مغارة عاشت فيها العائلة المقدسة، وأمام المذبح تستقر لوحة كبيرة كتب عليها « مبارك شعبى مصر».

قارئ الأفكار

دارت عيناى فى المكان بنظرات تفقدية شاهدت مزارا يقبل عليه العشرات من الأسر كلٌ يكتب امنيته على ورقة ويقوم بطيها ثم يتركها على سطح المزار، هنا قطع الأب بيشوى نظراتى وحكى لى عن هذه الأمنيات والأوراق المطوية قال: هذا المزار يوجد به مقبرة وضع بداخلها جثمان الأنبا ميخائيل أسقف أسيوط الراحل، و يتوافد عليه مئات المحبين للتبرك والدعاء، وزيارة الراحل الباقى فى قلوب المسيحيين والمسلمين لمواقفه النبيلة.

وعن سبب كتابة تلك الأمنيات قال الأب بيشوى إن الأنبا ميخائيل رجل مبارك يتمتع بروحانيات عالية، قام بتحديد موقع القبر الخاص به قبل وفاته ب 5 أعوام وارتبط اسمه بالعديد من الحكايات والمعجزات من أشهرها رواية تقول إن قداسة البابا شنودة الثالث ذهب إلى رحلة علاج بالخارج استمرت أكثر من أربعة أشهر متواصلة فى مستشفى بالولايات المتحدة الأمريكية وبعد أن اجتاز الجراحة التى أجريت له فى 2008، سأله أحد المقربين ﻋﻦ ﺳﺮ عدم زيارة الأنبا ميخائيل مطران أسيوط ﻟﻪ ﻓﻰ القاهرة ﺑﻌﺪ ﻋﻮدﺗﻪ ﻣﻦ أﻣﺮﻳﻜﺎ رغم زيارة كل اﻷﺳﺎﻗﻔﺔ والمطارنة ﻟﻪ؟

فأجاب البابا إن الأنبا ﻣﻴﺨﺎﺋﻴﻞ ﻫﻮ الوحيد الذى وقف ﺑﺠﺎﻧﺒﻪ أثناء إجراء العملية وحاول الطبيب إخراجه ﻣﻦ ﻏﺮﻓﺔ العمليات ﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ يستطع، ومن المعروف أن الأنبا ﻣﻴﺨﺎﺋﻴﻞ ﻟﻢ يزر أﻣﺮﻳﻜﺎ نهائيا طوال حياته، ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻟﻢ يغادر أسيوط ﻓﺘﺮة ﺳﻔﺮ اﻟﺒﺎﺑﺎ إﻟﻰ أﻣﺮيكا، ويقال أيضا أن صليب الأنبا ميخائيل كان يشع بالنور عندما يبارك شعبه، كما أنه كان يستطيع قراءة أفكار طالبى زيارته قبل أن يتحدثون إليه، حتى أصبح محبوبا من الجميع وسار الناس يتمنون مباركته لتحقيق أحلامهم وشفائهم من الأمراض، وفى وفاته عام 2014 حزن الجميع لرحيله بعد رئاسته للدير لمدة 63 عاما.. قطع الأطفال حديثنا بمجيئهم إلى الأب الراهب لينالوا البركة فى مشهد عفوى وتلقائى، بابتسامة بشوشة قام باحتضانهم، تجولنا فى المغارة، اتسم المكان بالهدوء والسكينة والطمأنينة، الجميع مشغولون بالحصول على البركة، فبينهم من يطلب الرزق والنجاح والإنجاب وآخرون يتمنون الزواج أو الشفاء من الأمراض.

الوقت كان ممتعا حقا فى هذا المكان الذى احتضن السيدة مريم وطفلها الرضيع 3 أسابيع كاملة، رؤية المغارة ومعايشة أجوائها الروحانية ذات الطبيعة الخاصة أصابتنى براحة نفسية.

ورغم وجود الدير بين أحضان الجبل فإن اقبال الزائرين عليه لا يتوقف من السادسة صباحاً حتى يغلق أبوابه فى السادسة مساء ويمتد إلى الحادية عشرة مساء أثناء الاحتفالات والمناسبات الدينية، لهذا لا تنقطع الصلوات عنه، بالاضافة إلى اقامة طقس سر التعميد يومياً حيث يفضل الأقباط تعميد أطفالهم فى مكان مبارك.

ترانيم جحد الشيطان

وصلنا إلى كنيسة المعمودية وهى مخصصة لإقامة طقوس العماد، وهى الحجرة الوحيدة التى احتفظت بلون أحجارها الجيرية الذى لم يتغير للأسود، ولذلك يقال انها كانت تستخدم لحفظ الغلال قديما. بمجرد الدخول إليها تجد ثلاثة أجران أمامها لوحة تتوسط الكنيسة كتب عليها بعض الكلمات التى تستخدم أثناء طقس تعميد الأطفال وتعرف ب»جحد الشيطان».

فى هذا المكان تقوم الأم بخلع ملابس الطفل ثم تحمله على يدها اليسرى وتنظر إلى الغرب وترفع يدها اليمنى وتردد وراء الأب الكاهن عبارات: «أجحدك أيها الشيطان وكل أعمالك النجسة، وكل جنودك الشريرة وكل شياطينك الرديئة وكل عبادتك المرذولة وكل حيلك الرديئة والمضلة».

