حديث الأسبوع

خلطة السياسة والقضاء فى بلاد الحرية والمساواة والأخوة

عبدالله البقالي
عبدالله البقالي

رفض مجلس الدولة فى فرنسا قبل أيام قليلة من اليوم، طلب الاستئناف الذى تقدمت به أمامه مؤسستان تعليميتان فرنسيتان ونقابة فرنسية، ضد حكم قضائى كان قد صدر عن القضاء الفرنسي، يقضى بمنع ارتداء العباءة داخل المؤسسات التعليمية فى فرنسا، وأقر مجلس الدولة الفرنسى بقانونية القرار. وكان مثيرًا حقًا أن حصر هذا المجلس الذى يعتبر أعلى محكمة إدارية فى فرنسا تعليل وتحثيث حكمه النهائى باعتبار العباءة «جزءًا من منطق التأكيد الدينى».

من الصعب مجادلة قضاة القضاء الإدارى الفرنسى فى مدى قانونية هذا القرار، الذى يأخذ طابع وصفة الحكم القضائى بالنظر إلى الجهة المختصة الصادر عنها، ولأنه من الصعب الحكم على قناعة القضاة فى قضية تخضع لتقديراتهم الشخصية حسب ما راج أمامهم من وقائع متضمنة فى محاضر وفى مذكرات، لكن ذلك لا يلغى حتمية إنجاز قراءة لهذا القرار  ووضعه فى السياق السياسى والحقوقى العام.

الذى نعلمه أن فرنسا بلد علمانى يضمن حرية الشخص فى الاعتقاد بدين معين من عدمه، وهى جمهورية شعار «حرية، مساواة، أخوة»، وهى أيضًا بلد يقدس الليبرالية التى لا يقتصر مفهومها على المجال الاقتصادى والتجارى، بل الليبرالية فى مفهومها الشامل الحقيقى تعنى حرية السوق وحرية الفرد أيضًا وضمان حقوق الإنسان. وإذا كان من المقبول من حيث المنهجية، أن تصدر الحكومة الفرنسية قرارات تسعى وتخطط من خلالها إلى الحد من حرية الفرد والجماعات، فيما يتعلق بارتداء الرموز الدينية أو غير ذلك، فإن من غير المفهوم أن يحرص القضاء الفرنسى بجميع مستوياته على مجاراة الحكومة فى هذه القرارات المتعددة، بالتأكيد دومًا على أنها قانونية. والحال أن القضاء وجد، ليس فقط لتطبيق القانون، ولكن أيضًا لضمان العدل والعدالة  ليشعر الناس بالاطمئنان على أحوالهم وعلى مصالحهم وعلى مصائرهم.

وفى هذه الحالة فإن القضاء الفرنسى ظل مخلصا لمجاراته لقرارات إدارية تتدخل فى الخصوصيات، وفى حرية الفرد فى اختيار هندامه وشكله. صحيح قد يتعلق الأمر فى بعض الأحيان باستثناءات تكون محددة ومسنودة بقرارات معينة، من قبيل اشتراطه ارتداء الزى الموحد فى بعض مواقع الشغل أو داخل مؤسسات تعليمية أو صحية أو سجنية.

وهى قرارات بيداغوجية تهدف إلى القضاء على الشعور بالفوارق بين الأفراد داخل هذه المواقع والمؤسسات. وغير هذا من الصعب القبول بالتضييق على حرية الأشخاص فى اختيار اللباس الذى يقدرونه مناسبًا ولائقًا لهم، ولأنه فى غياب قواعد قانونية محددة وواضحة فإن الأمر يبقى خاضعًا للتقديرات الشخصية المتفاوتة والمستندة إلى القناعات الشخصية وإلى الأمزجة. وهكذا تصبح مناقشة العرى مثلا أمرًا مباحًا ومشروعًا فى فرنسا وفى غيرها من دول العالم.

وقد ينتقل الأمر فى المستقبل، موازاة مع تنامى مظاهر وسلوكات التمييز والعنصرية إلى منع ولوج الفضاءات العامة باللحى والشوارب. لأن التقديرات الشخصية والأمزجة لا تستهدف الشخص فى حد ذاته بل بصفته حاملًا لهوية معينة ومعتقدًا لدين معين، وبالتالى فإن التضييق على الحرية الفردية فى مثل هذه الحالات يكون فيه الشخص مجرد وسيلة وأداة بينما المقصود يتمثل فى تحقيق غايات وأهداف ترتبط بالقيم وبالمعتقدات وبالتالى بالحضارات. 

فرنسا، الثورة التى ساهمت فى تغيير مسار الإنسانية بما راكمته الحياة البشرية من مظاهر تطور مبهر، تعود اليوم إلى أزمنة محاكم التفتيش والتضييق على الحريات بقفازات قضائية.

والواضح أن القضية أكبر من مجرد مجاراة قضائية لقرارات إدارية فى بلد ما تختلط فيه السياسة بالقانون وبالقضاء، بل فى حالة التجربة الفرنسية، تبدو الأمور أكثر تعقيداً، مادام الأمر يتعلق بمجال جد محدد، وجهة وحيدة مستهدفة بما يجرى ويحدث. إذ ثمة خيط رفيع يربط بين رزمة القرارات الإدارية الصادرة عن السلطة التنفيذية هناك وركام الأحكام القضائية المسترسلة والملاحقة للقرارات الإدارية الرسمية بالتأييد والمساندة، وبإكسابها الطابع القانونى الذى افتقدته. ويبدو أنه بوجه عام يهم قضايا كثيرة ربطت بين السلطات الإدارية والقضائية فى مجالات الدين والإعلام والاستخبارات، وهى المجالات التى تتميز بحساسية كبيرة جدا وبأولوية مطلقة فى السياسة الفرنسية الخارجية.

وهكذا كلما تعلق الأمر بالحجاب مثلا، أو بشكايات خارجية من تجاوزات أخلاقية فظيعة من الإعلام الفرنسى فى حق شخصيات ومؤسسات دستورية عربية أو إسلامية، أو بادعاءات تجسس، فإن جميع الأحكام القضائية الصادرة عن القضاء الفرنسى فى مثل هذه القضايا التى عرضت عليه كانت منسجمة ومتناسقة مع القرارات الإدارية التى اتخذتها السلطات الحكومية هناك، وبالتالى فإن الأمر يتجاوز مجرد قضية واحدة معزولة عن سياق عام معين، بل إنها تؤكد على وجود ترابط قوى ومتين بين جهات قضائية وأخرى إدارية هناك تضع هذا القرار الصادر مؤخرا عن مجلس الدولة الفرنسى فى سياق عام معين ينزع عنه الهوية القضائية الصرفة.  

القضية تطرح بإلحاح قوى إشكالية استقلال القضاء، هذه المرة ليس فى بلد يحكمه نظام سياسى مغلق، بل ببلد يحكمه شعار «حرية، مساواة، أخوة».
> نقيب الصحافيين المغاربة