تحركنا إلى كنيسة العذراء بالمنارة التى بناها المواطنون فى القرن الرابع عشر الميلادى، التى تزايد أعدادها ولم تعد المغارة تتسع لهم، وسقفوها بجريد النخيل ويقع جزء منها بالجبل، لذلك طلب الأنبا ميخائيل من مجموعة من المهندسين بناء منارة لهذه الكنيسة، وبعد فترة تهدمت بسبب السيول، فقاموا ببنائها من جديد، وشهدت آخر تجديد لها سنة ۱۹٥٥م، واحتفظ بتكوينها نفسه حتى الآن، ويوجد بداخلها مجسمات للسيد المسيح فى مرحلة معاناته.. ومنها إلى غرفة أخرى بالمغارة يقال ان العذراء وابنها كانا يقيمان فيها طوال فترة اختباءهما، ويقول الأب بيشوى إن العذراء ظهرت فى هذه الغرفة أكثر من مرة على هيئة حمامة أو صورة نورانية، ويشير إلى أنه شاهد ذلك بنفسه فى إحدى المرات، ويرى تفاصيل القصة: فى 19 أغسطس 1999 طلب منى الأنبا ميخائيل جمع الحمام الذى جلبه الزائرون معهم بمدخل الدير. فى السادسة مساء بدأ الشمامسة ارتداء ملابسهم استعدادا للقيام بدورة موكب العذراء، وفوجئت بظهورها فى هيئة حمامة فى هذه الغرفة، وحينها فقط أدركت السبب الذى كان وراء طلب رئيس الدير منع دخول الحمام.. لقد فعل ذلك لكى نتمكن من رؤية السيدة العذراء بالمغارة، وتفادى التشكيك فى ظهورها بالدير وقت الاحتفالات.

خرجنا من المغارة ذات اللون الأسود، وذهبنا للاستراحة قليلا وتناولنا أكوابا من القهوة ثم تحركنا إلى أعلى الجبل، حيث كان يعيش القديس يوحنا الأسيوطى صاحب المعجزات واشهر رهبان دير درنكة، استخدمنا مصعدا كهربائيا فى البداية ومنها إلى طريق طويل على سفح الجبل يصعد إلى أعلى نقطة فيه، خلال الصعود، كان الأب بيشوى يسترجع ذكرياته عن بداية المسيحية وانتشار الأديرة والرهبان فى هذه المنطقة قائلا: كان المسيحيون الأوائل يهربون إلى هذا المكان من بطش الحكام، ولما بدأت الرهبنة فى القرن الرابع الميلادى أقيمت بهذه المنطقة أديرة كثيرة، ومن أشهر الذين عاشوا فى هذه المنطقة كان القديس الراهب يوحنا الأسيوطى، الذى ولد بمدينة أسيوط عام 304 م، ولما بلغ 25 عاماً توجه إلى وادى النطرون للرهبنة وقضى هناك 5 سنوات.

مغارة على سطح الجبل

وصلنا إلى المغارة أعلى الجبل وبرغم حرارة الجو والشمس الحارقة، فإن الجو داخل المغارة مختلف تماما، أخذت نفسا عميقا وجلسنا للاستراحة فى مقاعد المصلين، خلال تلك اللحظات تجولت بنظرات عابرة فى المكان لمشاهدة هذه المغارة التى عاش فيها القديس يوحنا الأسيوطى بعد أن عاد إلى أسيوط لتأسيس رهبنة فى بريتها، وحفر لنفسه هذه مغارة التى تبعد حوالى ٦٥٠ متراً عن المغارة التى أقامت بها العائلة المقدسة، ولما بلغ الأربعين من عمره عاش حياة الوحدة ولم يسمح لأحد بدخول قلايته، وكان يطل على الزائرين من طاقة صغيرة، وتبلغ مساحة المغارة ١٤م و ۱۳۰ م.

بدأ الأب بيشوى فى الحديث قائلا عندما سكنها القديس يوحنا الأسيوطى حفر له ثلاثة أجزاء على مستوى المغارة بحرى و قبلى والجزء الثالث فى بالسقف، حيث قام بحفر فتحتين إحداهما يدخل منها، والأخرى تطل على الوادى، وخصص فى هذا الجزء مكانا للنوم وآخر يضع فيه الكتاب المقدس، وصنع فى الجانب الآخر من العمود الحجرى عدة درجات يصل بها إلى مقعد تحت سقف المغارة بحوالى متر ونصف وهذا المقعد كان يستخدمه أثناء الحديث مع زائريه من خلال الطاقة، وله مقولة تزين جميع صوره بالدير كتب عليها : «الكلام الهادئ يبطل الغضب، والهروب من الغضب هو واحة السلام»، ورحل عام ٣٩٤م بمغارته المحفورة بالجبل عن عمر 90 عاماً، ولا تزال باقية حتى الآن.

حكايات ومعجزات كثيرة سمعناها داخل المغارة تحكى لنا كيف عاش السيد المسيح حياته كطفل بين أحضان جبل درنكة حتى انطلاقه فى رحلة العودة لأورشليم. وبذلك أكون اختتمت رحلتى لتتبع خط سير العائلة المقدسة بصعيد مصر.